جاء صدور “المؤشر العالمي للفتوى” (حصاد النصف الأول من عام 2021، نتائج حصاد الأربع سنوات من 2018-2021) عن دار الإفتاء المصرية ليقدم لصانع القرار والباحثين والمراكزِ البحثية المتخصصة، رصدًا دقيقًا لحالة الفتوى في أربعين دولة، تتضمن القارات كافة. وقد صدر في ثلاثة مجلدات ضخمة، تحت إشراف مفتي الجمهورية المصرية الأستاذ الدكتور شوقي علام، والأمين العام لدور وهيئات الإفتاء في العالم، الدكتور إبراهيم نجم، ومدير المؤشر ورئيس وحدة الدراسات الاستراتيجية في دار الإفتاء المصرية الباحث طارق أبو هشيمة.
يعد الإصدار من الإصدارات المهمة في مجال التاريخ الإفتائي، من حيث رصد الفتاوى الدينية عالمياً وتحليلها، واستخدام مؤشرات الفتوى عبر الإحصاءات والأرقام، لا سيما أنه يساعد المؤسسات الإفتائية الرسمية في الدول المختلفة على الوعي بمخاطر الفتاوى غير المنضبطة والمتطرفة دينياً، وحثّها على تقديم الأجوبة قبل أن تُعرض عليها الأسئلة في المجالات كافة، خصوصاً في مجال دراسة وتتبع وتفنيد الفتاوى الصادرة عن جماعات الإسلام السياسي.
تأتي أهمية إصدارات المؤشر كونها تكشف عن حصاد الفتوى على نطاق واسع، وتفصح عن أداء اللجان الإلكترونية للجماعات الإسلاموية، والاستمرارية والتغيير في الخطاب الإفتائي للتنظيمات الإرهابية، وتدرس حالة الفتوى لدى جماعة الإخوان، ومؤشرات صعودها وهبوطها، واستغلالها للأزمات الاقتصادية في عدد من الدول، وكيف أن فتاوى الجماعات المتطرفة دعَّمت ظاهرة الإسلاموفوبيا، مما ينتهي بنا إلى القول: إن الحقل الإفتائي الرسمي وغير الرسمي تأثر بالمستجدات التكنولوجية والتحول الرقمي، سلباً وإيجاباً.
يرصد المؤشر (2018-2021) الخطابَ الإفتائي بشقيه الرسمي وغير الرسمي، في دول مختلفة، محدداً الخريطة الإفتائية لكل دولة على حدة، بقصد الكشف عن تأثير الفتوى في المجتمعات وصناعة الأحداث، مقدماً رؤية استشرافية لصُناع القرار والباحثين لمعرفة أثر الفتاوى في صناعة الفكر المعتدل أو الفكر المتطرف، وفي دراسة دورِ المؤسسات الرسمية ومدى القيام -أو عدم القيام- بواجبها أمام أكبر تحدٍ يواجهها، وهو الفتاوى الصادرة عن الجماعات المتطرفة، خصوصاً تلك التي تعتمد على التوظيف السياسي للدين.
قدَّم المؤشرُ وصفًا تفصيليًا لخطاب الجماعات المتطرفة على مدار الأعوام الماضية، محدداً المخاطر التي تمثلها، باستغلالها الفتاوى الدينية. وقد بيَّن استغلال الجماعات الإسلاموية المسلحة وغير المسلحة لجائحة (كوفيد -19) والانشغالَ العالمي في التصدي للفيروس، في توسع نشاطها الإفتائي.
الفتاوى بين الدول والإسلام السياسي
قدم المؤشر إحصاءات عامة في القسم الأول من الجزء الخاص بسنة 2021. تناول القسم الثاني: (حالة الفتوى في النطاق المحلي)، وتناول القسم الثالث: (حالة الفتوى في النطاق الخليجي)، وتناول القسم الرابع: (حالة الفتوى في النطاق العربي)، وتناول القسم الخامس: (حالة الفتوى في النطاق الدولي)، وتناول القسم الأخير: (حالة الفتوى لدى التنظيمات الإرهابية).
لا يسع المجال هنا إلا لذكر نماذج قليلة؛ ففي مصر رصد المؤشر الفتاوى الخاصة بالمسيحيين، وأظهر ملامح عدة، أهمها ميل الخطاب للتسامح، إلا أن الفتاوى الصادرة عن المؤسسات الرسمية بلغت (40%) فقط، في حين أن الفتاوى الصادرة عن الجماعات الإسلاموية بحق المسيحيين بلغت (60%)، بما يعني أن النسبة التي تقدم خطابًا يؤجج المشاعر السلبية تجاه الآخر وينشر الفتن هي الأعلى!
تعكس الفتاوى التي تصدرها الجماعات الإسلاموية مدى نشاط وتوغل الفكر المتشدد، وبالأرقام نجد أن نسبة الفتاوى المتشددة خصوصاً في مجال التعامل مع الآخر بلغت في مصر (30%)، ثم تأتي بعدها البحرين ثم الأردن، ثم تونس، ثم الجزائر. ما زالت تأثيرات الفتاوى المتشددة تلقي بظلالها على دول عربية عدة، من خلال استخدامها في رفض التعامل مع الآخر وعدم احترام قيم المواطنة، ويخرج ثلثها عن الإسلامويين، وهذا مؤشر خطر له دلالاته الواضحة.
رصد المؤشر اتسام الفتوى في دولة الإمارات العربية المتحدة بالاعتدال والتنوع، سواء في الموضوعات التكنولوجية أو الطبية أو الاقتصادية، لكن شهدت الفتوى فيها تراجعًا عن العام الماضي، نتيجة التوقف عن النشر الدوري والمنتظم للفتاوى، وكانت أبرز القضايا التي غلبت على الفتوى في الفترة الأخيرة عن: (التطرف- كورونا- القضية الفلسطينية- طاعة ولاة الأمور- الإلحاد).
في موريتانيا وجد المؤشر أن أبرز مصدري الفتوى الداعية الإخواني “محمد الحسن ولد الددو”، مما يدل على غياب أصحاب المرجعيات المعتدلة، وقدرة الداعية المذكور على تطويع الفقه والحكم الشرعي ليكون أداة تعبئة لتنظيمه.
وفي دولة قطر كانت فتاوى الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الأكثر حصولاً على التفاعل الشعبي، خصوصاً فيما يتعلق بنصرة الإسلام، والمسجد الأقصى، والتطبيع مع إسرائيل، وكان الاتحاد أكثر مصدري الفتوى زخماً، ولوحظ أن الجزء الأكبر من فتاواه تخرج متوافقة مع التوجهات السياسية في البلاد.
رصد المؤشر العالمي الفتاوى التي خرجت من دعاة الإخوان، ومن ذلك فتاوى الداعية الإخواني حاكم المطيري (كويتي الجنسية) الذي اعتبر أن نقل المومياوات في مصر “إحياء للمظاهر الوثنية الجاهلية في جزيرة العرب، وتنفيذ لمشروع التغريب الأميركي”، وزعم أن المساجد مغلقة في رمضان والصلوات معطلة، واعتبر كل ذلك حملة ماسونية عالمية. وفيما يبدو أنها محاولات يائسة من أنصار جماعة الإخوان عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تناول المطيري عبر حسابه على تويتر سلسلة من المقالات المتتابعة تحت عنوان (الواقعيون ووحي الشيطان) عن تاريخ الإخوان والمظلومية التي عانتها الجماعة، (ومنذ أيام قال: إن طالبان هي امتداد لجهاد الأمة الإسلامية).
وجد المؤشر في ألمانيا أن أبرز صانعي الفتوى هي: “لجنة الفتوى بألمانيا”، التابعة لجماعة الإخوان، وقد طورت موقعها الإلكتروني وافتتحته بأكثر من لغة كالإنجليزية والألمانية، صحيح أنها لم تنشر فتاوى جديدة، وأن ما نشرته كان متعلقاً بأحكام العبادات، لكن الخطورة هنا أن المتلقي سوف يتخذ دعاة الهيئة مرجعية علمية له، وعلى رأس هؤلاء: خالد حفني، وفريد حيدر، وطه عامر، ومن ثَم يستطيع هؤلاء إقناع المتلقي بعد ذلك بآرائهم السياسية وتوجهاتهم الأيديولوجية.
فتاوى الإخوان: استغلال وتأليب
ركزت فتاوى جماعة الإخوان بين عامي (2018-2021) كما يوضح المؤشر العالمي، على:
- استغلال الفتوى السياسية لنشر الفوضى وتأليب الشعوب على الحكومات، خصوصاً محاولة تأليب السعودي والمصري والإماراتي على حكوماتهم، والدفاع عن الدول الداعمة لتنظيم الإخوان، وفتاوى متعددة بوجوب القتال في ليبيا.
- استغلال فتاوى المستجدات التي تُكسب الجماعة قاعدة شعبية، تتخذ من فتاوى الجماعة مرجعية لها عِوضًا عن المرجعيات الرسمية، التي تتهمها الجماعة دوماً بموالاة السلطان ومحاباته، خصوصاً مع الضعف الملاحظ والخطاب التقليدي الذي يقدمه بعض شيوخ المؤسسات الرسمية. وقدمت الجماعة، من خلال الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عدداً من الفتاوى الاجتماعية الخاصة بالمرأة والتحرش والانتحار والإلحاد، اتسمت غالبيتها بالانضباط الشرعي، لتستغله في الترويج لمرجعيتها، وامتلاكها أدوات العلم الشرعي.
- الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي، واستغلال المساجد والمراكز الإسلامية في الغرب لبسط سيطرتها الفكرية والترويج لأهدافها.
يمكن قياس النسب كما وردت في الكتاب على النحو الآتي:
- فتاوى الإخوان التي تقدم الدعم للدول المساندة لها (20%).
- فتاوى الإخوان في التأليب على الحكومات العربية والإسلامية التي تعارضها (35%).
إذا توقفنا عند النشاط الإفتائي لتنظيم داعش في أفريقيا وآسيا، نلاحظ من خلال البيانات الدقيقة أن النصف الأول من عام 2021 شهد عودة التنظيمات الإرهابية للنشاط الإفتائي والحركي، وكان تنظيم داعش الأكثر نشاطاً خصوصاً في أفريقيا وآسيا، كما عاد تنظيم القاعدة المركزي للنشاط التدريجي والعنف في خطابه الإفتائي.
هذا من شأنه أن يعكس لنا كيف أن التنظيمات الإرهابية حظيت على فرصة لاستعادة نفسها مرة أخرى، من خلال تكثيف خطابها الإفتائي العنيف، وتزايد استغلالها لوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، بما في ذلك استخدام الألعاب الإلكترونية للتدريب على محاكاة العمليات الإرهابية، وربما يسري اعتقاد لدى التنظيم أن تكثيف الفتوى يمنع تفكك التنظيم وانفصال الأتباع، لا سيما في الفتاوى التي تشدد على الثبات، والصبر على الابتلاء، والتمكين.
في سبيل ذلك أصدر التنظيم خلال الشهور الفائتة هذه المنصات: إصدار أصحاب الباغور- أعراضكم يا أمة محمد؛ ووكالة ثبات الإخبارية؛ وإصدار صناع الملاحم؛ والإصدار المرئي تحت عنوان: (وقت السداد).
يؤدي استخدام المؤشرات بالأرقام الدقيقة في دراسة الحقل الإفتائي إلى إثراء البحث العلمي، والتعامل مع الفتوى بشكل دقيق للتعرف على من يصدرها ومن يفتي بها، ويرصد ما وصل إليه العقل الحركي للتنظيمات المتطرفة المسلحة وغير المسلحة، للوقوف على حجم المشكلات، وتقدير مواضع الخطر، وسبل علاجها.