أدى التراجع الميداني، وتقلص المساحات التي سيطر عليها تنظيم داعش في بعض الدول بالشرق الأوسط إلى تقهقره للعمق الأفريقي، ونتيجة للخلل الذي أصاب عدده وعتاده، اتجه التنظيم لنهج سلوك بنيوي وهيكلي جديد اعتمد بشكل كبير على جناح لتجنيد الأطفال، والاستعانة بهم في العمليات العسكرية، لتعويض النقص في صفوف التنظيم.
توجه بدأ التنظيم الإرهابي في سلكه، تجسدت آخر ملامحه فيما حدث يونيو (حزيران) الماضي، بعدما أغار أطفال مجندون على قرية سولهان الواقعة شمال شرق بوركينا فاسو، لتسفر المذبحة عن مقتل أكثر من (130) شخصاً، وهو الهجوم الذي اعتبرته الأمم المتحدة الأسوأ منذ تمركز الجماعات الإرهابية بالمنطقة.[1]
من هنا تثار تساؤلات عدة حول كيفية تمكن الجهاديين من استقطاب هؤلاء الأطفال، ماهية منهجيتهم، والدوافع التي اضطرت الأطفال للانخراط في هذه الأعمال.
أولا: تجنيد الأطفال.. الأسباب والمنهجية
لا تعد ظاهرة تجنيد الأطفال من الظواهر الجديدة أو المستحدثة، فقد تنبأت دراسات عدة منذ تسعينيات القرن الماضي باحتمالية ظهور هذا النوع من التجنيد، وربطته بالإيذاء والاستغلال النفسي الذي يتعرض له الطفل، كما ربطته بمسببات أخرى سياسية واقتصادية وأمنية، تشكل مسار العنف الذي سينتهجه الطفل فيما بعد، وحازت الظاهرة قدرًا كبيرًا من الاهتمام، لا سيما مع تصاعدها في عدد من بلدان العالم التي تشهد تنامياً للتنظيمات الجهادية، خاصة تنظيم داعش المتمركز بشدة في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء.
فوفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف” يتجاوز عدد الأطفال المجندين في أفريقيا (250) ألف طفل أي (40%) من جُملة الأطفال المجندين حول العالم[2]، ترتكز المهام الخاصة بهم على عمليات الاستطلاع والخدمة والاستغلال الجنسي للفتيات، وفي إحصائيات صادرة عن معهد هيدلبيرج لأبحاث الصراع الدولي تحتضن القارة الأفريقية نحو (97) صراعاً مسلحاً ممتداً، وهو ما يشكل في جملته (24%) من جملة الصراعات العنيفة حول العالم، التي أفرزت أطفالاً ضحايا استغلتهم التنظيمات الجهادية، واستقطبتهم لصفوفها لخدمة التنظيم عبر تجنيدهم.[3]
1- دوافع الاستقطاب:
هناك دوافع عززت توجه التنظيمات الإرهابية لتجنيد الأطفال، لعل أبرزها انعدام حالة الإدراك لدى الطفل بخطورة ما هو مقدم عليه، كما يسهل على التنظيم بما يمتلكه من براعة لغوية في إقناع الأطفال واستقطابهم، مستغلين مظلومية المواطنين إزاء الوضع الإنساني والمادي المتدني الذي يعانون منه، لا سيما مع إغراء التنظيمات لهؤلاء الأطفال بالأموال، وهو ما يعتقدون فيه الملاذ للخلاص مما يعانون منه على مدار السنوات الماضية.
ومن ناحية أخرى تحرص التنظيمات الراديكالية نحو تقليل النفقات، وهو ما يجدونه في مهمة تجنيد الأطفال، حيث تنخفض تكلفة المهمة مقارنة بما يتكبدونه في حال توجههم لتجنيد الكبار، وأيضًا هناك بعد تكتيكي، وهو قدرة الأطفال على إنجاز المهام بخفة وحيوية دون لفت الانتباه أو إثارة الشك تجاههم، لذا يعتمد على هذا الجناح بشكل كبير في مهام دقيقة، كالتسلل بالأسلحة الخفيفة عبر النقاط العسكرية.
2- التكتيك:
أما عن تكتيك استقطاب الأطفال وتجنيدهم، فوفقًا لدراسة تحت عنوان: “من الأشبال إلى الأسود: نموذج المراحل الست لدمج الأطفال داخل الدولة الإسلامية”، نُشرت في دورية “دراسات الصراع والإرهاب” عام 2017، وتم إعدادها بواسطة كل من جون جي هورجان وماكس تايلور وميا بلوم وتشارلي وينتر، تم خلالها تأكيد أن الضغط الاجتماعي الذي يعاني منه الفرد على مدار سنوات عدة تجعله عُرضة لتقبل الاختلاف، والانخراط في جماعات جديدة لاكتساب سلوكيات بخلاف تلك التي فرضت عليه، وهذا ما حدث مع أطفال أفريقيا و”داعش” وكان سببًا في نجاح التنظيم بتجنيد الأطفال[4].
ويعتمد التنظيم ست مراحل أساسية لاستقطاب الأطفال ودمجهم:
- مرحلة الإغواء: وخلال تلك المرحلة يقوم التنظيم بعرض الأفكار والرؤى الخاصة به خلال تجمعات ومناسبات عامة.
- مرحلة التعليم: وخلالها يكون الأطفال تعرفوا بشكل مبدئي على صورة التنظيم وماهيته، ويتم خلال المرحلة تلقين الأطفال بشكل مكثف المبادئ والممارسات الخاصة به، كما يتم تنسيق لقاءات مع القادة والمسؤولين بالتنظيم.
- مرحلة الاختيار: يتم توزيع المهام على الأطفال وفقًا لقدراتهم وكفاءتهم واهتماماتهم.
- مرحلة الإخضاع: يتم خلالها القيام بتدريبات جسدية ونفسية مكثفة يكتسب خلالها الأطفال مزيد من القسوة والوحشية، كما يتم عزلهم عن أسرهم وترسيخ قيم الولاء والطاعة للتنظيم وقادتهم والتضحية في سبيل استمرار التنظيم وأفكاره.
- مرحلة التخصص، يقوم خلالها التنظيم بتكثيف وإثقال الخبرات التي اكتسبها كل طفل خلال المراحل السابقة، عبر اجتيازهم العديد من التمرينات الشاقة والأكثر تخصصية.
- مرحلة التعيين، يتم خلالها إلزام كل طفل بمهمة ودور ثابت يتلاءم مع ما اكتسبه من مهارات وخبرات، بل وحثهم على استقطاب أعضاء جدد.
3- نماذج:
هناك نماذج عدة داخل الدول الأفريقية تثبت تنامي ظاهرة تجنيد الأطفال، فمثلا تم استغلال حوالي (16) ألف طفل خلال حرب ليبيريا في الفترة من 1989 – 1996، في حين وردت إحصائيات بأن نحو (36%) من أطفال أنجولا كانوا قد شاركوا في الصراع الأهلي خلال حقبة التسعينيات، ولا ننسى جيش الرب الأوغندي المُشكل بالأساس من الأطفال[5]، ففي تقرير صادر عن مجلس الأمن، قُدر خلاله عدد الأطفال الذين تم اختطافهم من قبل جيش الرب بحوالي (20000) خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، ليصل عددهم خلال العقد الثاني إلى (60000) طفل[6].
ووفقًا لتقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة، تورط كل من الجيش النظامي السوداني والجماعات المسلحة منذ اندلاع الصراع الداخلي ديسمبر (كانون الأول) 2013 في تجنيد قرابة (16) ألف طفل، في حين أودت الحرب بحياة (600) طفل، بينما تعرض (200) آخرون للإصابة والتشويه[7].
وفي نيجيريا نجد أن تصاعد أعمال جماعة بوكوحرام، وسعيها للتنافس على فرض سيطرتها مقارنة بالجماعات الجهادية الأخرى على الساحل الغربي، دفعها لتبني نهج تجنيد الأطفال، وتنامي تلك الظاهرة بشكل كبير تخفيفًا للنفقات وإنجازًا للمهام الخفيفة، ووفقًا لإحصائيات صادرة عن جهات غير حكومية، تجاوز عدد الأطفال المجندين في نيجيريا (4) آلاف، بينما قُتل نحو (432) طفلاً، بخلاف حالات اختطاف واغتصاب الطالبات من المدارس[8].
وفي تقرير صادر عن الأمم المتحدة؛ انعكست حالة التوتر الأمني والصراع الداخلي في أفريقيا الوسطى بالسلب على الأطفال، حيث تسببت الحرب حينذاك في تجنيد ما بين (6) إلى (10) آلاف طفل خلال عام 2018، في حين تعرض (430) طفلاً للقتل والتشويه، بخلاف حالات الاغتصاب والانتهاكات الجسدية، وأفاد التقرير الأممي بأن تلك الحالات شهدت تورط كل من القوات الحكومية والجماعات الجهادية الموجودة في تلك المنطقة[9].
وعلى الصعيد ذاته، فبالرغم من انتهاء الحرب الأهلية بالكونغو الديمقراطية منذ عام 2002، فإن هناك بعض المناطق التي شهدت أعمالاً قتالية في شمال وشرق البلاد، تحديدًا في مناطق إيتوري وكيفو، وأفادت الإحصائيات بتمكن الميليشيات المتمردة بتجنيد أكثر من (12) ألف طفل[10].
وفي الصومال وصل عدد الأطفال الذين تم تجنيدهم لصالح ميليشيا حركة شباب المجاهدين الموالية للقاعدة خلال العامين الماضيين لنحو (6) آلاف طفل تم إقحامهم في أعمال قتالية.
فالوضع الأمني والعسكري غير المستقر في معظم الدول الأفريقية، دفع القارة كي تصبح موطنًا للأطفال المجندين، والأسوأ من ذلك أن الصراعات والنزاعات المسلحة يقع الجانب الأخطر منها جسديًا ونفسيًا على هؤلاء الأطفال الذين ينخرطون قسرًا أو طواعية في تلك الدائرة المغلقة، كما أن التأثيرات السلبية لهذا الأمر لا تقتصر على الطفل فقط، بل على أسرته ومجتمعه ككل.
ثانيا: محفزات التجنيد
لا يمكن إلقاء المسؤولية كاملة على الأسرة التي انضم فرد منها إلى تنظيم جهادي، فإشكالية تجنيد الأطفال ترجع إلى حزمة من العوامل الأمنية والسياسية والاقتصادية، التي أدى تلاقيها في بيئة غير مستقرة لبروز تلك الظاهرة، فالقارة الأفريقية تعاني مزيجاً من تلك المشكلات، مما جعلها بيئة خصبة يسهل استقطاب أفرادها وضمهم للتنظيمات الجهادية عبر أسلوبي الترغيب عن طريق توفير ما عجزت الدولة عن تقديمه بإغرائهم بالمال والحماية، أو عبر أسلوب الترويع سواء بالاختطاف أو الاستغلال الجنسي أو التهديد بالقتل والتشويه، لذا تعتبر الدولة شريكاً رئيساً في جريمة سلب هؤلاء الصغار طفولتهم وإنسانيتهم نتيجة لفشلهم على المستوى الإداري، أو على مستوى الاستجابة لاحتياجات الأقاليم المهمشة، فالفشل الإداري أفرز جُملة من المحفزات دفعت الأطفال إلى الانضمام لتلك التنظيمات، يمكن إبرازها على هذا النحو:
- الصراعات الداخلية والتوترات الأمنية: تتميز غالبية الدول الأفريقية بالإثنية والتعددية، فالإثنية ليست معضلة في حد ذاتها، لكن فشل إداراتها حولها لأزمة تسببت في خلل بنيوي داخل النسيج السكاني، دفع بها لحالة شبه مستمرة من التناحر والصراع الداخلي، وهو ما أدى بطبيعة الحال لتوترات أمنية، جعلت من تلك الدول بيئة خصبة لاحتضان الجماعات الإرهابية وتناميها من جهة، كما تسببت في حالة من الحنق الداخلي لدى السكان الأصليين، لا سيما الأطفال، دفعهم للانخراط في تلك التنظيمات من جهة أخرى.
ووفقًا لتقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة، شهد إقليم الساحل الغربي للقارة تضاعف أعداد الأطفال المجندين ثلاث مرات خلال الفترة من 2010 – 2019، في حين قامت جماعة بوكو حرام باستغلال قرابة (135) طفلاً لتنفيذ عمليات إرهابية ضد منشآت حكومية نيجيرية[11].
ووفقًا لتقرير مؤشر الإرهاب العالمي الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام (سيدني) لعام 2020، نجد أن الدول الأفريقية على رأس دول العالم تأثرًا بالعمليات الإرهابية، بعدما تزايد معدل العمليات الإرهابية خلال عام 2020 ليصل إلى (3471) عملية أسفرت عن مقتل (10460) ضحية[12]، وتوازيًا مع ذلك فإن ارتفاع معدلات الإرهاب أدى إلى زيادة العنف ضد الأطفال، ووقوعهم ضحايا للتنظيمات، إما قتلى أو مجندين في صفوفهم.
وكانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة قد سجلت ما يقترب من (400) انتهاك بحق الأطفال في منطقة أفريقيا الوسطى خلال النصف الأول من عام 2020، في حين سجلت الفترة ذاتها نزوح أكثر من (900000) طفل لمراكز إيواء[13]، لكن نتيجة لما خلفته جائحة كورونا من تداعيات سلبية، افتقرت هذه المراكز للحد الأدنى من الخدمات المقدمة، وهو ما أدى لوفاة عدد كبير من الأطفال، لذا ما بين واقع أمني متدهور يتصف بالصراع الدامي المستمر، وبين محاولات إنقاذ تفتقر للحد الأدنى من الخدمات الإنسانية، أصبح الفرار إلى أحضان الجماعات الإرهابية هو الحل الأمثل للخلاص من الوضع الإنساني المنحدر.
- المركزية والسلطوية المطلقة: تعتمد الدول الأفريقية على المركزية المطلقة، وشخصنة الحكم، ومع انعدام الكوادر السياسية ومحاولات القضاء على النخبة، وكذلك استشراء الفساد في كافة مؤسسات الدولة، وعدم امتلاك رؤية سياسية وأمنية شاملة، أصبح هناك هشاشة في القبضة المركزية، ليتهيأ المناخ من أجل إعادة تموضع التنظيمات الجهادية. فالسلطة الحاكمة لا تركز إلا على العاصمة والأقاليم القريبة منها، في حين تعاني الأقاليم الحدودية والبعيدة نسبيًا عن العاصمة من التهميش سواء السياسي أو الاقتصادي أو الأمني[14]، وبمرور الوقت فقدت الحكومة المركزية قبضتها الأمنية على العديد من الأقاليم البعيدة، كما الحال في مالي وبوركينافاسو ونيجيريا وغيرها، حتى على صعيد فرص التعليم والتوظيف تكاد تكون حصة مواطني أقاليم الهامش منعدمة، كل ذلك ولّدَ لدى سكان تلك الأقاليم مشاعر غضب وحنق، وشعور بالمظلومية تجاه السلطة، لتختفي مع الوقت فكرة الولاء والتضحية في سبيل الوطن، وأُحِلَّت المصلحة الخاصة بدل العامة، مما هيأ المناخ لانضمام أطفال تلك الأقاليم للتنظيمات الجهادية بغية الخلاص من الفقر المدقع الذي تسببت الحكومة فيه.
- أزمة الأمن الغذائي وتراجع المستوى الاقتصادي: على الرغم من امتلاك القارة إمكانات وموارد تؤهلها لتوفير متطلباتها واحتياجاتها بمختلف المستويات والقطاعات، فإنها لم تتمكن من ذلك نتيجة لنقص الخبرة وتراجع المستوى التعليمي، وهو ما يدفعها لاستيراد كافة احتياجاتها من الخارج بأضعاف الثمن، مما يجعلها عرضة للتأثر بالمتغيرات العالمية كما حدث خلال الأزمة العالمية 2008، وما يحدث حاليًا في ظل جائحة كورونا.
ففي التقرير السنوي الصادر عن “مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد” في يناير (كانون الثاني) 2021 أفاد بأن دول القارة شهدت تراجعاً كبيراً في إجمالي الناتج المحلي نتيجة التوترات التي أفرزتها جائحة كورونا، والاضطرابات التي أصابت منظومة الاستيراد والتصدير، مما أدى لانخفاض المحاصيل الزراعية في عدة بلدان، وترتب على ذلك تعرض بعض مناطق لخطر المجاعات، كما حدث في جنوب السودان وشمال شرق نيجيريا وبوركينا فاسو[15]، ومن ناحية أخرى كشف مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة عن تعرض إقليم وسط وغرب القارة لتضاعف في معدلات انعدام الأمن الغذائي خلال العام الجاري بنسبة (135%)[16].
وتوقع تقرير اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة، أن يمتد تأثير جائحة كورونا على الناتج المحلي، حيث يتوقع أن تتسبب في خسائر تتراوح ما بين (3) إلى (5%) بحلول عام 2030، كما أفاد التقرير بوقوع خسائر في الإنتاج تقدر بحوالي (99) مليار دولار، بنسبة انكماش تصل إلى (2.1%) وهو الركود الأخطر الذي أصاب الدول الأفريقية منذ (25) عاما، حيث انخفضت أسعار النفط للنصف، وهي السلعة التي تشكل (40%) من قيمة الصادرات الأفريقية[17]، وبالتوازي حذر البنك الدولي من إمكانية تعرض حوالي (43) مليون أفريقي لخطر الفقر المدقع، لا سيما مع تأزم الوضع بسبب الجائحة وانخفاض مصادر دخول العائلات بنحو (12%)[18]، فيما أفاد تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 بحاجة الدول الأفريقية لما يعادل (1.2) تريليون دولار خلال الثلاث سنوات المقبلة للتعافي من الآثار الاقتصادية التي خلفتها الأزمة[19]، كل ما سبق يضع معظم دول القارة أمام تحدي تحقيق الأمن الغذائي، وإلزامية وضع خطط واستراتيجيات قريبة ومتوسطة المدى لتفادي الآثار السلبية التي خلفتها كورونا، وتجنب سيناريوهات المجاعات التي تمثل أبرز دوافع ترغيب الأطفال في الالتحاق بالتنظيمات الإرهابية.
- تراجع المستوى التعليمي: تعاني غالبية الأقاليم المهمشة البعيدة عن العاصمة والأقاليم الرئيسة تدني الوضع التعليمي، من حيث توافر المؤسسات التعليمية المؤهلة لاستقبال التلاميذ، أو حتى على مستوى توفير الكوادر التعليمية لتقديم المادة العلمية لهؤلاء الأطفال، وهو ما أدى -بدوره- إلى تضاعف معدلات الجهل والأمية بين التلاميذ، فعلى سبيل المثال الإقليم الشمالي في دولة موزمبيق، الذي يشهد حاليًا صراعاً محتدماً وتنامياً واضحاً للتيارات الراديكالية، نجده يسجل أعلى نسبة أمية في الدولة، نتيجة لحالة التهميش التي يعاني منها الإقليم لتصل إلى (60%) بالمرحلة الابتدائية، و(35%) بالمرحلة الثانوية، فيما تصل إلى (0.3%) في مرحلة ما بعد الثانوي، بينما تصل نسبة العاطلين عن العمل إلى (88%)[20].
وأزّم من صعوبة الموقف ما خلفته أزمة كورونا من تداعيات سلبية، حيث اتجهت غالبية الدول الأفريقية نحو خيار إغلاق المدارس والمؤسسات التعليمية، كإجراء احترازي لمواجهة أزمة كورونا، وبالتوازي مع ذلك هناك تراجع شديد في القدرات الأفريقية على استخدام خاصية التعلم عن بعد واستخدام التكنولوجيا، وكشف تقرير صادر عن منظمة اليونسكو أبريل (نيسان) 2020 عدم امتلاك نحو (90%) من الطلاب في إقليم جنوب الصحراء أجهزة كمبيوتر، بينما لا يتمكن نحو (82%) من الاتصال بالإنترنت[21]، فأصبح عدد الأطفال المهددين بالخروج من المنظومة التعليمية مضاعفاً، لنجد ارتفاع عدد الأطفال خارج النظام التعليمي في منطقة الساحل والصحراء من (8) ملايين قبل انتشار فيروس كورونا إلى (12) مليوناً خلال عام2020[22]. بناءً على ما سبق أصبح هناك خلل في الوضع التعليمي للأطفال، مما جعلهم صيدًا سهلًا وأكثر عرضة للاستقطاب الجهادي.
- محاولات التنظيمات الجهادية إعادة الهيكلة: نتيجة للخسائر الفادحة التي تكبدها تنظيم داعش في سوريا والعراق، أصبح جُل اهتمامه منصباً حاليًا حول لملمة بقاياه ومحاولة إعادة تموضعه من جديد، وكذلك وضع استراتيجيات جديدة تتواءم مع المستجدات التي طرأت، لذا وجد التنظيم من استراتيجية تجنيد الأطفال مخرجاً للمأزق الذي واجهه أخيرًا من حيث نقص الأعداد بين صفوفه إلى جانب نقص الموارد والإمكانات، فالأطفال أقل كلفةً وأكثر إنجازًا وأخف تحركًا، وانتهجت النهج نفسه الأفرع الأفريقية التي أعلنت مبايعتها سواء للقاعدة أو داعش، مستغلين الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية والتعليمية والصحية المتدنية، ومن ناحية أخرى سعت بعض التنظيمات، وتحديدًا بوكو حرام شمال نيجيريا، إلى توظيف الفتيات المختطفات أو اللاتي نجحن في استقطابهن، وذلك على مستويين: إما القيام بالعمليات الانتحارية، أو تزويجهن قسرًا بقادة التنظيمات لمدهم بأجيال جديدة، لذا كانت الفتيات المختطفات أكثر عرضة للاستغلال الجنسي.
وأفاد تقرير صادر عن اليونيسيف بأن (29%) من الفتيات اللاتي تم الإفراج عنهن من الجماعات المسلحة خلال الفترة من 2018 – 2020 بالكونغو الديمقراطية ونيجيريا كُنَّ قد تعرضن للاغتصاب والانتهاك الجنسي[23]. لذا أضحت محاولات العودة الجهادية من جديد دافعًا للبحث عن سبل للتمدد، كان أبرزها تجنيد الصغار.
ثالثا: الموقف الدولي وآليات المواجهة:
لا تعتبر فكرة حظر إشراك الأطفال في الأعمال المسلحة وليدة التطورات الحديثة، لكن لها مرجعيتها التاريخية حيث تعتبر من المبادئ الأساسية لتقاليد الحرب في العرف الإسلامي، ولا يمكن إنكار الدور الدولي في سن القوانين التي تجرم هذه الظاهرة:
- عام 1989 أصدرت الأمم المتحدة “اتفاقية حقوق الطفل”، والتي بمقتضاها يحظر تجنيد الأطفال الذين تقل أعمارهم عن (15) عامًا، واستغلالهم في النزاعات العسكرية.
- عام 1997 تم اعتماد “مبادئ كيب تاون”، وتحث المبادئ على منع تجنيد الأطفال، وتسريح المجندين منهم، والعمل على إعادة دمجهم مرة أخرى في المجتمع.
- عام 1998 اُسست “منظمة أرض البشر”، وهي كيان معني بوقف استغلال الأطفال.
- عام 2002 عُدل “البروتوكول الخاص بمعاهدة حقوق الأطفال”، حيث رفع السن الأدنى للتنجيد إلى (18) عاما، وفي العام ذاته اعتبرت المحكمة الجنائية الدولية استغلال الأطفال دون (15) عاماً وتوريطهم في أعمال مسلحة جريمة حرب.
- عام 2007، جاءت “وثيقة باريس” لتبلور كل الإجراءات السابقة، ووفقًا للوثيقة يُعرف الطفل الجندي بكونه “أي شخص دون الثامنة عشرة ويتم استغلاله بواسطة قوة أو تنظيم عسكري للقيام بمهام قتالية على سبيل المثال: الأطفال والفتيات الذين يتم استغلالهم كمحاربين أو لأغراض جنسية”[24].
لكن بالرغم من التحركات الدولية لوقف تلك الظاهرة، فإن الوضع في أفريقيا يزداد خطورة، ويعاني الأطفال أزمة إنسانية بالغة القسوة، فالتوترات الأمنية والصراعات الداخلية ومعدلات الاحتقان الإقليمي في تزايد مستمر، بالتوازي مع ذلك تعمل الجماعات الجهادية على استغلال الأوضاع الهشة لإعادة التموضع ثانية، كما في شمال موزمبيق ونيجيريا ومالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى، لذا حل الأزمة والمواجهة لا بد أن يكون نابعاً من الداخل الأفريقي، ويتم تعزيزه حينذاك بالإطار القانوني الدولي، فالمبادرة لا بد أن تكون ذاتية وليست واردة من الخارج، لذا أصبح لزامًا على الدول الأفريقية وضع نهج واضح يشمل عدة محاور:
- الاندماج الوطني: لم تكن التعددية بأي حال من الأحوال مشكلة، لكن عجز السلطة في إدارتها هي الأزمة الحقيقية، فالتعددية هي الأساس بل نقطة قوة يمكن استغلالها، والاستفادة منها حيث تضمن مناخاً ديمقراطياً صحياً، وحياة سياسية سليمة تتنوع فيها الرؤى والأفكار والخطط، حتى على صعيد النخبة السياسية سيكون هناك تنوع وتمثيل شامل لكل الإثنيات يتحقق من خلاله الاستقرار، وتسود مشاعر الولاء والانتماء للوطن، لكن واقعيًا يوجد أزمة اندماج، فعدد من القادة الأفارقة يسعون إلى استمرار شبكة المحسوبية لضمان استمرارهم في السلطة، لذا أصبح هناك حاجة ملحة لضرورة استشعار الأنظمة الحاكمة بخطورة الوضع، وتوجههم نحو تحقيق الانسجام بين مكونات المجتمع، عن طريق عدة أمور من ضمنها:
- تحقيق التمثيل السياسي لكافة الإثنيات بما يتواءم مع نسبتهم.
- تفعيل اللامركزية وتوجيه الاهتمام متعدد المستويات لكافة الأقاليم المهمشة.
- حل الصراع المحلي بين القبليات المختلفة، ووقف أي تناحرات مع تحقيق المساواة بين القبليات المختلفة وتوفير احتياجاتهم.
- تبني خطاب سياسي وديني معتدل.
- نشر قيم التسامح والمحبة والوطنية وإطلاق المبادرات التي يقودها الشباب للحث عن هذا الأمر.
- التركيز على التعليم: من ميسرات اختراق المجتمعات وتفتيتها انتشار الجهل والأمية وتراجع معدلات التعليم، فالدول الأفريقية تترأس دائما الإحصائيات الأممية بشأن تراجع معدلات التعليم وانتشار الجهل، وهو الأمر الذي يسر من مهمة تنامي التنظيمات الراديكالية، لذا أصبح محور التعليم من أساسيات مواجهة الإرهاب، فعلى الدول الأفريقية تبني مناهج تعليمية أكثر تقدماً، والتركيز على إدخال التكنولوجيا وتدريب التلاميذ على استخدامها، والعمل على تهيئة مناخ سليم وبيئة صحية لتلقي العلوم، كذلك وضع نظم وآليات لمراقبة المحتوى التعليمي المقدم للأطفال في المدارس، وتقديم التدريبات اللازمة للمعلمين، والتركيز على نشر قيم الولاء والانتماء للوطن بين التلاميذ، والتوسع في بناء المدارس وتزويدها بالإمكانات اللازمة، وأخيرًا التركيز على العلوم الدينية السمحة، لسد أي ثغرة يمكن أن يستغلها الجهاديون في غسل أدمغة الصغار.
- الأوضاع الأمنية: هناك ظاهرة منتشرة في غالبية دول أفريقيا جنوب الصحراء، وهي الندية المطلقة بين القوات الأمنية والمعارضين للنخبة الحاكمة، فانصرف اهتمام القوات الأمنية عن القيام بمهامها الخاصة بتوفير الأمن ومواجهة المهددين لها، وانتقلوا لمواجهة المخالفين في الرأي مع النظام الحاكم، لتسود بذلك مشاعر الكره تجاه القوات الأمنية، فأصبح هناك حالة من عدم الثقة التي استغلها الراديكاليون في استقطاب الكبار والصغار، لذا صار لزامًا على القادة الأفارقة أن يعملوا على إعادة الثقة بين المواطن وقوات الأمن، عن طريق آلية الحوار والتفاوض للتوصل إلى إجراءات لمنع تكرار هذا الصدام، وقطع الطرق أمام التنظيمات الإرهابية لتوظيف مظالم المواطنين المجتمعية لصالحها، ولا بد من توفير إجراءات خاصة بالتدخل السريع في حالة تعرض أي مؤسسة تضم أطفالاً لهجوم أو اختطاف، وذلك عبر توفير تدريبات بمساعدة دولية.
- تعزيز التنمية الاقتصادية: البعد الاقتصادي هو المتحكم دائما في حسم الموقف، فأينما شهدت دولة تنمية اقتصادية تتلاشى بالتبعية كل الأزمات والخلل المجتمعي، فالدول الأفريقية لا بد وأن تحدث تطوراً اقتصادياً متعدد المستويات للحد من نسب البطالة المرتفعة وتحقيق مستوى معيشي أفضل، شريطة أن تكون التنمية شاملة غير مقتصرة على الأقاليم المركزية، ويمكن أن يحدث ذلك عن طريق تحقيق الشراكة الإقليمية والدولية، واستيراد تكنولوجيا جديدة، وتبني خطط تصنيع وتصدير، وعدم الاقتصار على الاستيراد من الخارج، والعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي، وتحقيق الأمن الغذائي، ووضع خطط بديلة استجابة لأي تطورات، كذلك العمل على تعزيز البنى التحتية، ودعم الاستثمارات الأجنبية والتركيز على زراعة المحاصيل، وكذلك التركيز على تنمية المناطق المهمشة، وأخيرًا تعزيز التعاون الإقليمي، والدفع نحو التحقيق الفاعل لاتفاقية التجارة الحرة، والعمل على تعزيز التجارة البينية بين دول القارة.
كل ما سبق من شأنه النهوض بمستوى دخل الفرد، إلى جانب تحقيق الأمن الغذائي، وتوفير فرص عمل للشباب، بالتالي لن يصبح هناك ثغرة يمكن استغلالها من قبل التنظيمات الإرهابية، بل لن يصبح لتلك التنظيمات وجود في ظل التحركات الميدانية التنموية.
وأخيرًا تبقى مهمة إعادة دمج الأطفال المجندين مرة أخرى داخل المجتمع من المهمات الصعبة، لا سيما داخل الدول الأفريقية، فهناك حالة من التمييز ضد هؤلاء الأطفال، وغالبًا لا ينظر إليهم المجتمع نظرة ضحايا، فهؤلاء الصغار عاشروا قتلة وقاموا بانتهاكات جسيمة، ولوثوا أياديهم بالدماء، وخربوا وأفسدوا، هذه هي النظرة المجتمعية تجاه الأطفال المسرحين، لذا أصبح لزامًا على المجتمعات الأفريقية تقبل هؤلاء العائدين، في حين يقع على منظمات الإغاثة مهمة إعادة صهر الصغار مرة أخرى داخل البوتقة الاجتماعية، عبر برامج وحوارات توعوية تفيد بأن هؤلاء الأطفال كانوا ضحايا لمسببات مجتمعية دفعتهم لذلك، وأن المجتمع لا بد وأن يعيد احتضانهم كي لا يصبحوا قنبلة موقوته ويعاد استغلالهم ثانية، كذلك لا بد من دور فاعل للرموز الوطنية والدينية والقبلية، ووضع خطة شاملة لتأهيل المجتمعات لتقبل العائدين مرة أخرى.
فحل أزمة المجندين الصغار كمثل باقي المشكلات التي تواجهها الدول الأفريقية، تتطلب تكاتف الجهود المحلية والإقليمية والدولية للتخفيف من حدة مسببات دفع هؤلاء الأطفال للانخراط في أعمال عنف، ولا بد من التركيز على البعد الديني والتعليمي كي يتمكن الأطفال من تشكيل واق فكري يحفظهم من أي أفكار متطرفة من شأنها إفساد فطرتهم البسيطة.
[1]– بوركينا فاسو: ارتفاع حصيلة القتلى إلى (160) شخصا في الهجوم الأكثر دموية منذ 2015، موقع فرنسا 24، 8 يونيو (حزيران) 2021، متاح على: https://cutt.us/Sy803
[2]– Ten facts about child soldiers that everyone should know”,the independent,available at: https://cutt.us/gkc0W
[3]– Conflict Barometer , The Heidelberg Institute for International Conflict Research, Germany, 2016, p.12
[4]– John G. Horgan,From Cubs to Lions: A Six Stage Model of Child Socialization into the Islamic State,available at: https://cutt.us/yt9dh
[5]– مصطفى شفيق علام، حقائق صادمة: الأطفال المجندون.. وقود الصراعات الداخلية في أفريقيا، موقع قراءات أفريقية،1 مارس (آذار) 2018، متاح على: https://cutt.us/051b3
[6]– المرجع السابق.
[7]– Hundreds of children recruited by armed groups in South Sudan, as violations against women and children increase, unicef, available at: https://cutt.us/BVYs5
[8]– UNICEF: 432 children killed, 180 abducted in NE Nigeria in 2018, says UNICEF ahead of 5th anniversary of Chibok girls abduction,unicef,available at: https://cutt.us/pwFjm
[9]– ibd
[10]– Country Reports on Terrorism 2019, available at: https://cutt.us/ljE8z
[11]– ibd
[12]– global terrorism index2020, available at, https://www.visionofhumanity.org/wp-content/uploads/2020/11/GTI-2020-web-1.pdf
[13]– Central African Republic: Nearly 370,000 children now internally displaced amidst ongoing violence – highest number since 2014, unicef, available at: https://cutt.us/gKVgl
[14]– نهال أحمد السيد، “داعش موزمبيق”.. أي مصير ستؤول إليه الأوضاع بعد سيطرته على مناطق كاملة في الشمال؟، 16 مايو (أيار) 2021، موقع المسبار للدراسات والبحوث، متاح على: https://cutt.us/wigEt
[15]– بسمة سعد، تجنيد الأطفال في أفريقيا.. العوامل المُحفِّزة وآليات المواجهة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 30 مارس (آذار) 2021، متاح على الرابط: https://acpss.ahram.org.eg/News/17099.aspx
[16]– Global report on food crises, available at: https://cutt.us/68VIE
[17] -ECA Report: COVID-19 in Africa: Protecting Lives and Economies,UN,available at: https://cutt.us/c9sia
[18]– World Bank’s Response to COVID-19 (Coronavirus) in Africa, The World Bank, available at: https://www.worldbank.org/en/news/factsheet/2020/06/02/world-banks-response-to-covid-19-coronavirus-in-africa
[19]– فيروس كورونا: أفريقيا “تحتاج (1.2) تريليون دولار” للتعافي من تداعيات الجائحة، هيئة الإذاعة البريطانية، 10 أكتوبر (تشرين الأول) 2020، متاح على: https://www.bbc.com/arabic/world-54494827
[20]– عباس محمد صالح عباس، شمال موزمبيق.. جبهة عالمية جديدة لمكافحة الإرهاب، مركز الجزيرة للدراسات، 26 أبريل (نيسان) 2021، متاح على: https://studies.aljazeera.net/ar/article/4983
[21]– التعليم في أزمة: فيروس كورونا شل حركة العالم، والأطفال الأفقر والأضعف هم الأكثر تضررا، أخبار الأمم المتحدة، 28 ديسمبر (كانون الأول) 2020، متاح على: https://news.un.org/ar/story/2020/12/1068232
[22]– 2.3 million children in need of protection in the Central Sahel region in 2020, a more than 80 per cent increase in one year,unicef,21/5/2021,available at: https://cutt.us/fwrzm
[23]– Henrietta Fore, Female child soldiers often go unseen but must not be forgotten, Thomson Reuters Foundation News,reuters,21/2/2021,available at: https://news.trust.org/item/20210211143359-cpm3z/
[24]– إنفوغرافيك: (300) ألف طفل حملوا السلاح وشاركوا في الحروب والنزاعات في 2019، موقع فرنسا 24، 12 فبراير (شباط) 2020، متاح على: https://cutt.us/GgYCN