الأب جورج إلياس باليكي [1]*
أسّس المطران جرمانوس معقّد (1852-1912)، الراهب المخلّصيّ أوّلاً (1868-1877)، والنائب البطريركيّ على أبرشيّة أورشليم/ القدس (1880-1886)، فمطران بعلبك (1886-1894)، ثمّ مطران اللاذقيّة شرفًا (بدءًا من 1894)، أسّس جمعيّة المرسلين البولسيّين بحريصا (لبنان)، عام 1903. وما عتّم، لدعم الرسالة، أن أنشأ، عام 1910، المطبعة البولسيّة ومجلّة «المسرّة». فصدرت بانتظام حتى انحجابها موقّتًا أثناء الحرب العالميّة (1914-1918). وما عادت إلى الصدور إلاّ في 12/12/1919.
ومنذ عام 1920، استرعى تراثُ الكنيسة السريانيّة العريقُ في القدَم انتباه محرّري المجلّة، فعرَضوا للقرّاء على صفحاتها مواضيعَ مهمّةً تناولت اللّغة السريانيّة، والأدب السريانيّ وعلاقته باللغة اليونانيّة وآدابها؛ والتبادل الثقافيّ بين الشرق والغرب؛ واعتراف السلطة المحليّة بقيَم التراث السريانيّ، وما أقيم له من مؤتمرات دوليّة رفيعة الشأن؛ ومكانة الطقس السريانيّ، بألحانه وليتورجيّاه وكتبه، في المشرق العربيّ؛ ودور رجالات الكنيسة السريانيّة، في الشرق خصوصاً وفي الكنيسة الجامعة الكاثوليكيّة عامّة؛ ودور السريان في نقل الحضارات، منذ العصر الأمويّ؛ وإسهامهم في تفسير الكثير من آيات القرآن الكريم، بواسطة اللغة السريانيّة، ومن أهمّها تفسير الفواتح القرآنيّة التي استعصت على جميع المفسّرين وما وجدت لها حلاًّ إلاّ بالعودة إلى اللغة السريانيّة.
أوّلاً: اللغة
اللغة الأصيلة هي اللغة الآراميّة التي تعود جذورها إلى الألف الأول قبل الميلاد، وقد نعتها الإغريق منذ ما قبل الميلاد بالسُّريانيّة، نسبةً إلى مملكة آشور في بلاد ما بين النهرين وبلاد سورية الطبيعيّة. يُثبت ذلك العثور على نقوش آراميّة تعود إلى القرن التاسع ق.م. في ما بعد ساعدت الفتوحات الآشوريّة والفارسيّة على انتشار اللغة الآراميّة حتى أصبحت لغة الإدارة والتجارة في الشرق القديم، وظلّت لغة بلاد فلسطين حتى عهد المسيح.
وعُرف الآراميّون الذين اعتنقوا الدين المسيحيّ بالسُّريان تمييزًا لهم عن أبناءِ أمّتهم الوثنيّين، بحيث أضحى لقبُ الآراميّ مرادفًا للوثنيّ.
«واللغة السريانيّة مزدهرةٌ كلَّ الازدهار، أدبًا وعلمًا وكنسيًّا، صرفًا ونحوًا، لدى الطوائف السريانيّة الحاليّة: الموارنة والسريان الأرثوذكس والكاثوليك… وهي تدرَّسُ على الصعيدَين الدينيّ والعلمانيّ. وأكثر شبّان هذه الطوائف حتى الذين نالوا الشهادات العالية العالميّة، كالطبّ والهندسة والحقوق، يتقنون اللغة السريانيّة الآراميّة…»[2].
«… أمّا اللغة الآراميّة التي نطق بها السيّد المسيح والتي كُتب بها بعضُ أسفار التوراة، والإنجيل بحسب القدّيس متى، فلا يزال يتكلّم بها حتى اليوم –وإن كان مع بعض التشويه لما تداخلها من ألفاظ عربيّة– أهالي قرىً من بلاد القلمون بسورية هي معلولا وبخعة وجبعادين»[3].
1 – 1: اللغة السريانيّة والطقس الملكيّ البيزنطيّ
مع الانتشار المذكور أعلاه، عرفت اللغة السريانيّة انتشارًا آخر، إذ استخدمتها الكنيسة الملكيّة البيزنطيّة الأنطاكيّة في طقوسها. فإلى جانب اللغة اليونانيّة السائدة في القرون الأولى للمسيحيّة، وقبل تمكّن اللغة العربيّة بدأ دخول العرب بلادَ الشام في القرن السابع، ومنذ الخلافة الأمويّة (41هـ/661م-133هـ/750م) إلى القرن الثامن عشر، نقلت بطريركيّة أنطاكية الملكيّة جميعَ كتبها الطقسيّة إلى اللغة السريانيّة، لأنّ أهل القرى والجبال كانوا أكثرَ ما يتكلّمون بالسريانيّة ويصلّون بها، إلى حينِ تعلّموا العربيّة وأتقنوها فجمعوا حينئذٍ بين اللغتين إلى أن سادت اللغة العربيّة نهائيًّا. يشهد على ذلك العديدُ من المخطوطات الطقسيّة الملكيّة السريانيّة المحفوظة في دير الشرفة وروما وباريس ولندن وبرلين وغيرها من المكتبات الأوروبيّة، نقلها نسّاخٌ عديدون حفظ التاريخ أسماءَهم في ذيل المخطوطات.
ولنا في كتابات المستشرقين والحجّاج الأوروبيّين إلى الشرق من أمثال نيبوهر (Neibuhr) [1762]، وفولناي (Volney) [1785]، وبرَاون (Browne) [1797]… ما يؤكّد ذلك[4].
1 – 2: مكانة اللغة السريانيّة والاعتراف لأهلها بحقوقهم الثقافيّة
في 22 من أبريل (نيسان) 1972، صدر عن مجلس قيادة الثورة ببغداد قرارٌ يعترف للمسيحيّين العراقيّين من ذوي اللغة السريانيّة (الآشوريّين والكلدان والسريان) بحقوقهم الثقافيّة، ولو ببعض القيود: أي إنّ تدريس اللغة السريانيّة بات مسموحًا به في المدارس الابتدائيّة حيث أكثر الطلاّب من أهل هذه اللغة؛ وكذلك في المدارس الثانويّة، بشرط الحفاظ على المكان الأول للغة العربيّة؛ أمّا في جامعة بغداد فتدرّس كلغة قديمة.
لا جرَم أن مثلَ هذا الإجراء بشيرُ انفتاح وبنيان، علاوةً على كونه حقًّا لأهل هذه اللغة الحريصين عليها منذ آلاف السنين ويتكلّمونها. وليس بكثير عليها، فيما نعرف ما لها ولأهلها من فضلٍ أساسيّ، في عهد بغداد العبّاسيّ، بما نقلوه إلى العربيّة من تراث الثقافة الإغريقيّة. مع العلم أنهم، في تلك الرقعة، أهلُها الأصيلون لكونهم أعقابَ شعوبها الأولين.
ويوم الجمعة، 29 من أبريل (نيسان)، اجتاحت الطوائفَ السريانيّةَ اللسان فرحةٌ عارمة عبّروا عنها بمسيرة جماهيريّة ضخمة سالت بها شوارعُ بغداد، توجّهت إلى وزارة الداخليّة حث حيّاهم الفريق سعدون غيدان، عضو مجلس قيادة الثورة ووزير الداخليّة، قال: «أيها الإخوة المواطنون، يا أبناء العراق المناضل، يا ورثةَ الحضارات العريقة، أحيّيكم.
يا أبناءَ العراق، ويا أحفادَ سنحاريب وسرجون وأشوربانيبال ونبوخذنصّر، إنّ هذه الأسماء التي تلمع في تاريخكم تشكّل، مع أسماءِ الأبطال والمفكّرين الذين صنعوا ماضيَ هذا البلد، رمزًا للبطولة والحكمة والقيَم الحضاريّة التي كانت رافدًا مهمًّا من روافد الحضارة العربيّة. فالقوميّة العربيّة لا تستطيع أن تهمل التراث الثقافيّ السريانيّ الذي كان، يومًا ما، جسرًا حضاريًّا بين الأمة العربيّة وبين الحضارات في الماضي…»[5].
ثانيًا: دور السريان في نقل الحضارات والآداب الإغريقيّة
كانت اللغة اليونانيّة، في أوائل النصرانيّة، لغة الطبقة الأولى من البشر، كالملوك والولاة والوزراء والقضاة، بل كانت لغة الكتَبة والآباء والفلاسفة والأدباء. أمّا اللغة السريانيّة فكانت لغة العامّة ولا سيّما في المدن الثانويّة وجميع القرى. فتأتّى من ذلك أنّ أئمّة السريان كلِفوا منذ قديم الزمان بتعلّم اللغة اليونانيّة، وخاضوا في بحار تصانيف كتّابها، ونقلوا إلى لغتهم شيئًا كثيرًا منها، بل جعلوا بينها وبين لغتهم نسبةً شديدةً من حيث أساليب الكلام والاصطلاحات. وظلَّ طلَبة العلم يزاولون اليونانيّة، إلى القرن الثالث عشر، مزاولتهم لغتهم السريانيّة.
بناءً عليه، فإنّ السريان نقلوا عن الإغريق الكتاب المقدّس وشرحَه، وتلقّنوا منهم الفلسفة والمنطق والفصاحة والشعر والطبّ والتاريخ والقوانين والفلك والكيمياءَ والفِراسة والجغرافيا والنحوَ والحساب وسائرَ العلوم الرياضيّة ونقلوها إلى السريانيّة، وفي ما بعد إلى العربيّة. واهتمّوا أيضًا بنقل الكثير من الكتب المنحولة وتصانيف الآباء اليونانيّين الدينيّة وسيَر الآباءِ القدّيسين والشهداء. حتى إلياذة هوميروس نقلها إلى السريانيّة تاوفيل بن توما الرهاويّ المنجّم (? 785)، بغاية ما تكون الفصاحة.
ومن جملة ما نقل الكتبة السريان عن اليونانيّة قوانين المجامع المسكونيّة والمجامع الإقليميّة، وقوانين مدنيّة وأدبيّة كقوانين ملوك بيزنطة وغيرها، ومنها ما يرتقي عهده إلى القرنين الخامس والسادس. ومن هذه القوانين ما فُقد أصله اليونانيّ وحُفظ النقلُ السريانيّ.
وما القولُ عن الكتب الطبيّة والطبيعيّات وعلم الزراعة والفلاحة وتأثيرات القمر وحركات الشمس والأبراج والحساب؟.
وماذا نقول أيضًا عن كلَف السريان بالطقس اليونانيّ فنقلوا منه الكثير وأدخلوه في طقسهم، ومنه المعانيث، ومعناها أغانٍ وترانيم أي الطروباريّات؛ والمَوْرْبات، أي التعظيمات؛ والشوباحات، وهي على ثماني نغمات تُنشد عند توزيع الأسرار على المؤمنين؛ والكاثسمات بلفظها اليونانيّ، وتعني الجلسات؛ والقوقليونات ومعناها آية من المزامير تتخلّلها لفظة هللويا؛ والقوانين التسعة؛ وقانون التوبة الكبير لمؤلّفه القدّيس أندراوس الكريتيّ وغيرُها الكثير[6].
2 – 1: كما في الأمس كذلك اليوم
مثلما اشتغل علماءُ الموارنة في نقل مخطوطاتٍ شرقيّة إلى مكتبات أوروبا، ولا سيّما إلى روما وباريس، هكذا أتحف أئّمة السريان تلك المكتبات بطائفة من المخطوطات جليلةٍ وثمينة.
وأقدَم من رواه التاريخ من هذا القبيل هو الجاثليق يهبَ آلاها الثالث (1281-1317) الذي سيّر إلى الحبر الرومانيّ كتبًا ثمينةً وهدايا نفيسة وتحفًا لائقة، وذلك على يد العلاّمة السرياني صوما الشهير.
ولما ارتحل البطريرك إغناطيوس نعمة الله الأوّل (1557-1590) إلى روما على إثر تنزّله عن السدّة البطريركيّة، عام 1576، حمل معه طائفة عن المخطوطات القديمة، ثمّ سعى لاستحضار غيرها من بلاد المشرق، وأهدى كلَّ ما اجتمع لديه من مخطوطات إلى المكتبة الفاتيكانيّة وإلى مكتبة فلورنسا.
سنة 1583، نفذ البابا غريغوريوس الثالث عشر إلى بلاد المشرق قاصدًا رسوليًّا خبيرًا باللغة العربيّة يُسمّى ليونرد هابيل. وهذا، لدى وصوله إلى حلب، فاوض أحبار الملّة السريانيّة وأعيانها، وحثّهم على إرسال شبّان إلى روما للدراسة، وعلى انتقاء أفضل ما عندهم من كتبٍ علميّة وطقسيّة لطبعها وتعميم فوائدها، فجمعوا له العديد من المخطوطات وعاد بها إلى روما.
وأهدى السريانُ المكتبة الفاتيكانيّة، في القرن الثامن عشر، مجموعة من المخطوطات والمطبوعات المحفوظة في دير لهم بروما على أكمة إسكولينو. وارتحل أنطون طرّازي المقدسيّ (1789-1855) إلى روما، عام 1829، وكان ذا اطلاع واسع في العلوم المشرقيّة وضليعًا في اللغات العربيّة والسريانيّة والإيطاليّة، فأوكل إليه البابا بيّوس الثامن بعض الأشغال في فرع المخطوطات بالمكتبة الفاتيكانيّة، فصرّح بمزايا كلّ منها ورتّبها في أمكنتها ترتيبًا علميًّا. ومن بعده أتحف حفيدُه الفيكونت فيليب طرّازي المكتبة بطائفة من المخطوطات النفيسة.
وفي 13 يونيو (حزيران) 1869، ارتحل الخورفسقفس يوسف داود الموصليّ إلى روما ونقل معه صناديق عديدة مشحونة بالمخطوطات وأودعها مكتبة نشر الإيمان. ومن دير الشرفة بلبنان، نقل الأب أوغسطين شاسكا الذي تعهّد مدرسة الشرفة البطريركيّة ومكتبتها، كتبًا نفيسة قديمة يرتقي عهد بعضها إلى القرنين الحادي عشر والرابع عشر.
وأغلى وأثمن ما قُدّم إلى المكتبة الفاتيكانيّة، هديّةُ البطريرك إغناطيوس جبرائيل الأوّل تبّوني (1879-1968) الذي أصبح كردينالاً، عام 1935، فأهدى البابا بيوس الحادي عشر (1922-1939) أغلى ما كان في خزانته الخاصّة من مخطوطات قديمة، ثمّ مرّة ثانية طائفةً معتبرةً من المخطوطات السريانيّة والعربيّة والفارسيّة والتركيّة يناهز عددُها المئة وخمسة عشَر مخطوطًا، منها كتبٌ منسوخة على رقّ الغزال يرتقي عهدها إلى القرن العاشر.
واقتفى آثارَ من سبق من مشاهير السريان في إهداء المكتبة الفاتيكانيّة السيّد قورلّس جرجس دلّال، متروبوليت الموصل الذي أتحفها، عام 1938، بعددٍ من نفائس المخطوطات ونوادرها، نذكر منها: كتاب «الذيذسكليّا»، أي تعليم الرسل، مكتوبًا على رقّ الغزال ويرتقي عهده إلى القرن الثامن – إنجيل ضخم كُتب في القرن الثالثَ عشَر، يبلغ طولُه (60) سم، وهو مزدانٌ بصوَر مستبدَعة ملوّنة يزيد عددها على الخمسين لوحة. وما يلفت الأبصار أن جميع فصول الأناجيل التي تُقرأ في الأعياد الممتازة مدوّنة بحروف ذهبيّة وملوّنة.
ومن الهدايا إلى البابا بيّوس الحادي عشر أيضًا، إنجيلٌ ثمينٌ مكتوبٌ على رقّ الغزال، قدّمه له، عام 1929، السيّد يوسف عمّانوئيل الثاني بطريرك بابل الكلدانيّ[7].
وهكذا، على مدى القرون، أسهم السريان في نقل العلم والحضارة والثقافة، وبإهداءِ قسم ممّا اختزنوه إلى مكتبات الغرب.
ثالثًا: مؤتمرات عن التراث السريانيّ
كان لا بدَّ أن يتفتّح العالمُ على غنى التراث السريانيّ، على إثر النهضة التي أطلقتها الدولة العراقيّة، والاعتراف بحقوق السريان، كما سبق وأوردنا أعلاه.
3 – 1: مهرجانٌ في العراق
فمن 4 إلى 7 من فبراير (شباط) 1974، أقام مجمع اللغة السريانيّة في العراق مهرجانًا دراسيًّا لمار إفرام السريانيّ (306-373) والطبيب النصرانيّ والشمّاس النسطوريّ حُنين بن إسحق (808-873) وذلك في المئويّة السادسة عشرة لوفاة الأوّل والمئويّة الحادية عشرة لوفاة الثاني. فقُدّمت بحوثٌ وجرى النقاش حولها، على يد محاضرين من بلدان مختلفة من الشرق والغرب. وقد تضمّنت مقرّرات المهرجان توثيقَ الاتصال بين المفكرين في الوطن العربيّ وخارجَه، تحقيقًا للتلاحم الفكريّ بين الثقافات التراثيّة القديمة والمعاصرة، ونقلَ نفائس التراث السريانيّ إلى العربيّة بطريقة علميّة سهلة المنال، وتعزيز اتصالات مجمع اللغة السريانيّة بالمجامع العلميّة والثقافيّة الأخرى، بغية تبادل الخبرات والبحوث والفهارس، وبعْثِ منهجٍ علميٍّ معاصر في دراسة التراث وتقييمه[8].
3 – 2: مؤتمرات التراث السريانيّ في لبنان
بعد العراق، عُقدت في لبنان مؤتمرات دوليّة قيّمة، درس الأوّل منها (مايو/ أيار 1993) التراث السريانيّ في لمحة تاريخيّة، وفي خصوصيّات ليتورجيّة، وفي نظرة مستقبليّة؛ والثاني (مايو/ أيار 1994) فرادة القدّاس السريانيّ، وتقاطعه مع قدّاس الكنائس الشرقيّة الأخرى؛ والثالث (27-29/4/1995) سرّ التلمذة المسيحيّة، المعموديّة والتثبيت والإفخارستيّا، الأسرار الثلاثة في سرّ واحد، التي تشكّل المدخل الرسميّ والحيويّ إلى المسيحيّة[9].
ودار المؤتمر الرابع حول التوبة أمسِ واليوم. وكان في محطّات ثلاث: عالم بلاد الرافدين وفينيقية واليونان؛ مع التيّارات اليهوديّة والإسلاميّة؛ ودراسات عن أفراهاط ويعقوب السروجيّ وإفرام السريانيّ وإسحق النينويّ وابن العبريّ وصولاً إلى يحيى بن جرير وعبدالله الطيّب ابن الطيّب والراهبة هنديّة. وتوقّفت المحطة الثالثة عند التوبة اليوم.
وانعقد مؤتمر التراث السريانيّ الخامس (من 2 إلى 5/4/1997)، وكان موضوعه: الترهّب في التراث السريانيّ في القرون المسيحيّة الأولى. وعنوانه «يحييديوتا»، أي الحياة المتوحّدة، على مثال الابن الوحيد، من القرن الثاني حتى مطلع القرن السابع. وتوزّعت الدراسات لأئمة المحاضرين على اثنتي عشرة جلسة عالجت الموضوع في مختلف جوانبه[10].
مؤتمر التراث السرياني التاسع الذي أعدّه «مركز الدراسات والأبحاث المشرقية – لبنان»، انعقد بدمشق، في مكتبة الأسد، من 13 إلى 15 أبريل (نيسان) 2004، وكان عنوانه: السريان نَقلَة حضارات، خبرة بلاد الشام في العصر الأمويّ. وكان أن خرج المؤتمر للمرّة الأولى من محيط الدير أو الطائفة كي يلتقي العالم الرسميَّ العربيّ، كما كان السريان قد التقوا سابقًا، بحضارتهم، مع الأمويّين الآتين من الجزيرة العربيّة فجعلوا من دمشق عاصمةً لهم، وقد امتدَّ حكمهم فيها، من عام 660 حتى 750. فوجد هؤلاءِ، في هذا العالم الساميّ المتحضّر، مَن نقَل إليهم كلّ ما كانت الإمبراطوريّة الفارسيّة والإمبراطوريّة البيزنطيّة وبلاد الإغريق قد توصلت إليه.
في إحدى عشرة جلسة، توزّعت محاورها على التاريخ والفلسفة، وعلى العلوم والموسيقى، واللاهوت والحياة الروحانيّة.. تعرّف الحاضرون إلى دور السريان ورثة الثقافات الآراميّة والبابليّة والآشوريّة، ونقَلَة الحضارات اليونانيّة والفارسيّة والهنديّة، من أجل بناء الحضارة العربيّة.
واكتشف الحاضرون من هم السريان، وما هو مركزهم في العالم العربيّ. لم يكن السريان مجرّدَ صلة وصلٍ، بل كانت لهم حضارتُهم العريقة في القدَم. أخذوا عن الإغريق، لكنهم طوّروا ما أخذوه قبل أن ينقلوه في حلّة جديدة إلى العالم العربيّ.
توقف العلماء سابقًا عند التراث اليونانيّ ولم يتعرّفوا على التراث السريانيّ إلا بعد الانطلاقة التي تحدّثنا عنها، فخرج التراث من المخطوطات إلى العلَن، فثبتت مكانته وتبيّن غناه، وعمَّ الغربَ والشرق معًا[11].
رابعًا: وجوهٌ من التراث السريانيّ
ذكرت مؤتمرات التراث السريانيّ التي تحدّثنا عنها العديدَ من المواضيع التي عولجت والوجوهَ الكثيرة التي لمعت في طيّات التاريخ أو الأدبِ السريانيّ أو التي صنعت التاريخ والأدب. فنقتصر منها على ما ورد في صفحات «المسرّة»:
4 – 1: وجه العذراءِ مريم عند مار إفرام السريانيّ[12]
أُلقيت هذه المحاضرة القيّمة، في أوديتوريوم «بيت عنيا» -مزار سيّدة لبنان– حريصا، في 25 أبريل (نيسان) 2009، أمام جمهور غفير من المطارنة والكهنة والرهبان والراهبات والإكليريكيّين والمثقّفين.
وجه العذراء مريم، كما تغنّى به مار إفرام ساطعٌ بالمعاني اللاهوتيّة والروحيّة، وقد جمع ملامحه من أجواء الكتاب المقدّس بعهديه، القديم والجديد. وتوزّع في المحاضرة على خمس لوحات: 1- مريم ونساء العهدين القديم والجديد. 2- بتوليّة مريم. 3- أمومة مريم. 4- أمُّ يسوع وأمُّ يوحنا الحبيب 5- مناغيات مريم لابنها وربّها.
في تلك الصفحات، يرافق القارئُ مار إفرام السريانيّ، بروحانيّته العميقة، وشاعريّته الفيّاضة، متأملاً بابن الله ووالدته، ويُسحَر ببلاغته ويزداد إيمانًا بسرّ ابن الله المتجسّد وجمالات أمّه.
4 – 2: بولس الرسول في التراث السريانيّ[13]
منذ القديم عرف التراثُ السريانيُّ نصوص رسائل بولسَ الرسول كما عرف نصوص الأناجيل، واستخدمها وفسّرها، ونقل ما صدَر منها عند اليونان، فأصبحت إرثًا سريانيًّا، شأنُها شأنُ ما كتبه السريان أنفسهم.
4 – 3: وجهٌ من التراث السريانيّ: يوحنا الدلياتيّ «الشيخ الروحانيّ»[14]
يوحنا الدلياتيّ راهبٌ نسطوريٌّ من القرن السابع يُعرف باسم «الشيخ الروحانيّ» أو «الشيخ القدّيس»، كانت مؤلّفاته معينًا روحيًّا وفكريًّا لأجيال متلاحقة من الرهبان والنسّاك، نظرًا لأصالتها الإنجيليّة وتعابيرها العميقة الأثر. يتألّف المقال من لمحة عن حياة يوحنا الدلياتيّ ونظرةٍ إلى ملامح شخصيّته وروحانيّته من خلال الرسائل.
4 – 4: مار إغناطيوس ميخائيل الثالث جروة (1731-1800)[15]
مرَّ تاريخ كنيسة السريان الكاثوليك بثلاث مراحل: الأولى: كان فيها للبطريرك السريانيّ لقبُ «بطريرك حلب». وقد امتدّت من سنة 1662 حتى 1702؛ الثانية: كان الكرسيُّ البطريركيُّ فيها شاغرًا، وكان يسوس الطائفة نوّابٌ بطريركيّون. وقد امتدَّت من سنة 1702 حتى 1783؛ الثالثة: أُعيدت البطريركيّة السريانيّة فيها إلى الوجود مع لقب «البطريركيّة الأنطاكيّة»، وقد اتخذت لها مقرًّا في مدن مختلفة إلى أن استقرّت في لبنان، وبالتحديد في الشرفة – درعون، كما سنرى.
وكان مار إغناطيوس ميخائيل الثالث جروة الذي اتفق جميع السريان في بلاد ما بين النهرين، أساقفة ورهبانًا وكهنة وشعبًا، على إقامته بطريركًا عليهم، مع أنه كاثوليكيَّ المعتقد، أولَ بطريرك من سلسلة البطاركة الكاثوليك. فرسموه في دير الزعفران في 22/1/1872. وأيّد بطريركيّته الكرسيُّ الرسوليّ.
وإذ لم تكن أجواءُ الوحدة بين الأرثوذكس والكاثوليك مهيّأةً بعدُ، والنفوسُ غيرَ مستعدّة، وقامت، في وجه البطريرك الجديد، معارضةٌ قويّة أدّت إلى انتخاب بطريرك آخر هو البطريرك إغناطيوس متى، رأى البطريركُ جروة أن يخليَ المكان ويذهبَ إلى موضع آخر. فتنقّل بين ماردين ولبنان وحلب إلى أن استقرَّ في بيروت، ثمّ ابتنى في الشرفة – درعون بيتًا توسّع إلى أن أصبح مقرًّا بطريركيًّا عامرًا على اسم سيّدة النجاة.
خامسًا: دور اللغة السريانيّة في تفسير الكثير من آيات القرآن الكريم
ومن أهمّها تفسير الفواتح القرآنيّة
نستهلّ هذه الفقرة الأخيرة بالسؤال التالي: ما هي لغة الكتابة التي كانت منتشرةً في منطقة الشرق العربيّ في الفترة التي دُوّن فيها القرآن الكريم، أي في العقود الثلاثة الأولى من القرن السابع؟
نقول: إنّ تلك اللغة هي الآراميّة، أي السُّريانية التي انتشرت مع النصرانيّة على يد السُّريان، انطلاقًا من سورية وبلاد الرافدين، إلى المناطق المجاورة ومنها بلاد فارس وشبه الجزيرة العربيّة.
ونقول: إنّ اللسان العربيّ الشفويّ الذي أُنزل به القرآن يختلف عن العربيّة التي وضع أُسسَها مجموعةٌ من النحويّين الأعاجم والعرب، ومنهم سيبوَيه (المتوفَّى سنة 795م)؛ وإنَّ القرآن الكريم هو أوّلُ كتاب دُوّن خطيًّا باللغة العربيّة، وكان الخطُّ العربيّ في بداياته، كنظيره الخط النبطيّ، مجرّدًا من النقاط والحركات. يشهد على ذلك العديدُ من المخطوطات القرآنيّة وغيرها المحفوظة في المتاحف شرقًا وغربًا، وآخرُها المخطوطة التي اكتُشفت في أوائل السبعينيات تحت سقف جامع صنعاء الكبير.
ويُجمع العلماءُ على أنّ النقاط المميِّزة لخمسةَ عشَر حرفًا من حروف الأبجديّة العربيّة، أُضيفت لاحقًا إلى النصّ القرآنيّ فتسبَّبت بخلق ما يُسمّى «المقاطع الغامضة». وهذا النصُّ المنقوط اعتمده الطبريّ (المتوفَّى 31هـ/923م) في تفسيره.
فمن العبث إذًا محاولةُ تفسير القرآن الكريم، على حدّ ما يفعل العربُ والمستشرقون، انطلاقًا من عربيّة سيبوَيه ومَن بعده، لأنها ليست بعربيّة القرآن. بل من الواجب الاستنادُ إلى علم اللسان الذي يقضي بقراءة النصّ وتفسيره، لفهمه، في إطاره الزمنيّ مجرَّدًا من المؤثرات اللاحقة، وفي ضوءِ علم اللغة الموضوعيّ، وبالأخصّ في إعادة وضع النقاط الصحيحة على الحروف العربيّة.
ولا يمكن أن نتخيَّل كم تسهل حينئذٍ قراءَةُ القرآن وتتوضّح ويزول الغموضُ عن تعابيره، إذا ما قُرئَ قراءةً سريانيّة، أي بترجمة التعبير العربيّ إلى السريانيّة لاقتباس مفهوم هذا التعبير من معاني مرادفه السريانيّ، فيزول الغموض ويظهر النصُّ القرآنيّ العربيّ في معناه المنطقيّ الجليّ.
5 – 1: تفسير آية من القرآن الكريم في ضوء اللغة السريانيّة
نأخذ على سبيل المثال الآية (24) من سورة مريم: «فناداها من تحتها ألاّ تحزني قد جعل ربُّك تحتكِ سريًّا».
اختلف المفسّرون (السيوطي والطبريّ…) والمستشرقون في تفسير هذه الآية لأنّهم ارتكزوا على القراءَة العربيّة السيبَوَيهيّة المنقّطة لا على الكتابة التي كُتب فيها القرآن الكريم قبيل (150) عامًا. نأخذ في الشرح كلمةً كلمةً:
* فناداها: تساءل الطبريّ هل كان مَن نادى مريمَ جبريلُ أم عيسى (عليه السلام)؟. بالعودة إلى قرائن النصّ، سابقًا ولاحقًا، نتأكّد أنّ المناديَ هو جبريل.
* من تحتها: لا يمكن أن يستقيم المعنى والتفسير إذا ما ارتكزنا على اللغة العربيّة السيبوَيهيّة وصدَّقنا على النقط الموضوعة.
أما إذا لجأنا إلى اللغة السريانيّة وأصلحنا النقطة فوق الحرف الأوّل تصبح التاءُ نونًا وتعني حينئذٍ في السريانيّة والعربيّة النحت أو النُحات، أي الوضع، التوليد.
أمّا مِن، فليست هنا ظرف مكان (مِن تحتِها)، بل ظرف زمان استنادًا لما نقول في اللغة العاميّة (مِن وصلتي، قلت له…) أي حال وصولي…
فيكون المعنى: فناداها، حالَ وضَعها، ألاّ تحزني قد جعل ربُّك وضعَك…
* سريًّا: اعتبر المفسّرون هذه الكلمة جدول ماء… أما هي فتُلفظ بالسريانيّة شريًّا، مشتقّة من فعل شرا (أي حلَّ) وتعني الحلال. وعليه وجب أن نقرأ الآية، مع احترامنا للنصّ، وفاقًا للغة التي كُتب فيها القرآن الكريم:
«فناداها حالَ وضعها ألاّ تحزني قد جعل ربُّك وضعَك حلالاً»[16].
وهكذا أصبحت الآيةُ جليّةً كالشمس، ولا تحتاج إلى تحبير الصفحات لاختلاق المعاني التي لا تركب على قوس قزح. وهناك الكثير ممّا يمكن أن نعالجه من الآيات القرآنيّة –فتتّضح- بالعودة إلى السريانيّة وبالاستعانة بها.
5 – 2: الفواتح القرآنيّة بين العربيّة والسريانيّة[17]
الفواتحُ القرآنيّة التي تسبق بعض السُّوَر تسعةٌ وعشرون وهي على ثلاثةَ عشرَ شكلاً، تتألّف من حرف واحد (وهي 3 سوَر)، ومن حرفين (وهي 10 سوَر)، ومن ثلاثة أحرف (وهي 13 سورة)، ومن أربعة أحرف (وهما سورتان)، وتكون سورة مريم، السورة الوحيدة التي تفتتحها خمسة أحرف.
استرسل المفسّرون في شروحهم –وجميعُهم نشؤوا وعاشوا قرونًا بعد إنزال القرآن الكريم– واستفاضوا في تآويلهم واستنباط آرائهم، ولحق بهم في ما بعد المستشرقون. فلم يستطع أحدٌ أن يأتي بما يُقنع ويرضي العقلَ ويشفي الغليل، إلى أن أتحف «المسرّة» العلاّمةُ السُّريانيُّ رابولا التغلبيّ المعاصر، بمقاله المذكور، فتهافت القرّاءُ والعلماء على التمعّن فيه والاقتناع بما كتب والارتياح إلى ما اقترح. قال:
5 – 2 – 1: القرآن والسريانيّة[18]
ليس هناك بين الباحثين من العرب والمسلمين من يجهل ما بين القرآن واللغة السريانيّة من صلةٍ وعلاقاتٍ متينة. فهناك العديدُ من المفردات والألفاظ والمعاني السريانيّة مبثوثةً في سوَر القرآن الكريم وآياته.
وهنا يشير المؤلّف إلى أنّ كاتب سرّ محمّد، إلى حين إجلاء بني النضير[19] عن يثرب (المدينة المنوّرة)، كان من اليهود ليتسنّى له أن يبعث من الرسائل بالعبريّة والسريانيّة إلى من يريد. فلما جلا اليهود خاف محمّد أن يستعمل في أسراره مسلمًا، فأمر فتعلّم زيدٌ بن ثابت، من شبّان المدينة المسلمين، اللغتَين المذكورَتين[20]، وأصبح كاتبَ سرِّ محمّد في كل شؤونه. وزيدٌ بنُ ثابت هذا هو الذي جمع القرآن في خلافة أبي بكر الصدّيق (11 – 13هـ/ 632 – 634م)، وهو الذي عاد فراقب الجمع والتدوين حين اختلفت القراءات في خلافة عثمان بن عفان (23 – 35 هـ/ 644 – 656م)، فوضع مصحف عثمان وأُحرقت سائر المصاحف[21].
وعليه نحاول بهذه الإلمامة أن نشرح حروف الفواتح القرآنيّة بقولنا، إنّها ليست إلاّ اختزالات لجُمل سريانيّة تتطابق وسياقَ معنى الآية التي تليها في كل سورة، علمًا أنّ السريان قد اعتادوا منذ القدم أن يختزلوا بعض الجُمَل ذاتِ التواتر الكثير في الصلوات الطقسيّة، بحروف لها مدلولاتُها لفظًا ومعنًى، منها:
جملة «شوبحو لأبو ولبرو ولروحو قاديش، حاذ الوهو شريرو»: فإنّها تُختزل بحرفَي
«ش و»؛
وجملة: «من عولام وعذامو لعولام عولمين. آمين»: بحرفَي «م ع»؛
وكلمة «هاليلويا»: بحرف «هـ». وهكذا.
فلماذا لا تكون هذه الفواتح هي الأخرى جملاً مختزلةً بأحرفٍ (سريانيّة) لها مدلولاتها في الصلاة المتواترة المتكرّرة كالفاتحة لكلّ سورة في كل قراءة؟!
5 – 2 – 2: التفسير السريانيّ لبعض الفواتح القرآنيّة
1– فاتحة سورتي البقرة وآل عمران (ا ل م)
الألف (إيمار) اللام (لِي) الميم (موريو) إيمار لي موريو، أي: قال ليَ الربّ. وإذا افتتحنا بها ما يليها، تصبح الآية: «قال ليَ الربّ: ذلك الكتابُ لا ريب فيه، هدًى للمتّقين»[22].
أمّا سورة آل عمران فتعني هي أيضًا: «قال ليَ الربّ: الله لا إلهَ إلاّ هو الحيُّ القيّوم».
2– فاتحة سورة الأعراف (ا ل م ص)
الألف (إيمار) اللام (لِي) الميم (موريو) الصاد (صَلِي) إيمار لي موريو صَلي، أي قال ليَ الربُّ صلِّ. فتصبح الآية مع فاتحتها: «قال ليَ الربُّ صلِّ، كتابٌ أُنزل إليك فلا يكنْ في صدرك حرَجٌ منه لتُنذرَ به وذكرى للمؤمنين».
3– فاتحة سوَر يونس وهود ويوسف (ا ل ر)
الألف (إيمار) اللام (لِي) الراء (رابو) إيمار لي رابو، أي قال ليَ السيّد. فتصبح الآية مع فاتحتها: «قال ليَ السيّد: تلك آيات الكتاب الحكيم»[23].
أمّا سورة هود فتصبح مع فاتحتها (ا ل ر): «قال ليَ السيّد: كتابٌ أُحكمت آياتهُ ثمّ فُصِّلت من لدن حكيم خبير».
وكذلك سورة يوسف: «قال ليَ السيّد: تلك آياتُ الكتاب المبين»[24].
والفاتحة (ا ل ر) ترد أيضًا في مستهلّ سورتَي إبراهيم والحجر.
فتُقرأُ هذه هكذا: «قال ليَ السيّد: تلك آياتُ الكتاب وقُرآنٍ مبين»، يعني آياتِ الإنجيل الذي صار له قُرآنٌ أي مشابهٌ له، متطابقٌ معه تطابقًا مُبينًا.
4– فاتحة سورة الرعد (ا ل م ر)
الألف (إيمار) اللام (لِي) الميم (موريو) الراء (رابو) إيمار لي موريو رابو، أي قال ليَ الربُّ السيّد[25]. فتصبح الآية:
«قال ليَ الربُّ السيّد: تلك آيات الكتاب والذي أُنزل إليك من ربّك الحقُّ ولكنَّ أكثر الناس لا يؤمنون».
5– فاتحة سورة مريم (ك هـ ي ع ص)
الكاف (كيفو) الهاء (هَيْمونوتان) الياء (ييشوعا) العين (عال) الصاد (صْليبو) كيفو هَيْمونوتان ييشوعا عال صْليبو، أي صخرةُ إيماننا يسوعُ على الصليب.
صحيحٌ أنَّ هذه الفاتحة لا تتناغم والنصَّ الذي تستهلّه «ذكرُ رحمة ربّك عبدَه زكريّا»، إنما تتفق وعنوانَ السورة ككلّ، ألا وهو سورة مريم، أمِّ ربّنا يسوعَ المسيح التي كانت الرفيقةَ الأولى لابنها على طريق الجلجلة، والشاهدةَ الأولى لصلبه المحيي مع التلميذ الحبيب يوحنا، ومريم زوجة كلاوبا ومريم المجدليّة (يو 19: 25-27). فهي صورة إيمان كلّ من يقرأ سورة مريم ويؤمن بها وبالله عزّ وجلّ وباليوم الآخر.
6– الحرفان (ح م) في سورتَي غافر وفصّلت
الحاء (حايو) الميم (موريو) حايو موريو، أي حيٌّ الربّ. فتكون الآيتان الافتتاحيّتان للسورتَين: «حيٌّ الربُّ، تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم»، و«حيٌّ الربّ، تنزيلٌ من الرحمَن الرحيم». وكأني بمحمّد (صلعم) هو أحدُ أنبياء العهد القديم يستهلُّ عبارته مثلهم: «حيٌّ هو الربُّ، إن هذا الكتاب هو من الله العزيز العليم» و«حيٌّ هو الربّ، [إنّ هذا القرآن] هو تنزيلٌ من الرحمن الرحيم».
7– افتتاحيّة سورة الشورى (ح م) و(ع س ق)
الحاء (حايو) الميم (موريو) العين (عوزو) السين (سبارتو) القاف (قاديشو). حايو موريو عُوزو سبارتو قاديشو، أي حيٌّ الربُّ بقوّة بشارته المقدّسة. فنقرأُ الآية كالتالي: «حيٌّ هو الربُّ بقوّة شارته المقدّسة، كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم»[26].
الفقرة الخامسة
1– هناك رابطةٌ معنويّةٌ قويّةٌ، بين الحروف الهجائيّة المرصوفة –كفواتح لتسعٍ وعشرين سورةً قرآنيّة– رصفًا متينًا مدروسًا، من كاتب حاذقٍ نحرير، وبين الجُمَل السريانيّة التي اختُزلت بهذه الطريقة المهذَّبة والدقيقة، والتي صارت في ما بعد هي الإعجاز والمعجزة، بها يتباهى المسلمون ويفتخرون، ويتحدّون بحدّها المشركين، أن يأتيَ بمثل محكم سوَر القرآن الكريم.
2– من يستطيع أن يأتي بهذا التنظيم والضبط المتقنَين إلاّ كاتبٌ سريانيٌّ أمين، يعرف كل المعاني والتعابير مع طرق الاختزال والتفسير؟ أليس زيدٌ بنُ ثابت قد تعلّم السريانيّة بثلاثة أشهر، ومن ثمَّ صار كاتبًا للتنزيل المحمّديّ، ومن ثمَّ لجمع القرآن الإسلاميّ وترتيبه؟
3– أتى قسمٌ من هذه الحروف (الجمَل) تأكيدًا وتصريحًا على سلامة الإنجيل وعدم تحريفه أو انتحاله، إنما هو الحقُّ الـمُبين، والكتابُ العزيزُ الحكيم.
4– اتخذ محمّدٌ من هذه الحروف (الجُمَل) قَسَمًا مشروطًا له، كما كان يفعل الأنبياء القدماء في العهد القديم: «حيٌّ هو الربّ…»، وما إلى ذلك من الجمل المعتادة في التوراة والإنجيل.
5– هذه الفواتح السريانيّة تؤيّد بل تؤكّد –لا سيَّما نزولها في مكة– أن ورقةَ بنَ نوفل كان يترجم الكتاب (الإنجيل) من اللسان العبرانيّ إلى العربيّ الذي بدوره دخل إلى القرآن، فأبقى محمّدٌ على تلك الحروف التي كان ورقةُ وغيرُه يفتَتح بها سورَهُ الجديدة، أو الإصحاحات المترجمة، والتي على الأغلب كان ورقةُ يتركها كافتتاحيّات للأسفار المترجمة من العهد القديم أو الإنجيل. فتركها محمّدٌ أو الكتّاب الذين أتوا بعده كما هي.
خاتمة
جولةٌ خاطفة حول بعض ما ورد عن الكنيسة السريانيّة الأنطاكيّة في مجلّة «المسرّة». وكان ذلك إسهامًا في أعمال المؤتمر الدوليّ الثانيّ للتراث الرهبانيّ في الشرق الأوسط، ومحاولةً لأن نسلّط الأضواءَ على تراثٍ عريقٍ في القدَم، نشأ في الشرق فنقل إليه الحضارةَ الإغريقيّة وآدابَها، وأرسى الأسسَ المتينة الراسخة للحضارة العربيّة التي نشأت في دمشق مع الأمويّين، وانتقلت إلى بغداد فالأندلس مع العباسيّين، وما زالت حاضرةً قائمةً شامخةً في فنّ العمارة والعلوم والرسم والموسيقى وغيرها، في شتّى أنحاءِ المعمورة.
ولئن كان العالم قد تأخر في التعرّف على التراث السريانيّ، فإن ما قام به العلماءُ والباحثون من خطواتٍ حتى الآن يبشّر بمستقبل علميّ زاهر يجمع ما بين الحضارات في العالم؛ كي تتفاعل وتتكامل وتتناغم لخدمة الإنسان.
[1]* مدير مجلة المسرة، ورئيس دير القديس بولس (جونية- لبنان).
[2]1- راجع: «المسرّة» 52 (1966)، 473-474.
[3] – المرجع السابق.
[4] – راجع، في هذا الشأن: المؤرّخ الأديب حبيب زيّات: استعمال اللغة السريانيّة في الطقس البيزنطيّ في صيدنايا، «المسرّة» 18 (1932)، 591-602. مقالٌ مستلٌّ من كتابه «خفايا الزوايا من تاريخ صيدنايا»، (308) صفحات، هديّة «المسرّة» لعام 1932.
[5] – راجع في ذلك: «المسرّة» 58 (1972)، الاعتراف للمسيحيّين من أهل اللغة السريانيّة بحقوقهم الثقافيّة، ص416-417؛ البعث العراقيّ يشهد للغة السريانيّة وأهلها، ص443-444.
[6] – راجع تفاصيل هذه الفقرة في مقال مسهب بعنوان: آداب اللغة اليونانيّة وكتبة السريان، للعلاّمة القسّ إسحق أرملة السريانيّ الكاثوليكيّ (1879-1954)، في «المسرّة» 6 (1920)، 495-501، 557-564؛ 7 (1921)، 400-411.
[7] – راجع في ذلك مقال الفيكونت فيليب دي طرّازي، بعنوان: إتحاف السريان مكتبات الفاتيكان وفلورنسا بمخطوطات شرقيّة، في «المسرّة» 32 (1946)، 75-79.
[8] – راجع: «المسرّة» 60 (1974)، 276-277، نقلاً عن رسالة خاصّة من السيّد فاضل كرومي (بغداد).
[9] – راجع تفاصيل المؤتمر الثالث، في بيان أمانة السرّ، ووقائع أعماله واختتامه وتوصياته… في «المسرّة» 81 (1995)، 719-725.
[10] – راجع تقريرًا في ذلك بقلم الخوري بولس الفغالي، في «المسرّة» 83 (1997)، 469-474.
[11] – راجع تفاصيل مؤتمر التراث السريانيّ التاسع في مقال بقلم الخوري بولس الفغالي، بعنوان: السريان نقَلةُ حضارات، خبرة بلاد الشام في العصر الأمويّ، «المسرّة» 90 (2004)، 565-581.
[12] – مقال للأب يوحنا يشوع الخوري المرسل اللبنانيّ. «المسرّة» 95 (2009)، 254-274.
[13] – مقالٌ علميٌّ للخوري بولس الفغالي. «المسرّة» 95 (2009)، 766-794.
[14] – مقالٌ علميٌّ للأب سليم دكاش اليسوعيّ: «المسرّة» 72 (1986)، 401-414.
[15] – خطاب صاحب الغبطة مار إغناطيوس موسى الأول داود الذي ألقاه أثناء القداس الحبريّ الذي احتفل به، مساءَ السبت 16/9/2000)، في كنيسة سيّدة النجاة، بدير الشرفة – درعون (لبنان). «المسرّة» 86 (2000)، 1119-1127.
[16] – راجع، في شأن هذه الفقرة كلّها، المستشرق الألمانيّ كريستوف لوكسنبرغ: قراءة آراميّة سريانيّة للقرآن – مساهمة في تفسير القرآن، دار الكتاب العربيّ، برلين 2000.
Die syro-aramaeische Lesart des Koran. Ein Beitrag zur Entschluesselung der Koransprache. Das Arabische Buch, Berlin 2000.
[17] – مقال مسهب بقلم: رابولا التغلبيّ، في «المسرّة» 82 (1996)، 622 –656.
[18] – المرجع السابق، ص633–634.
[19] – بنو النضير: من قبائل يهود يثرب. نكثوا عهدهم مع محمّد بعد أن حالفوه فحاولوا اغتياله. حاصرهم في معقلهم ثمّ نفاهم وصادر أملاكهم ووزّعها على «المهاجرين» وكذلك فعل ببني قريظة وبني قينقاع.
[20] – هناك حديثٌ نبويٌّ يشير به محمّد على زيد بتعلّم السريانيّة فيقول له: «عليك بالسريانيّة فتعلّمها: إنّها لغة أهل الجنة!».
[21] – محمّد حسين هيكل، حياة محمّد، ط 13، ص322.
[22] – ذلك الكتاب عبارةٌ تشير إلى أنّ هناك كتابًا آخر، سبق القرآن، هو الإنجيل؛ ولا ريب فيه، أي لا شكَّ فيه؛ هدًى للمتّقين، أي إنّ الإنجيل هو هدًى وتقىً للمؤمنين. تلك شهادةٌ –على لسان الربّ– يشهد القرآن بها للإنجيل بأنّه الطريق القويم.
[23] – تلك آياتُ الكتاب، إشارةً إلى آيات كتاب آخر سبق القرآن، هو الإنجيل. وهو «كتابٌ حكيم».
[24] – إشارةً أيضًا إلى آيات كتابٍ سبق القرآن، وهو الإنجيل، الكتاب المبين.
[25] – هذا التعبيرُ يتطابق وما كان ينطق به أنبياء العهد القديم، من أمثال إرميا وأشعيا وحزقيال… عندما كانوا يُبلغون الناسَ الرسالة: «يقول الربُّ السيّد…»، أو «قال الربُّ السيّد…»، أو «يقول السيّدُ ربُّ الجنود…».
[26] – يوضح محمّد (صلعم) هنا أنّ رسالته هي مصداقٌ لمن سبقه من الأنبياء والرسل. وهي بقوّة الله، بشارةٌ مقدّسة. كما أنّ بشارة عيسى مقدّسة وهو الذي يوحي إليه، كما أوحى إلى من سبقه.