ما المشروع الذي كانت تطرحه الأصولية بديلاً عن دساتير دول الاستقلال؟ وفي حال أنّها نجحت آنذاك في فرض دستورها، فهل كان الوضع اليوم أفضل مما هو عليه؟
لقد كان أبو الأعلى المودودي (1903- 1979) «زعيم الدستورية الأصولية»، وعنه أخذ كلّ المنظّرين الأصوليين في هذا الموضوع بعده. والسبب في ذلك أن المودودي وجد نفسه في قلب المعركة عندما طرحت قضية الدستور الباكستاني، وباكستان -كما هو معلوم- قد انفصلت عن الهند بعد أن انقسمت حركة التحرّر الوطني ضدّ الاستعمار الإنجليزي بين الهندوس والمسلمين. من وجهة نظر المودودي، إسلامية باكستان لم تكن تعني فقط بناء دولة جديدة يتحوّل فيها المسلمون من وضعية الأقلية إلى وضعية الأغلبية، أي أن يحدّد المسلم حسب الانتماء الثقافي والديموغرافي، بل كان يطالب بأكثر من ذلك، أي تحويل المسلمين بالمعنى أي الانتماء إلى مسلمين منصاعين إلى الأحكام الدقيقة للإسلام. وإذا كانت باكستان قد انفصلت عن الهند، فإن المودودي قد أسس في الخمسينيات «الجماعة الإسلامية» ليفصل المسلمين الذين يعتبرهم حقيقيين عن جموع المسلمين الباكستانيين الذين لا يحملون من الإسلام إلا الاسم. أما مشروع الدعوة الذي طرحه المودودي، فيتمثّل في إقامة دولة شمولية في باكستان، على غرار النازية والفاشية والشيوعية، تعيد تربية المسلمين الاسميين ليصبحوا مسلمين حقيقيين، ثم استعادة حركة الدعوة والجهاد لإكمال ما لم يكمله المسلمون قديماً، أي إدخال كل الهندوس في الإسلام، ثمّ الانطلاق في العالم كلّه لإدخال كل البشر في الإسلام. هذه هي مهمة الدولة الإسلامية حسب المودودي، وعليه فإن دستورها ينبغي أن يكون قائماً على أساس تنفيذ هذه الغاية. ومن المفارقات الغريبة في التاريخ أن الدعوة الأصولية للمودودي لم تجد لها صدى كبيراً في الهند ولا في الغرب، عكس ما كان يأمل، لكنّ صداها الأكبر كان في العالم العربي، عندما اخترقت فكر «الإخوان المسلمون» وأصبحت مرجعيتهم الطاغية. عموماً ما يشار إلى سيّد قطب على أنه المسؤول عن ذلك، وفي هذا بعض الصحة، لكن الحقيقة أيضاً أن الفكر الإخواني الذي وضعه حسن البنّا قبل ذلك كان مهيّأ لاستقبال هذا النوع من الأفكار.
سخّر المودودي حياته لمحاربة الأفكار الغربيّة، لكنّه سافر إلى الولايات المتحدة عندما أصيب بمرض عضال وتلقّى فيها العلاج إلى أن وافته المنية في مدينة نيويورك، ولم يتابع تعليماً نظاميّاً لا في القانون الحديث ولا في العلوم الشرعية والعربية، لذلك يصعب الحكم على العديد من آرائه: هل هي نتيجة سوء الفهم وضعف التكوين، أم هي مكر ودهاء لتوجيه القارئ حين يريد؟
لقد عرض المودودي مشروع الدستور الأصولي في كتابه «تدوين الدستور الإسلامي»، وكلمة «تدوين» ذات دلالة لأنها تخلّص من فكرة أن الدستور جزء من النظام السياسي الحديث، فمن وجهة نظره، الدستور الإسلامي موجود منذ القديم، وما على المسلمين اليوم إلاّ أن يقوموا بتدوينه. وبما أن المسألة لا تعدو أن تكون قضية تدوين، فلا حاجة لهم البتّة بمعرفة العلوم السياسية الحديثة أو القانون الدستوري، ولا حاجة لهم بقانونيين ودستوريين، وإنما يحتاجون فقط إلى رجال دين قادرين على استخراج قواعد الدستور الإسلامي من المصادر الدينية، وهي القرآن والسُنّة وأعمال الخلفاء الراشدين واجتهادات الفقهاء. وكي يقدّم فكرته هذه في صورة مقنعة، ينطلق من مغالطة يمكن أن تنطلي على الكثير من القرّاء، خصوصاً في بلدان مثل الهند خاضعة للثقافة الإنجليزية. فيزعم أنه ليس شرطاً أن يكون الدستور مدوّناً، فإنجلترا ليس لها دستور مدوّن، فكذلك كان للمسلمين دستور غير مدوّن. والمغالطة تتمثّل هنا في الفارق بين الوضعين، فالمرجعية الدستورية في إنجلترا ترتبط بتراث متواصل يدور حول تحديد صلاحيات الحاكم ومنح السيادة للشعب عبر التمثيل البرلماني، وقد تجسّدت هذه المرجعية في مجموعة من الوثائق السياسية من «الماغنا كارتا» (Magna Carta) (1215) إلى «إعلان الحقوق» (1689) الصادر بعد الثورة الإنجليزية الثانية، وغيرها من المرجعيات المرتبطة بتجربة طويلة في إنشاء نظام قائم على الحرية، وفكر سياسي ليبرالي طوّره فلاسفة كبار مثل: توماس هوبز، وجون لوك، وتجربة برلمانية متواصلة على مدى أكثر من سبعة قرون. وقد نشأ الفكر الدستوري الإنجليزي في غمار الفلسفة السياسية الحديثة عموماً، التي ناقشت بعمق قضايا مثل العلاقة بين الدين والسياسة، وميزت بين السلطات الثلاث، وحدّدت معالم الحكم المدني… إلخ. في حين ظلّت هذه القضايا عالقة في الفكر العربي والإسلامي، واقتصر الفكر الدستوري -إذا جاز التعبير- بما يستوجب طرح القضايا الحديثة وكتابة دساتير في ضوء المناقشات حولها، وأولها: هل الدستور وثيقة دينية كي يستخرجه رجال الدين من المصادر الدينيّة؟ أم إنّه وثيقة مدنية؟
لم يكن الأوروبيون من دون دين عندما بدؤوا يطرحون فكرة الدستور بالمعنى الحديث، وكان الكثير من مفكريهم يدعون إلى دستور ديني ويدافعون عن الدولة الدينية، منهم الكاهن والكاتب الكبير بوسيه (Bossuet) صاحب مصنّف عنوانه «السياسة مقتبسة من الكتاب المقدس» وقد دافع فيه عن آراء تشبه كثيراً آراء المودودي. فالقضية ليست غرباً علمانياً ضدّ شرق متديّن، وإنما هي اختلاف في الغرب والشرق بين تيّار الأصولية الدينية وتيّار الدولة المدنيّة. والدستور غير المدوّن لإنجلترا قد نشأ في مسار الحسم لهذا الاختلاف. أما في العالم العربي والإسلامي فما زال الاختلاف قائماً، ولا يمكن الزعم بأن الدستور موجود ولم يبق إلاّ تدوينه. إن عنوان رسالة المودودي «تدوين الدستور الإسلامي» عنوان مضلّل، وكان المطلوب أن يطرح أوّلاً سؤال: ما معنى الدستور؟ وما معنى الدستور الإسلامي؟ وهل الدستور وثيقة دينية أم وثيقة مدنية؟ لكنّ المودودي لم يطرح القضية من بداياتها، ومضى مباشرة إلى تقرير الأحكام بصفة سلطوية، على مقاس الدولة السلطوية التي كان يدعو إلى إقامتها. فيقسّم مصادر الدستور الإسلامي إلى القرآن والسنة وأعمال الخلفاء الراشدين واجتهادات الفقهاء. وجعل بذلك قضية الدستور قضية دينية بحتة، فضلاً عن تجاهله الاختلافات والخيبات المعروفة في التجربة السياسية للمسلمين منذ العصور الأولى.
ويطرح عليه مآخذ رئيسة:
أ- لماذا لا يعتبر أعمال بعض الحكّام الكبار جزءاً من المرجعية الدستورية؟ (بعض الإصلاحيين في القرن التاسع عشر أسّس لفكرة الدستور بالعودة إلى القوانين التي وضعها السلطان سليمان المشهور بالقانوني). ولماذا لا يعتبر كتابات الفلاسفة وعلم العمران الخلدوني وكتابات الأحكام السلطانية ومرايا الملوك جزءاً من التراث السياسي المرجعي لاستخراج القواعد الدستورية؟ ولماذا لم يذكر شيئًا عن التجارب الدستوريّة في القرن التاسع عشر، وعن فكر الروّاد مثل الطهطاوي وخير الدين التونسي ومدحت باشا؟
ب- لماذا هذا الانغلاق التام على كل مرجعية دستورية حديثة، مع أن فكرة الدستور لم تنشر في المجتمعات الإسلامية إلا بتأثير من المسارات الدستورية التي شهدتها أغلب مناطق العالم؟ وكيف يمكن الحديث عن الدستور من دون مناقشة الفكر الدستوري ولو بالردّ والنقض؟ وبما أنه بدأ رسالته بالحديث عن إنجلترا والدستور غير المدوّن، ووشّح رسالته بالعديد من العبارات الإنجليزية، فلماذا لم يناقش روّاد الفكر السياسي الحديث، والكثير منهم من إنجلترا، كي يثبت خصوصيات الدستور «الإسلامي»؟
من المفهوم أن هذا التحديد للمصادر الدستورية، إنما يهدف إلى تحويل عملية كتابة الدستور من المختصين في القانون إلى أصحاب العلوم الشرعية، بل إلى ما تسميه الأصولية الإسلامية «الدعاة»، لأن شخصية مثل المودودي ليست متخرجة في مؤسسة تعليمية شرعيّة. وهذه الفكرة ستنتشر كثيراً وتصبح أداة من أدوات التشكيك الأصولي في شرعية الدساتير، بما أن مجرّد وضع رجال قانون لنصوصها يعتبر في ذاته تعدياً على مبادئ تدوين الدستور الإسلامي، حتى لو كان هؤلاء القانونيون مسلمين صادقين في إيمانهم، لكنّهم لا ينتمون إلى الحركات الأصولية. وقد عبّر عبدالحميد متولّي، أستاذ القانون الدستوري، بأفضل تعبير عن هذه المفارقة قائلاً: «لا ريب أنه يكون عجباً دونه كل عجب أن يكون أستاذ القانون الدستوري مؤهلاً لأن يبحث ولأن يبدي رأياً في المسائل الدستورية المتعلّقة بالأنظمة السياسية وغيرها من أنظمة الحكم للدولة الأجنبية، ثمّ لا يكون أهلاً لذلك (أو في تعبير علماء الشريعة: مجتهداً) بصدد البحث في المسائل الدستورية الشرعية الإسلامية، لا سميا إذا كان قد أولاها من العناية والبحث والدرس أضعاف عناية علماء الفقه الإسلامي أنفسهم، أولئك الذين لم يولوا هذه المسائل من عنايتهم شيئاً مذكوراً»[1].
لا تتمثل مهمة الحكومة عند المودودي، في توفير أفضل الظروف للعيش المشترك والصالح العام: «ليست المهمة الحقيقيّة التي تتولاّها الدولة الإسلامية في الأرض هي أن تعمل على إقامة الأمن والدفاع عن حدود البلاد أو رفع مستوى معيشة الأهالي، فما هذا هو الغرض الأقصى والغاية العليا من وراء قيام الدولة الإسلامية، فإن الميزة التي تميّزها عن سائر الدول غير المسلمة هي أن تعمل على ترقية الحسنات التي يريد الإسلام أن تُحلَّى بها الإنسانية، وتستنفد جهودها في استئصال السيئات التي يريد الإسلام أن يطهّر منها الإنسانية»[2].
ويترتّب عليها أن تخضع السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، إلى سلطة أعلى وهي سلطة الخليفة، أو سلطة رئيس الدولة إذا لم تتوافر شروط الخلافة.
وفي ما عدا ذلك، يعلن المودودي قبوله بتجديدات حديثة لنظام الحكم، مثل تحديد سلطات رئيس الدولة، أو اعتماد طريقة الانتخاب لتعيين أعضاء المجلس التشريعي، غير أنه يفرغ كل هذه التجديدات من محتواها. فهو يقبل بالانتخابات لكنه يرفض قيام الأحزاب أو تنظيم الحملات الانتخابية ويعتبر ذلك مخالفاً للإسلام. ويقبل بالتمثيلية الشعبية، ولكن بشرط أن توجد هيئة تتولّى التدقيق في كلّ مترشّح وتحكم عليه: هل تتوافر فيه الشروط الشرعية؟
كما لا يجوز لغير المسلم أن يتولّى المناصب العامة، حسب المودودي. بل يذهب إلى حدّ التصريح بأن سكان الدولة الإسلامية على نوعين: مسلمين وأهل الذمة. ويبرّر ذلك بأن الإسلام يرفض مخادعة الناس بإعلان المساواة الشكلية، ثم يفرق بينهم عملياً، ويستشهد بالنظام الأمريكي الذي يسوّي نظرياً بين السود والبيض، لكنه يمنع عن السود كل الحقوق!
وما كان يقول المودودي لو عاش إلى اليوم ورأى رئيساً أسود يحكم أقوى بلد في العالم؟ وامرأة تحكم أقوى اقتصاد في العالم؟ والخطورة تتمثل هنا في كون المودودي لا يقدّم هذه الأحكام بصفتها آراء شخصيّة، وإنما يقدمها على أنها الإسلام، وكلّ من رفضها فقد خرج عن منهج الإسلام، يقول مثلاً في هذا السياق: «إننا لا نجد في عهد النبوّة ولا في عهد الخلافة الراشدة مثلا يدلّ على أنّ أحداً من أهل الذمّة انتخب عضوا لمجلس الشورى، أو ولي حاكماً على قطر من أقطار الدولة، أو قاضياً عليه، أو وزيراً لشعبة من شعب الحكومة، أو ناظراً عليها، أو قائداً من الجنود، أو سمح له بأن يدلي برأيه في انتخاب الخليفة»[3]. ويقول في المرأة: «أوصد القرآن على النساء باب مجلس الشورى وهو قوّام على الأمة كلها، ولا يزال ما جرى عليه العمل في عهدي النبوّة والخلافة الراشدة ماثلاً لدينا، وهو أوثق وسيلة لمعرفة كيف نفهم وجهة القرآن، فلا نجد في كتب التاريخ ولا الحديث مثالاً يشهد بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) أو أحد الخلفاء الراشدين أشرك النساء في مجلس الشورى»[4].
هذا هو –إذن- الدستور الذي أراده الأصوليون، في الخمسينيات والستينيات، بديلاً عن الدساتير الحديثة التي صدرت في فترة التخلّص من الاستعمار العسكري ونشأة الدول ما بعد الاستعمارية: دستور دولة شمولية لا تتقيّد بحدود جغرافية، وإنما مهمتها نشر الدعوة والجهاد في العالم كلّه، ولا تشرك النساء ولا الأقليات غير المسلمة في إدارة الشأن العام. ولا يتقدّم فيها للانتخاب إلاّ من كان على منهج «الجماعة الإسلامية» وفهمها المخصوص للإسلام. وللمقارنة، يجدر التذكير بأن الهند التي انفصلت عنها باكستان، تضمّ أكبر أقليّة مسلمة في العالم، وقد منحت هذه الأقلية كل الحقوق، كما أن الهند حكمتها أنديرا غاندي، المرأة الزعيمة التي جعلت الهند من قادة العالم الثالث. ولننظر أين هي الهند اليوم في الديمقراطية والتطور الاقتصادي والتكنولوجي، وأين هي باكستان وجماعاتها الأصولية التي ما فتئت تنهك الدولة ومؤسّساتها.
[1]– انظر: عبدالحميد، متولي، مبادئ نظام الحكم في الإسلام، منشأة المعارف، 2000، ص12. انظر أيضاً كتابه: أزمة الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث، منشأة المعارف، 1975، المبحث الثالث: مشكلة التخصص.
[2]– المودودي، تدوين الدستور الإسلامي، مؤسسة الرسالة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1953، ص39.
[3]– المودودي، المرجع السابق، ص57.
[4]– المرجع نفسه، ص65.