تقديم
يواصل مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «مَصادِر الإسلامويين: جذور الصناعة الحركيّة» (الكتاب الخامس والسبعون بعد المئة، يوليو (تمّوز) 2021)، دراسة المرجعيّات الفكريّة الأوليّة لتوالد وبقاء وتحولات الإسلامويين الحركيين. فعلى إثر تناولنا ظاهرة الإسلام السياسي من جهة: التأسيس، والمراجعات، والتحوّرات، والتشكلات التنظيمية المحلية والدوليّة، واستراتيجيات اختطاف تمثيل المهاجرين بعد عزلهم، واستغلال خطابات الإصلاح الديني والسياسي؛ يستند هذا الكتاب على تشخيص مرجعيات العقل الإرهابي عموماً والحركي خصوصاً؛ إذ نبهّ (التشخيص) إلى أهمية تقصّي جذور الحركية الإسلاموية، في سبيل تفكيك اِلتباس الفصل المزعوم بين (الدعوي والسياسي)، وتقديم قراءة أعمق للطبقات (المعرفية أو التنظيمية)، واختبار المصادر التي تتأسس عليها الأيديولوجية المتطرفة والتنظيم المرن.
نشأت الحركات الإسلاموية متمردةً على المجتمع ونظام الإيمان فيه، ونافرةً من فكرة الدولة والمؤسسات الدينية، وحافظ الإسلامويون على مستويات خصومة متعددة مع هذه الأركان (المجتمع، تديّنه، دولته)، بررها أتباعهم بمزاعم أيديولوجية فيها: زعم معالجة التخلف عبر جماعةٍ طليعية تغير منظومة التدين؛ تسوّقها باسم: استعادة الإصلاح الديني تارةً؛ وترفعها بلافتة التثوير السياسي تارةً أخرى! وتستقوي على فكرة الدولة والقانون بأشواق إقامة الخلافة وتطبيق الشريعة، وتخلط كل ذلك في حالات المعارضة المطلقة؛ وتوظِّف الخليط لتكفير المجتمع والدولة معًا. وفي مجالات المتاجرة المعرفية تقدم منتوجها على ثلاث حزم؛ الأولى تبنيها على أسسٍ تستلهم زوايا مختارة من تجربة حركات الإصلاح الديني في مسيحية القرون الوسطى، والثانية تقيّمها على أسس الجمعيات السريّة والنظريات الفاشِيّة قيميًا وتنظيميًا؛ والركن الأخير تبنيه سجالاتها المندفعة للرد على المفكرين والمستشرقين، لأخذ المشروعية من منافحة الآخر المناوئ.
تتقدم كل حزمة، من هذه الحزم، على غيرها حسب الحاجة. أما في المراجع الدينية الإسلامية التي اعتمدت عليها، فسؤال أصالة المصادر التي استند إليها المفكرون المؤثرون في صناعة الحركية مفتوح، ولكنّه يميل إلى الإقرار بانتزاع النصوص التأسيسية للدين عن سياق نزولها التاريخي أولاً، وسياق فهمها المجتمعي المتراكم ثانياً، إذ يلاحظ الكتاب تولّع المنظرين المؤثرين للحركية، بإعادة تفسير القرآن تفسيرًا حركيًا يتسق مع احتياجاتهم التنظيمية، وانفعالاتهم السلوكية، لا سيما مَن تأثر بسيد قطب (1906-1966) وأبي الأعلى المودودي (1903-1979).
بدأت فاتحة دراسات الكتاب بتحليل الاحتيال الدلالي في خطابات جماعات الإسلام السياسي، فرصدت المفاهيم الحركية الأساسية وتأويلاتها المعاصرة في كتابات الإسلامويين، وانحرافها عن مجالها الدلالي الأساسي، سواء في المجال الحركي، بدايةً من الحاكمية والجهاد والجاهلية، أو المعرفي كما يتبدى في مصطلحات الاجتهاد والتجديد، أو القانونية النظامية كما في فكرة الشريعة. تتبعت دراسة فكرة «اختطاف الوحي» واحتكار الإسلاموية لتفسيره بزعم مكافحة التخلف، ومزجه بفهم منتقى للحضارة والتجربة الغربية. الاحتيال التشريعي، ستلاحقه دراسة تطرقت إلى النقلة التي أحدثها تفسير قطب لآيات سورة المائدة التي تناولت الحكم بما أنزل الله، ونزعها من سياقها التراثي القضائي؛ إلى سياق تكفيري عقائدي يكفرِّ عموم المسلمين، بلغةٍ ثورية!
عمد الكتاب إلى تحليل جذور اللغة الثورية الساخطة؛ واختبر فرضية انطلاقها من مدرسة جمال الدين الأفغاني (1838-1897)، بوصفه الشخصية الأوليّة، أو أستاذ الطبقة الأولى؛ ولدراسة أثره، بدأت دراسته بالمؤثرات التي قلّدتها نظرياته؛ فتتبعت محاولاته إسقاط خصومته مع الأزهر الشريف، على أنها تشبه خصومة الجماعات البروتستانتية مع الكنيسة الكاثوليكية. تولّد عن تجربته أمران: الأول: أولوية النص التأسيسي على ما عداه من تجارب عملية وعلمية للمسلمين، والثاني: التركيز على دور الإيمان في إلزام المؤمنين بالعمل بمقتضاه، مما أتاح لتلاميذه المزايدة على مقياسهم لتلازم الإيمان والمشروعية معًا.
حددت دراسة خطوط التشابه والتقاطع بين حسن البنا (1906-1949) والأفغاني؛ فنظرت في زاويتين رئيستين: غطت الأولى الأفكار الانقلابية، التي تحرض على اغتيال الرؤساء ثم إنكار المسؤولية، وطرحت الثانية الأفكار الانتقائية التي تأخذ من التصور السياسي الحديث ملامح تتيح ممارسة الحركية في الفضاء الديمقراطي. لاحظت الدراسة التشابه في المنهج الحركي والتنظيمي بينهما، وفي استخدام لسانين ولهجتين متناقضتين في التعامل مع القضايا الإشكالية. وللبحث عن القنطرة بين الرجلين ناقشت دراسة تأثّر رشيد رضا (1865-1935) بجمال الدين الأفغاني -مباشرة-، في زوايا أهمها تبني فكرة الجمعيات، والهجوم على رجال الدين غير المسيّسين وعلى الأزهر ورجاله، ثم كان اتصال البنا برشيد رضا على صفحات المنار، التي واصل إصدارها حتى عام 1939. فبقي الدين في نظره دافعاً ومثورًا للجماهير؛ «بحيث لم يبد الدين غاية في ذاته، بل وسيلة». يلاحظ أنّ الدراسة لم تنفِ تأثير محمد عبده في رؤية البنا وهي وجهة نظر فصلتها دراسة تالية.
تناولت دراسة، محمد عبده (1849-1905)، بوصفه مؤثرًا في تيار عريض من صنّاع أفكار القرن الحادي والعشرين، وتجاوزت الخلافات بين تلاميذه المتنازعين حول أبوّته للإصلاح الديني أو التثوير السياسي، سواء من الإسلامويين أو النهضويين، فدخلت مباشرة إلى تأثره بمحيطه الثقافي سواء في القاهرة أو في باريس ولندن، واتصاله بمفكرين متباينين في التوجهات مثل هربرت سبنسر (Herbert Spencer) (1820-1903)، وإرنست رينان (Ernest Renan) (1823-1892) وغابرييل هانوتو (Gabriel Hanotaux) (1853-1944)، ودخوله في سجالات وردود منحت خطابه الفكري طابعًا دفاعيًا ساخطًا؛ وترجماته تقصّداً -كما ستلاحظ قراءة الكتاب- ولكن كل إنتاجه بقي ملهماً سواء لدعاة الإسلام السياسي أو النهضويين. فقد آمن من جهة بضرورة العودة إلى زمن النبي، وخاض معركةً ضد التقليد امتدت آثارها النقدية إلى نقد المؤسسات الرسمية، والشعبية الصوفية، ورجال الدين التقليديين، ولكنّ الأثر الأبقى له -خارج مؤسسة الدولة- هو تخلّق طبقة تطالب بالنقد والعقلانية؛ وكسر احتكار -الدولة والعلماء- لتفسير النصوص الدينية وفهمها. وعلى الرغم من أنّ الدراسة افترضت وجود تناص بين توما الإكويني (Thomas of Aquino) (1225- 1274) ومحمد عبده، فإنّ الباحث ختم دراسته بالقول: «لا بد من تنبيهٍ، لا يقل خطورة على المجتمع الإسلامي، إلى ما حصل مع الكنيسة الكاثوليكية الجامعة التي انشقّ عنها مارتن لوثر (Martin Luther) (1483-1546)، بتياره الإصلاحي البروتستانتي، الذي تأثّر بحركته، محمد عبده، ليصبح مذهباً قائماً بذاته، له معتقداته، وتأويلاته، ودلالاته، وذلك من أجل إدخال الكنيسة في الحداثة. وهذا ما سبب حروبًا أهليّة ضاربة في كلّ أنحاء أوروبا، على مدى قرنين من الزمان»!
تولت دراسة لاحقة بناء معالجة لكل هذه المؤثرات، فدرست طبقات تأثير الأفغاني وتلميذه محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، في فكرة الجماعة؛ التي يظهر الدين فيها «قوةً كامنة يلزم إحياؤها وتوظيفها».
وبعد هذه التهيئة بدأت التطبيقات العمليّة، أولاً بالتحايل القانوني الذي قام به قطب لإعادة تفسير آية الحكم بما أنزل الله. ثم قدمت دراسات أخرى، نماذجَ حللت فيها، المصادر في كتب يوسف القرضاوي، وتغيرها، باختلاف الظروف السياسية، وتقييم تأثرها بالمصادر التراثية من جهة، والمصادر الحركية المتمثلة في جيل التأسيس الإسلاموي ثم جيل أبي الأعلى المودودي، الذي اصطحبه القرضاوي أثناء زيارته لمصر وقرأ أعماله بعد ترجمتها.
قدم المفكر والأكاديمي التونسي محمد الحداد، مراجعة تحليلية لمصادر كتاب راشد الغنوشي «الحريات العامة في الدولة الإسلامية»، نقد فيها المصطلحات الأوليّة والمنهجية، متناولاً المرجعية التونسية التي استغرب غيابها عن الكتاب؛ الذي تجاوز الخبرة الدستورية التونسية المجمع عليها، بينما حضرت فيه المرجعية الإسلاموية حصرًا، يتقدّمها المودودي، الذي يصفه الغنوشي برائد فقهاء القانون الدستوري. تخلص المراجعة إلى أنّ الكتاب يأتي «في إطار المجادلات داخل حركات الإسلام السياسي والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وهي مجادلات محورها تحديد أفضل الطرق للوصول إلى السلطة والمشاركة فيها والاحتفاظ بها»!
تناولت دراسة المصادر الأساسية لفكر مالك بن نبي (1905-1973). لم تكن المصادر التراثية (عدا ابن خلدون (1332-1406) وابن تيمية (1263-1328)) حاضرةً في كتاباته؛ بقدر ما حضرت أفكار الألمان حول مفاهيم الأمة والوحدة والروح الجماعية، كما تأثر بالفلسفة التاريخية، ونظريات التحدي والاستجابة، ومقاربات الفكرة الدينية في التاريخ لهرمان دي كسرلنج (H. Kesselring) (1880-1946). وعلى الرغم من خلافه مع الإخواني سيد قطب، حلم مالك بن نبي بحركة انقلابية كما الفضيل الورتلاني (1900- 1959). إلا أنّ الدراسة لم تذكر أنّ مالك بن نبي ذكر للباحث والأكاديمي اللبناني رضوان السيد؛ في حوار صحافي في العام 1971، توجسه المزعوم من «الاتجاهات البروتستانتية الجديدة في الفكر الديني لأنها سائرة باتجاه الصدام مع الأنظمة في سائر دار الإسلام». أما أثره على الحركة الإسلاموية الجزائرية فحصره الباحث في صالونه الذي عقده لمريديه وطلابه، وتأطيره لبعض الكوادر في مسجد الجامعة، وقيادته لتيارٍ مناوئ للتيار الماركسي.
قراءة الكتاب كانت في مجموعة مقالات منتقاة للمفكر والمؤرّخ السعودي علي العميم، تناول فيها الخلط المعرفي والتلفيق المصدري في كتابات الإسلامويين.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميل إبراهيم أمين نمر، الذي نسق العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهده وفريق العمل.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
يوليو (تموز) 2021