مركز المسبار
نتيجة للتقدم السريع لقوات حركة طالبان، وتهاوي المدن الكبرى وسقوطها في أيديها، كشفت الأسبوع الماضي تقديرات مخابراتية أميركية أن طالبان قادرة على عزل العاصمة الأفغانية كابول في غضون (30) يومًا، وقد تسيطر عليها خلال ثلاثة أشهر. وعلى الرغم من ذلك سقطت العاصمة في مشهد دراماتيكي يوم الخامس عشر من أغسطس (آب) الجاري بلا مقاومة تقريبًا، وقد غادر الرئيس الأفغاني أشرف غني بشكل سريع، مخلفًا وراءه فوضى عارمة في مطار كابول الدولي، الذي شهد أحداثاً مأساوية دامية لسقوط أفغان تعلقوا بالطائرات الأميركية، آملين في مغادرة البلاد.
فتحت هذه الأحداث الباب واسعًا لتفسيرات مختلفة حول أسباب الانهيار السريع لحكومة لديها جيش وقوات أمنية، تكرر الولايات المتحدة كلما تحدّثت عنه؛ أنها أنفقت على تدريب الجيش والقوى الأمنية (83) مليار دولار على مدار عقدين من الزمان، حسب صحيفة النيويورك تايمز (The New York Times).[1]
عالمياً، ساد الذعر من انفتاح ثقب التطرف الأسود الجديد، وعادت صور الفيديوهات المفزعة؛ بما فيها من اعتداء على الحقوق، ثم انطلقت التساؤلات والتحليلات التي تتحدث “بثقة عاطفية” عن ملامح اتفاق أميركي مع طالبان. تم بموجبه تسليم كابول لمقاتلي الحركة. وتسليمهم سلاحاً ضخماً اعترف “مستشار الأمن الأميركي بأنه سقط في أيدي الحركة المتطرفة”.
الاستقطاب الحاد في أميركا، ما زال يسجن التفاعلات المتوسطة في أي قضية؛ حول ما فعله الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب ولا يفعله الرئيس الحال جو بايدن. أما تلك المتقدمة والحاذقة، فهي تتوقف طويلاً عند سؤال استراتيجي: “كيف نهزم الصين؟”.
وجدت إدارة بايدن، نفسها أمام موجة غضب جديرة بالتأمّل، فتحزّمت بالخطاب الشعبوي الذي كانت تنتقده، وقالت :ما نحن إلا بقيّة ترمب، وهذا اتفاق عقدته الإدارة السابقة، وأسهبت في التعذّر؛ وصبّت جام غضبها على الجيش الأفغاني؛ واصفة إياه بمعدوم الإدارة، وتلخصت العبارات في حقيقة بائسة “لا نستطيع تحمّل المسؤولية، ولا نريد”، وكان الاتهام الأقسى، الاستعجال لاحتفالٍ “شعبوي” مليء بالصور، تعلن فيه أنّ الإرهاب قد أفل، هو ما حرّك كل شيء.
دارسو الإرهاب، يعضون أصابع الندم منذ سنوات، لأنّ دائرة التطرف المفزعة؛ كلما فترت أذكتها نيران التلاعب غير البريء، فمثلما أصدر مستشارو أوباما عقيدة “أفول الإرهاب” قبل ظهور القاعدة، أُعيد تصدير الفكرة من جديد. ولكن هذه المرة بإحداث تقسيمات رشيقة للإرهاب، يمكن فهمها بألف تصور، ولكن التصور الأسوأ فيها: “الإرهاب الذي يؤذي أميركا، والإرهاب الذي لا يؤذيها”، أما الأخير، فالتحليلات تعود به إلى مصاف “مجرد” التطرف، وما تفرضه العادات؛ وما يجلبه المجتمع على نفسه!
كل هذه التحليلات، تحتاج أن تعود إلى النقطة الأولى: حسنًا، كان يفترض أن تدخل طالبان إلى كابول في نوفمبر (تشرين الثاني) القادم، فما الذي غيرته الشهور الثلاثة في الحكاية؟ وما الخطة التي كان يعدها “المسؤولون” عن الانسحاب للحقبة التالية؟
من تعرضْ عليه السؤال يُجِبْك أولاً بانتقاد، أنّ العمليّة كلها مليئة بالثقوب من يوم بدأت. بنبرةٍ لا تخلو من انهزامية، مخيفة لكل دارسٍ وعارف بخطر الإرهاب.
بايدن كان على حق ولكن
علل البروفيسور تشارلز كوبشان (Charles Kupchan)، أستاذ الشؤون الدولية بجامعة جورج تاون، الانهيار السريع للقوات الأفغانية، بفشل سياسات الولايات المتحدة في هذا البلد، قائلاً: “لقد انطوت مهمتنا على عيوب قاتلة منذ البداية. كانت محاولة تحويل أفغانستان إلى دولة مركزية وموحدة، مهمة حمقاء بحق. إن التضاريس الصعبة للبلاد، والتعقيد العرقي، والولاءات القبلية والمحلية تدفع لوجود انقسام سياسي دائم. هذا بالإضافة إلى جوارها المضطرب، وعداء شعبها التاريخي للتدخل الخارجي مما يجعله محفوفًا بالمخاطر”. أما فيما يخص قرار الانسحاب الذي وصفه البعض بالمتسرع والفوضوي، فقد رأى أن تأجيله لم يكن ليحدث فرقًا، وذلك لأن: “الظروف الصعبة التي لا مفر منها في أفغانستان، تؤدي حتمًا إلى فشل أي جهد لتحويلها إلى دولة حديثة. لقد اتخذ بايدن الخيار الصعب والصحيح بالانسحاب، وإنهاء جهد خاسر بحثًا عن هدف بعيد المنال وربما غير قابل للتحقق، كما أن الأحداث الأخيرة أكدت -إلى حد كبير- صحة شكوك الرئيس بايدن في أن الجهود التي تقودها الولايات المتحدة، يمكن أن تُمكن الحكومة الأفغانية من الوقوف على قدميها”.
أما الحديث عن “الهزيمة” الأميركية كما يروج لها البعض -وقد تكون مناقشة هذا الأمر مهمة، لفهم معياره من الناحية الأميركية- فقد فنده كوبشان بالقول: “لم يكن الهدف الاستراتيجي للولايات المتحدة، من الحرب في أفغانستان احتلالها أو جعلها ولاية أميركية، بل القضاء على تنظيم القاعدة، ومنع حدوث أي هجمات عليها أو على حلفائها انطلاقًا من الأراضي الأفغانية، وهو ما تحقق بالفعل، وينطبق الشيء نفسه على الفرع الأفغاني لتنظيم الدولة الإسلامية، الذي لم يعد لديه القدرة على شن هجمات خارج أفغانستان. في غضون ذلك، أنشأت الولايات المتحدة شبكة عالمية من الشركاء لمحاربة الإرهاب في جميع أنحاء العالم، وتبادل المعلومات الاستخباراتية ذات الصلة، وتعزيز الدفاعات المحلية بشكل مشترك ضد الهجمات الإرهابية، وأصبحت الولايات المتحدة وحلفاؤها اليوم أهدافًا أصعب بكثير مما كانت عليه في 11 سبتمبر (أيلول) 2001. حيث لم تتمكن القاعدة من تنفيذ أي هجوم خارجي كبير منذ تفجيرات لندن 2005”. ثم يختتم تقييمه لهذه الحرب وقرار الانسحاب، بأن: “طالبان، ليس من مصلحتها إعادة تحالفها القديم مع القاعدة، وستسعى للحصول على شرعية دولية تمكنها من الحكم، ولذلك بايدن محق في التمسك بقراره بإنهاء المهمة العسكرية في أفغانستان، لأن القيام بذلك يتفق مع إرادة الناخبين الأميركيين، حيث نفد صبر معظم الجمهور الأميركي، والديمقراطيين والجمهوريين على حدٍ سواء، من (الحروب الأبدية) في الشرق الأوسط”. وحمل كوبشان هذه “الحروب الأبدية” المسؤولية في ظهور ما يصفها بـ”الشعبوية غير الليبرالية” التي أدت إلى انتخاب ترمب كرد فعل للتوسع الأميركي المتصوَّر في الشرق الأوسط الكبير. قائلاً: “لقد كان قرار بايدن حكيماً، ولا ينبغي عكسه بأي حال من الأحوال، يريد الناخبون الأميركيون أن تذهب أموالهم الضريبية إلى كانساس، وليس قندهار”[2].
وهنا بإمكان القارئ النظر إلى زاوية من الحدث، أن تقبّل وجود حركة طالبان في الحكم مرهون بعدم علاقتها “المباشرة” مع تنظيم القاعدة في أفغانستان، وما يجعل المحللين متأكدين أنّ هذا لن يحدث؛ هو أنّه ليس من مصلحة طالبان فعل ذلك. والسؤال الوحيد الذي استثناه كل المحللين: ما تعريف المصلحة عند طالبان؟!
في هذه الأجواء المأساوية، والتبريرية، كتب الدبلوماسي الأميركي السابق مايكل مكينلي (Michael McKinley)، مقالاً بعنوان (كلنا خسرنا أفغانستان)، موضحًا ألا مجال للحديث عن “هزيمة” أميركية في هذا البلد، بل عن فشل في تحقيق الهدف الثانوي وهو بناء دولة حديثة، بعدما تحقق الهدف الأساسي المتمثل في ضمان عدم تحول أفغانستان، من جديد لنقطة انطلاق للهجوم على أميركا وحلفائها في المستقبل، قائلاً: “مع سقوط كابول في أيدي طالبان، أصبحنا أمام سيل من الاتهامات والإدانة الصريحة بلا هوادة، لسحب إدارة بايدن القوات الأميركية من أفغانستان. حيث عبر مستشار الأمن القومي السابق الجنرال ماكماستر (McMaster)، عن مشاعر الكثيرين، عندما أعلن أن أفغانستان مشكلة إنسانية تجسد حدود العصر الحديث بين البربرية والحضارة، وأن الولايات المتحدة تفتقر إلى الإرادة لمواصلة الجهود لصالح البشرية جمعاء”. ثم يختتم مقاله بالقول: “ما يحدث الآن في كابول مأساة رهيبة، لكن اللوم لا يمكن أن يُلقى على بايدن وحده. كان الجدول الزمني القصير لإدارة بايدن للانسحاب، والمرتبط بالذكرى العشرين لأحداث 11 سبتمبر (أيلول)، وفي منتصف موسم القتال؛ خطأ. لكن الوضع على الأرض هو نتيجة عقدين من الحسابات الخاطئة والسياسات الفاشلة التي انتهجتها ثلاث إدارات أميركية سابقة، وفشل قادة أفغانستان في الحكم لصالح شعبهم”. ثم يرد على النقاد الأميركيين بالداخل بالقول: “إن العديد من هؤلاء النقاد الذين تحدثوا علانية اليوم كانوا من مهندسي تلك السياسات الفاشلة”[3].
يلاحظ أن دائرة الانتقاد مهما اتسعت، فإنّها تنبع من إيمان عميق بأن الخطأ يعود إلى التاريخ، وهذا الستار التبريري مقنع ومفيد في إعادة رسم حدود الغضب والرضا للمتابعين، ولكنّ التاريخ يقول: إنّه لا يقول الحقيقة، والمتشائمون ينظرون إليه على أنّه بداية التخلي الأخلاقي، وانهيار الإرادة في الالتزام بمنجزات الإنسان.
يكفي إصرار الجميع على التفاضل بين مصطلحات “الهزيمة، والانسحاب” و مفاهيم “الانتصار، والعودة” التي يفرضها المشهد، المغذّي لمخيال العنف السياسي أو الديني.
يمكن تقديم تفسير آخر لأسباب هذا السقوط السريع، وماذا ينبغي أن يتبعه أميركياً. كتبت عنه الخبيرة في مركز الأمن والاستخبارات للقرن الحادي والعشرين في برنامج السياسة الخارجية في معهد بروكينغز، فاندا فلباب براون (Vanda Felbab-Brown)، مقالاً تحت عنوان (لماذا انتصرت طالبان، وما الذي يمكن أن تفعله واشنطن حيال ذلك الآن). تقول: “ربما لم يتوقع أحد أن تنهار قوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية بهذه السرعة. لكن في الواقع ولسنوات عدة، كانت هناك دلائل على أن طالبان بدأت في الصعود عسكريًا، وأن قوات الدفاع الشعبي الأفغانية تعاني من أوجه قصور خطيرة تجاهلتها الحكومة الأفغانية، بل وعملت على تفاقمها. كما أن قوات الأمن الوطنية الأفغانية، كانت تسلم المدن، وتبيع السلاح إلى طالبان، لذلك من غير المستغرب سقوط مدن أفغانستان الواحدة تلو الأخرى بيد طالبان، بعدما فقد الشعب الثقة بالحكومة، وهو ما أدركت معه إدارة بايدن أن بقاءها لم يكن ليؤدي لتغيير”.
تنتقد الكاتبة الإدارة الحالية وكذلك الإدارات السابقة بالقول: “لا بد للولايات المتحدة أن تضغط بشكل كبير على حلفائها لتغيير سياستهم، وعدم ترك حرية التصرف لهم وإلا سنشهد المزيد من سيناريوهات السقوط كما حدث في أفغانستان”. وتذكر أمراً آخر تسبب في هذا السقوط السريع: “لقد تخيلت الحكومة الأفغانية -شأن العديد من حلفائنا- أن الولايات المتحدة لا يمكنها الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط الكبير، أو أنها غير جادة في ذلك، وعليه لم تقم حكومة كابول بما يتوجب عليها فعله نتيجة عدم فهمها لتغير السياسات الأميركية”. ثم تنتقد الانسحاب السريع بالقول: “كان ينبغي أن يتم الانسحاب في ديسمبر (كانون الأول) القادم بدلاً من الآن، حتى يتم الضغط على الحكومة الأفغانية وطالبان للتوصل لاتفاق”. وتختتم المقال بتوصيات للإدارة الأميركية، أهمها: “الضغط على طالبان والتواصل معها ليكون لدى واشنطن نفوذ مؤثر عليها، حيث إن موسكو وبكين، قد عقدا تفاهمات بالفعل مع طالبان، وبات نفوذهم هو الأقوى الآن”[4].
جدلية الانتصار، والهزيمة أقضّت مضجع الخبراء، لمدلولها النفسي، وتضليلها في سياق القراءة، ولئن بدت حالةً نفسية إلا أنّها تستحق الوقوع أو الوقوف عليها، قبل مناقشة المدى بشكل منطقي. هذا ما فعله دانييل بايمان (Daniel Byman)، الأستاذ المساعد والعميد في كلية والش للخدمة الخارجية في جامعة جورج تاون، حين كتب مقالاً بعنوان “تفنيد الأساطير حول انتصارات الجهاديين”، منتقدًا حديث البعض عن “هزيمة” أميركية من باب التنافس الحزبي، أو الترويج لمزاعم “الجهاديين” الأسطورية كما سبق في حرب الأفغان مع السوڤيت، حيث قال: “مع انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان وانتصار طالبان، حقق العالم الجهادي (الإرهابي) انتصارًا دعائيًا مشابهًا لما شهده قبل أكثر من (30( عامًا. من الأساطير الأساسية للحركة “الجهادية” الحديثة أن المقاتلين الأجانب هم الذين طردوا الاتحاد السوڤيتي من أفغانستان، وأنهم لم يكونوا فقط حاسمين في هزيمة موسكو عام 1989، ولكنهم سرّعوا أيضًا في انهيار الاتحاد السوڤيتي والشيوعية. استمرت هذه الأسطورة تتردد حتى الآن، على الرغم من أن المتطوعين الأجانب لم يكونوا مهمين عسكريًا في النضال الشامل ضد السوڤيت”. وبخصوص انتقاد البعض لبايدن، واعتبار قراره بالانسحاب سيؤدي لعودة “الجهاديين” من جديد إلى أفغانستان، علق قائلاً: “خطر عودة القاعدة قد يكون أمراً حقيقياً، لكن عودة أفغانستان إلى دورها قبل 11 سبتمبر (أيلول) كملاذ آمن للإرهاب “الجهادي” أمر غير مرجح. على الرغم من أن انتصار طالبان سيجعل -بلا شك- سياسة مكافحة الإرهاب التي تنتهجها واشنطن أكثر صعوبة في التنفيذ، لكن ضعف القاعدة، والحوافز الخاصة لطالبان، والتحسينات التي أعقبت 11 سبتمبر (أيلول) في تنسيق الاستخبارات الأميركية، والأمن الداخلي، والعمليات العسكرية عن بُعد، كلها تقلل من التهديدات والمخاطر”[5].
إذن، كل الإشكالية تمثّلت في ما إذا كانت أفغانستان ستعيش وحدها تحت حكم طالبان، أم إنّ جماعات أخرى ستنضم إليها وتصدر منها التطرف إلى العالم. مثّل هذا الاستنتاج المتسرّع يعد طبقةً سفلى من الشكوك الكئيبة عنوانها: ليس غياب الإرادة الأميركية ولا التقديرات الخاطئة للاستراتجية الانعزالية الجديدة، بل المساهمة في تقويض مصداقية المجتمع الدولي الذي تقوده أميركا في عهد بايدن.
السقوط الكبير للمصداقية الأميركية
ندد الدبلوماسي الأميركي السابق ريتشارد هاس (Richard Haass)، رئيس مجلس العلاقات الخارجية (CFR)، بقرار بايدن الانسحاب من أفغانستان، حيث رأى ألا مبرر له على الإطلاق، في ظل عدم وجود خسائر بالأرواح وقلة عدد قواتها (“3000” جندي أميركي يقتصر دورهم على تدريب وإرشاد ودعم القوات الأفغانية)، وهو ما كان يمنح شعوراً بالأمان لحوالى (8500) جندي من قوات التحالف الدولي، ويشكل دعامة نفسية للقوات الأفغانية. قسم هاس في مقاله الحروب إلى صنفين: “حرب ضرورية”، وأخرى “اختيارية” . الأولى مثل “الحرب العالمية الثانية، أو حرب الخليج الثانية 1991″، وهي “تُعتبر الطريقة الأفضل والوحيدة في كثير من الأحيان لحماية المصالح الوطنية الحيوية”. أما الثانية، “الحروب الاختيارية”، مثل “حرب فيتنام وحرب العراق عام 2003، حيث يخوض بلد ما الحرب على الرغم من أن المصالح الوطنية المعرضة للخطر أقل من أن تكون حيوية، وهناك أدوات غير عسكرية يمكن استخدامها”. وفي مثل هذا النوع من الحروب، يكون “الانسحاب ذا نتائج مأساوية، خصوصًا في ظل عدم إنجاز كامل المهام، وعدم وجود رفض من الحكومة المضيفة لبقائها، أو أصبح وجودها مرفوضاً دوليًا، أو هناك تظاهرات شعبية منددة بها، حيث لم يكن أي مما سبق ينطبق على حالة الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان”.
يحمل هاس، مسؤولية قرار الانسحاب لإدارة ترمب في المقام الأول، وتجاهلها إشراك الحكومة الأفغانية في المفاوضات مع طالبان، ولكنه يحمل بايدن، مسؤولية التزامه بهذه الاتفاقية المعيبة، وعدم وضع مخطط لما سيحدث بعدها، والمخاطر المحتملة على باكستان مع عدد سكاني كبير، ووضع أمني هش، وامتلاكها أسلحةً نووية، وتوتر علاقاتها مع الهند. ثم يختتم حديثه بنقد شديد لتعامل بايدن، مع حلفاء الولايات المتحدة بالقول: “يشير السقوط السريع لكابول إلى ذلك السقوط المخزي سابقًا لسايغون [في جنوب فيتنام] عام 1975. وبعيدًا عن العواقب المحلية (أعمال انتقامية واسعة النطاق، وقمع شديد للنساء والفتيات، وتدفقات هائلة للاجئين) فإن الفشل الاستراتيجي والأخلاقي لأميركا في أفغانستان سيعزز التساؤلات حول مصداقية الولايات المتحدة بين الأصدقاء، من دول وحكومات وأفراد وأعداء على حدٍ سواء”. كما يرى أن بايدن، الذي أبدى عدم ندمه على قرار الانسحاب، “عليه أن يراجع نفسه ويبدي ندمه عليه”. لأن الانسحاب بهذا الشكل المتسرع شكل “صدمة للقوات الأفغانية، مما دفعها للاستسلام، ومنح طالبان فرصة التمدد السريع، وهو ما أدى لهذا السقوط المروع للعاصمة كابول”[6].
لا أحد يستطيع أن ينسى كيف كانت شعارات استعادة مصداقية أميركا واحترامها، تلوّن شعارات بايدن الحقوقية. واليوم، بات كل شيء تحت مظلة الشك.
كتبت ستيفن كولينسون (Stephen Collinson)، مراسل شبكة (CNN) في البيت الأبيض، تحليلاً بعنوان (خروج بايدن الفاشل من أفغانستان بمثابة كارثة في الداخل والخارج ستمتد آثارها لفترة طويلة). انتقد فيه بشدة ما وصفت بـ”تخلي” إدارة بايدن، عن حلفاء الولايات المتحدة، مع إقراره بضرورة الانسحاب، قائلاً: “كارثة هزيمة الولايات المتحدة، والتراجع الفوضوي في أفغانستان، كارثة سياسية لجو بايدن، الذي أدى إخفاقه في تنظيم خروج عاجل ومنظم إلى زعزعة رئاسته التي ابتليت بالأزمات، وتلطيخ إرثه. تمثل حرب أفغانستان، أحد إخفاقات الولايات المتحدة وحلفائها، وسوء فهم للسياسة والثقافة الأفغانية، والتعب العام الشعبي من الحرب، وتورط وفساد قادة الدولة الفاشلة الحليفة، وبينما يندفع خصوم بايدن السياسيون والجيوسياسيون لاستغلال أخطائه، لا يمكن الحكم على الحجم الحقيقي للأزمة إلا من خلال المأساة الإنسانية لشعب يتعرض مرة أخرى لاضطهاد طالبان. نحن مدينون لكل من عمل معنا، بمنحهم تأشيرة الهجرة الخاصة. نحن مدينون لهم بمنحهم الأمان”[7].
كانت مأساة اللاجئين هي صدر صور الأخبار في العالم، وتعرّضوا لتشويهٍ كبير، تسبب به -خطاب على المنصات الأميركية الرسمية- الأمر الذي جعل ذوي القابلية للتطرف يصفونهم بأقذع الألقاب، ويحرضون عليهم بلا هوادة.
العالم الذي تعوّد على الإخراج المتماسك للأحداث السياسي، والمسحة الأخلاقية الملتزمة بالحرية والتنوير والمستقبل، أصيب بخيبة أمل. آخرون قرروا أن ينظروا إلى انفصام الإدارة الأميركية عن الواقع، وكأنها تعيد تجريب سياسات “فشلت” قبل (10) سنوات!
تحت عنوان (هروب الولايات المتحدة من أفغانستان بمثابة وصمة عار)، كتب الصحفي الأميركي مايكل ألين (Michael Allen)، تقريراً رصد فيه ردود الأفعال على هذا القرار، الذي لم يختلف المعلقون فيه على ضرورة الانسحاب، ولكنهم انتقدوا فوضويته، وتخلي إدارة بايدن عن الحلفاء، وتوقعاته البعيدة عن الواقع. يقول: “نادرًا ما كان لرئيس أميركي توقعات خاطئة بشكل كبير، مثلما هو حال الرئيس بايدن، الذي طمأن الأميركيين قبل خمسة أسابيع، بأن طالبان لن تتمكن من السيطرة على أفغانستان بأكملها، كما أكد في أبريل (نيسان) الماضي، أن الانسحاب سيكون منظماً ومنسقاً، وبلا تسرع وسيتم بمسؤولية، بينما ما حدث في الواقع أن سيطرت طالبان على العاصمة، وقاعدة بغرام الجوية. إنه فشل مذهل للغرب وإحراج لبايدن، ونتيجة مؤلمة لأولئك المحاربين القدامى الأميركيين الذين ضحوا في أفغانستان على مدار العشرين عامًا الماضية، وأكثر من (20000) جريح من جراء القتال، والناجين، وأكثر من (2300) جندي أمريكي قتلوا في ساحات المعارك”. يحمل ألين بايدن وإدارته المسؤولية الكاملة عن هذا السقوط المدوي، لأن تصرفات الإدارة: “أعطت إشارات لطالبان بأنها مستعدة لعودتهم للحكم من جديد، وهو ما أضعف عزيمة مقاتلي الحكومة الأفغانية”.
صرح رايان كروكر (Ryan Crocker)، السفير الأميركي في أفغانستان في عهد الرئيس الأسبق أوباما، في برنامج “هذا الأسبوع” على شبكة (ABC): “أعتقد أن ما حدث في أفغانستان، وصمة عار لا تُمحى في رئاسة بايدن”. كما قال ريتشارد فونتين (Richard Fontaine)، رئيس مركز الأمن الأميركي الجديد، والمستشار السابق للسياسة الخارجية للسناتور جون ماكين: “إنه لأمر مدهش أنه بعد (20) عامًا من التفكير في الأمر، سحبت الولايات المتحدة قواتها دون خطة”، وأضاف فونتين: “مع مغادرة الجزء الأكبر من القوات الأميركية، لم تكن هناك خطة لتأمين الوصول إلى القاعدة الإقليمية للمتعاقدين، ولا تدريب الجيش الأفغاني على التعامل مع الأحداث بعد رحيل الولايات المتحدة، ولا إجلاء للمترجمين والمساعدين”.
بينما أعرب دوج لوت (Doug Lute)، وهو جنرال متقاعد بالجيش كان يدير الاستراتيجية الأفغانية في مجلس الأمن القومي للرئيسين جورج دبليو بوش وباراك أوباما، لصحيفة نيويورك تايمز، أعرب عن أن اللغز بالنسبة له: “هو غياب التخطيط للطوارئ، إذا كان الجميع يعلم أننا متجهون إلى الانسحاب، لماذا لم يكن لدينا خطة خلال العامين الماضيين لإنجاح هذا الأمر؟”[8].
كان النقد الأعلى سقفًا واللافت لبايدن وأركان إدارته، من الكاتب الأميركي ماكس بوت (Max Boot)، الخبير في شؤون الأمن القومي، والمعروف بمواقفه المناهضة للرئيس السابق ترمب، حيث رأى أن الأخير قد وضع بعض الشروط والقيود على طالبان قبل تنفيذ قرار الانسحاب، وهو ما لم يفعله بايدن، على الرغم من أنه حمل أسباب ما يصفه بـ”الفشل” في أفغانستان للإدارات السابقة، فإن نتيجة هذا الفشل -حسب رأيه- سيذكرها التاريخ في سجل بايدن وحده، قائلاً: “استيلاء طالبان على أفغانستان قبل أقل من شهر من الذكرى العشرين لهجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 الإرهابية. معززين بالأسلحة الأميركية الغزيرة التي استولوا عليها، وبالهيبة الناتجة عن إهانتهم لقوة عظمى، ستؤدي لأن تصبح طالبان الآن أكثر خطورة من أي وقتٍ مضى. وهو ما يتحمل مسؤوليته بايدن، الذي سيترك وصمة عار لا تُمحى في رئاسته”. كما سخر من تصريحات بايدن السابقة بأن: “طالبان ليست (…) جيش فيتنام الشمالية. إنهم ليسوا كذلك -لا يمكن مقارنتهم بهم من حيث القدرة”. لكن وبحسب بوت، بعد (38) يومًا بالضبط: “شوهدت طائرات هليكوبتر أميركية عملاقة تحلق في سماء كابول وهي تقوم بإخلاء السفارة الأميركية، تمامًا كما حدث في سايغون”.
ويضيف: “هذا هو أسوأ فشل في السياسة الخارجية للولايات المتحدة منذ سقوط سايغون عام 1975، بل أسوأ حتى من سقوط الموصل في العراق عام 2014 في يد تنظيم الدولة الإسلامية [داعش]، وهي كارثة أخرى كان من الممكن تجنبها من خلال الاحتفاظ بوجود صغير للقوات الأميركية في العراق”. كما رفض مبررات الرئيس بايدن، بتحميل ترمب مسؤولية الاتفاق مع طالبان، أو قوله بأن عدم تطبيقه يعني إرسال مزيد من الجنود الأميركيين إلى أفغانستان، قائلاً: “لا أحد كان يقترح أن الولايات المتحدة بحاجة إلى المزيد من القوات القتالية في أفغانستان. كان الالتزام الحالي للولايات المتحدة بحوالي (2500) مستشار، جنبًا إلى جنب مع القوة الجوية الأميركية، كافياً للحفاظ على توازن ضعيف حيث أحرزت طالبان تقدمًا في الريف، لكن المدن الكبرى ظلت في أيدي الحكومة، وكان يمكن لهذا الوضع أن يستمر حتى التوصل لاتفاقية جادة مع طالبان”. أما قول البعض: إن بقاء (2500) جندي أمريكي لم يكن ليحدث فرقاً، فقد رد على هذا الزعم، بالقول: “لا يمكن لبايدن أن يدعي جهله بما سيحدث. لقد تم تحذيره بإسهاب من قبل مجتمع المخابرات الأميركية، لكن الشيء الوحيد الذي لم أتوقعه، ولم يتوقعه أحد، هو مدى سرعة حدوث الانهيار. حتى يوم الاثنين الماضي، حذر الجيش الأميركي من أن سقوط كابول سيستغرق (30) إلى (90) يومًا. الآن، بعد ستة أيام فقط سقطت، وذلك بسبب هذا الانسحاب السريع غير المشروط، وسيقضي بايدن بقية فترة رئاسته في مواجهة العواقب المأساوية لهذه الكارثة التي كان يمكن تفادي حدوثها”[9].
خلاصات
يبدو من تصريحات المعلقين الأميركيين غير المتحزبين، أنهم لا يرون فرقًا جوهريًا بين سياسات الرئيس ترمب “اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”، وسياسات بايدن “أميركا عادت إلى الطاولة”، سوى في الشكل دون المضمون، فكلاهما مؤيد للانسحاب من “الشرق الأوسط الكبير” حسب الوصف الأميركي، ولديه موقف مناهض للتوسع الصيني، ورافض للتورط في حروب وصراعات جديدة، ويولي اهتمامه بالشأن الداخلي أكثر من الشؤون الخارجية. ويقع التباين في الأساليب.
لا يكاد يوجد اختلاف كبير حول قرار الانسحاب من أفغانستان، ولكن الخلاف الجوهري يمكن حصره في سرعة هذا الانسحاب، وعدم وجود خطة مسبقة، وتقديم ما يصفه البعض “هدية” مجانية لطالبان بالسيطرة على البلاد دون أي شروط بشأن مستقبل أفغانستان. والسؤال هنا: هل هي هديّة مجانية حقاً؟ أم إنّ لها مقابلاً ستتضح تفاصيله خلال الأشهر القريبة، له علاقة بالتغييرات الجيوسياسية، التي تمنح إيران اتفاقاً نوويًا ألغاه ترمب، وطالبان سلطةً وحكماً فيه “بذرة انشقاق”؟
شأن الكثير من قرارات الرئيس الخارجية، انقسم المجتمع السياسي الأميركي حول قرار بايدن، ما بين مؤيد ومدافع عنه، ومعارض ناقد له، وذلك -في الغالب- على أساس حزبي أكثر منه موقف مبني على دراسة واقعية لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها، وهو ما بات يميز الحالة السياسية الأميركية بالأعوام السابقة.
اتفقت أصوات عدة مشهود لها بالكفاءة وعدم التحزب في تقييماتها السياسية، بأن أسوأ ما كان في قرار بايدن هو إفقاده لمصداقية الولايات المتحدة؛ ليس أمام أعدائها، ولكن حلفائها شعوب وحكومات العالم المتحضّر والمؤمن بالستقبل.
قللت غالبية المعلقين الأميركيين، من إمكانية تحول أفغانستان من جديد لبؤرة للحركات الإسلاموية المسلحة، وتجاوب معهم بشكل ذكي الخطاب الطالباني الجديد، بتأكيد ذلك. ولكن الكثيرين أيضاً أبدوا مخاوفهم مما يمكن وصفه بـ”الإلهام” الذي ستشكله طالبان للمتطرفين وحركات الإسلام السياسي مرة أخرى، وانعكاساته السلبية على مكافحة الإرهاب، وقبل ذلك قيل: إن طالبان ليس من “مصلحتها” استضافة المتطرفين “العابرين” للحدود؟ أو لنقل “ليس من مصلحة فصيل سينشق عنها” في ذلك؟
[1]– The Afghan Military Was Built Over 20 Years. How Did It Collapse So Quickly? – The New York Times – 16 – 08 – 2021, https://www.nytimes.com/2021/08/13/world/asia/afghanistan-rapid-military-collapse.html
[2]– Article by: Charles A. Kupchan – CFR – Biden Was Right – August 16, 2021, https://www.cfr.org/article/biden-was-right
[3]– By: P. Michael McKinley – Foreign Affairs – We All Lost Afghanistan – August 16, 2021, https://www.foreignaffairs.com/articles/united-states/2021-08-16/we-all-lost-afghanistan-taliban
[4]– By: Vanda Felbab-Brown – Foreign Affairs – Why the Taliban Won – August 17, 2021, https://www.foreignaffairs.com/articles/united-states/2021-08-17/why-taliban-won
[5]– By: Daniel Byman – Foreign Affairs – Will Afghanistan Become a Terrorist Safe Haven Again? – August 18, 2021, https://www.foreignaffairs.com/articles/afghanistan/2021-08-18/afghanistan-become-terrorist-safe-haven-again-taliban
[6]– Article by: Richard N. Haass – CFR – America’s Withdrawal of Choice – August 15, 2021, https://www.cfr.org/article/americas-withdrawal-choice
[7]– Analysis by: Stephen Collinson – CNN – Biden’s botched Afghan exit is a disaster at home and abroad long in the making – August 16, 2021, https://edition.cnn.com/2021/08/16/politics/afghanistan-joe-biden-donald-trump-kabul-politics/index.html
[8]– By: Mike Allen – Axios – Biden’s stain: U.S. flees Kabul – Aug 15, 2021, https://www.axios.com/biden-taliban-kabul-legacy-0980aeba-a748-4ea5-a9b4-24a5ee899e9f.html
[9]– Max Boot – The Washington Post – Opinion: Twenty years of Afghanistan mistakes, but this preventable disaster is on Biden – August 15, 2021, https://www.washingtonpost.com/opinions/2021/08/15/twenty-years-afghanistan-mistakes-this-preventable-disaster-is-biden/