يتناول كتاب مركز المسبار للدراسات والبحوث «طالبان المتحورة: محاضن التطرف وسؤال التحولات» (الكتاب السابع والسبعون بعد المئة، سبتمبر ( أيلول) 2021)؛ مسارات دراسة طالبان؛ إثر الانسحاب الأميركي من أفغانستان، ويساجل فرضية «التحوّل»؛ عبر تقصي جذور الفكرة الإسلاموية؛ والموقف من المرأة، ومبررات احتضان الجماعات المتطرفة، ويقدم مقاربة أوليّة لتأثير التحول المفترض على علاقة الجوار بأفغانستان التي باتت في قبضة طالبان.
عشيّة عودة طالبان؛ رصد الباحثون تحركات متلازمة داخل الإسلام الحركي: في الأول تنافست التيارات الإسلاموية على تسويق الانسحاب الأميركي، باستخدام مصطلحات تجييشية دينية تعتبر ما جرى فتحًا، ونصرًا. وتواردت التهنئات التنظيمية الإخوانية والقاعدية وكل الطيف الإسلاموي للجماعة الجديدة، أمّا التحرك الثاني فكان محاولة جادة لتصوير وإعادة تسويق الحركة على أنها «قطاع تمرد»؛ وحركة تحرر وطني تعادي المحتل الأميركي. وجرى في المستوى الثالث تعميق لفكرة أنّ طالبان ليست سوى حركة مقاتلة تعتمد على جذر تقليدي لم تتأثر بالإسلام السياسي بقدر ما تأثرت بالتفكير النصي السلفي! والتحرك الرابع ارتكز على خطاب إسلاموي يدعو الجميع إلى الانتظار قبل الحكم على «طالبان الجديدة»، وترقب رؤيتها والحكم على تصرفاتها!
لذا جاء مشروع دراسة طالبان؛ في سلسلة كتبٍ؛ يستهدف الإجابة عن أسئلة: نشأة حركة طالبان، ودخول الإسلام السياسي عليها وتأثيره في «عقيدتها القتالية»، والثوابت في موقفها من المرأة، وعلاقتها بالتنظيمات الإرهابية المجاورة لها سواء القاعدة أم داعش، وموقفها من العلاقات الدولية؛ متسائلاً: هل تصبح أفغانستان مستقرًا للحركات الانفصالية خصوصاً الموجهة ضد الصين؟ وأيّ أثر يتركه تسويق عودة طالبان على الجماعات المتطرفة البعيدة مثل بوكو حرام، لا سيما وأن عدداً من الباحثين يرى أنهما ينهضان على الطابع القبائلي الهيكلي ذاته؟
بدأت دراسات الكتاب بمدخل فكري؛ سعى إلى بحث تأثر طالبان بالحاكمية وأفكار أبي الأعلى المودودي وسيد قطب، تحديدًا في آلية تكفير المجتمع المقاوم للحركيين، كما بدا في تصريحات عبدالحنان الحقاني في شهر أغسطس (آب) ذاته؛ حين قال عن قاطني محافظة بنجشير: «هؤلاء اسمهم مسلمون ولكن ليس فيهم الإسلام، والإنسان لا يصير مسلماً بالكلمة فقط ولا بالصلاة فقط». إذ تزعم الدراسة أنّ آلية تكفير أهل ولاية بنجشير، تبنت منهاج «تكفير المجتمعات» الداعشي الذي يُنسب أصله إلى سيد قطب، ثم توسلت الدراسة لذلك بسرد تأثير حاكمية المودودي وسيد قطب في طبقات قادة طالبان، متقصيةً الطرق التي وصلت بها هذه الأفكار إلى الجماعة وهيكليتها. ففرقت بين طبقاتٍ من مقاتلي طالبان، انتهت إلى ملاحظة انسحاب الإطار النظري التلقيني الأولي، لصالح الأفكار الميدانية الوافدة مع المقاتلين القاعديين والمتأثرين بعبدالله عزام، ناهيك عن آثار المودودي في منظومة المعارف الأولية. دعم الباحث فرضيته بسمات فكرية لازمة منها: تبني العمليات الانتحارية، وتبني الحاكمية، وتأكيد فكرة الحكومة الإسلامية، وتكفير الديمقراطية، وخطاب احتكار الحقيقة، والشرعية، والوعد الإلهي، وفكرة الاستعلاء الفاقعة في خطابهم.
يكرر «الواقعيون والإيجابيون» من المدافعين عن طالبان أنّ ما تفرضه الحركة على المرأة الأفغانية، يأتي من بيئة ثقافية محددة، وليس من فرط التطرف! هذا ما كشفت زيفه دراسة نقلت هواجس المنخرطات في الفضاء العام الأفغاني؛ وتصوراتهن لتاريخ المرأة المشرق في أفغانستان بما شهده من مدٍّ بلغ مناصب الوزارة والسفارة، ومن تردٍ في العهود الإسلاموية المتطرفة. بان ذلك في ثنايا تاريخ كفاح الأفغانيات، بدءاً من عهد الأمير حبيب الله خان (1901-1919)، وشاه أمان الله خان (1919-1929) مروراً بعهد الملك ظاهر شاه (1933-1973). رصدت الدراسة الإجراءات التعسفية التي اتخذها الإسلامويون تجاه المرأة الأفغانية في الفترة الممتدة بين عامي 1989 و2001، ثم تناولت مكاسب المرأة التي تحققت في العشرين عاماً الماضية من السعي إلى نيل الحقوق، وحذرت من التسلّط الإسلاموي المرِن، الذي يريد جعل قضية الحقوق ورقة للتفاوض حول مشروعية الحركة العالمية.
عادت الدراسات إلى التاريخ، لفهم إمكانية تحوّل أفغانستان إلى ملاذ وحاضنة للتطرف، وذكَّرت بالسياق الذي برزت فيه الحركة، فركّزت على الزوايا التاريخية والسياسية والاجتماعية والقبائلية، ثم مرّت على طور الكمون إثر تشكل الجمهورية الأفغانية في عهدي الرئيس حامد كارزاي، وانتهت إلى المشهد الراهن، لتطرح السؤال الرئيس: ما الذي تغيّر حتى لا تصبح أفغانستان ملجأً للجماعات المشابهة للقاعدة من جديد؟ انتبهت الدراسة إلى أنّ مؤثرات تجاذب القوى الدولية باقية؛ ففي حين أنها استجابت لفكرة أن نشوء طالبان الأول يعود إلى آثار انسحاب الاتحاد السوفيتي، وأن تجدد انبعاثها الآن يرجع إلى الانسحاب الأميركي؛ فإنّها تشدد على أنّ ولادة القاعدة آنذاك، لا تختلف عن ولادة المنظومة الإرهابية المتوقعة. ناقشت الدراسة بشكل عابر، إمكانية توظيف الإرهاب ضد روسيا في تسعينيات القرن المنصرم، وضد الصين الآن، في ظلّ تنافر المنظومات الأمنية داخل الدولة الواحدة، وتعدد الاستراتيجيات.
قيَّمت دراسة التغيّرات الداخلية في أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي وعلاقة طالبان مع القوى الإقليمية وشبكات الإرهاب المعلوم، آخذة بالاعتبار التمويهات الأيديولوجية والدينية والسياسية التي أبرزها محللون، زعموا تحوّل الحركة إلى جهة فاعلة دبلوماسية وعسكرية أكثر براغماتية وقدرة، لكنّهم حافظوا على نتيجة الدراستين الأوليتين في تحجر الفكرة الأيديولوجية، التي تبدو في التردد من استخدام مصطلحات الدولة والجمهورية؛ والاستناد إلى الشبكات التنظيمية. أوّل الآثار المبحوثة كان تأثير طالبان أفغانستان على طالبان الباكستانية، وما يجره ذلك من تهديد وفرص، ومنه انطلقت إلى بحث التعاونات مع المنظمات المتطرفة العالمية، والموقف من القضايا الإشكالية وعلى رأسها الأقليات الشيعية، المتأثرة بخيوط استراتيجية متشابكة.
كيف ستتعامل طالبان مع شبكة الحركات المتطرفة والإرهابية الموالية لها، أو المناوئة لها في المنطقة؟ هذا ما طرحته دراسة، قيَّمت التنافس بين القاعدة وداعش في أفغانستان، واحتمال خلق الفراغات لظهور تنظيمات أخرى، وحاولت التكهن بسيناريوهات ثلاثة حول مصير العلاقة، أجدرها بالبحث إمكان بقاء فضاء سري للعلاقات الثنائية.
انخرط الجيوسياسيون في تحليلهم للانسحاب الأميركي، بافتراض أن الولايات المتحدة تتوجه للضغط على الصين! وانبنت أكثر تحليلاتهم تساهلاً على فكرة أنّ الولايات المتحدة لن تحرس البوابات للصين، وروسيا، وستترك لهم المنطقة، ليتعاملوا مع تعقيدات الانفصاليين والمتمردين فيها. من هذا المنظور حاولت دراسة، تحليل المخاطر الناجمة عن النزاعات الانفصالية أو التمرد لدى بعض القوميات، فدرست العلاقات بين طالبان ومجموعات الإيغور المسلحة، مستذكرةً الهواجس الصينية –السابقة والراهنة- من حركة التمرد الإيغورية، لا سيما أن أفغانستان تضم على أراضيها عدداً من اللاجئين الإيغوريين، وتعطي الخبرة السابقة في التعامل مع هذه المجموعات لمحة عن التهديد الذي قد تشكله تلك المجموعات للأمن الصيني، فكيف يؤثر ذلك في مسار العلاقات الإيغورية مع حركة طالبان الأفغانية؟ لم تغفل الدراسة عن الطمأنة الطالبانية لجمهورية الصين الشعبية، بعدم السماح للإيغوريين المقاتلين الساعين للانفصال بإقليم شينجيانغ، في استخدام الأراضي الأفغانية قاعدة ارتكاز عسكرية معلنة ضد بكين. في المقابل لم تجِب عن سؤال: إلى متى سيصمد هذا التعهّد الطالباني؟
تلقفت الحركات الإسلاموية خبر عودة طالبان، وانسحاب الولايات المتحدة، بابتهاج، خصوصاً بعد أن رُبِط انسحابها بالانسحاب من الصومال، الذي أثر في أمن القرن الأفريقي، وربط باحتمال الانسحاب من مناطق متوترة أخرى تمنح فرصة للجماعات الإرهابية، بشكل يكرر سيناريو الفراغ الذي تحرك فيه تنظيم داعش عام 2013، وتتحرك فيه حركة طالبان الآن. ولكن دراسة أخرى قدّرت دراسة حالة مختلفة من التنظيمات الإرهابية، من زاوية التشكل القبائلي، فطالبان يغلب عليها البشتون، وبوكو حرام نسبتها إلى الكنوري، أما الخيط الناظم بينهما، فيجعل استلهام بوكو حرام لتحرك طالبان، أكثر قوة مما عداه، على الرغم من البعد الجغرافي.
جاءت قراءة الكتاب في ضوء مذكرات القيادي الطالباني عبدالسلام ضعيف، تناولت سيرته وسيرة الحركة وأيديولوجيتها الصلبة، ومواقعه الدبلوماسية، والمساحات التكتيكية التي تتحرك فيها تصريحاته الإعلامية.
تضمن الكتاب دراسة عدد تحت عنوان «الدولة القوميَّة وتحدِّيات الأمن والحريَّة»، تطرقت إلى علاقة السياسة الحيوية بالدولة الوطنية/ القومية، فحاولت الإجابة عن ثلاثة أسئلة أساسيَّة: أولاً: ما الذي تعنيه السياسة الحيويَّة عند ميشيل فوكو؟ ثانيًا: كيف استعملت في التحليلات الفلسفيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة المعاصرة، وأنتجت مقاربات جديدة يمكن تسميتها بما بعد السياسة الحيويَّة ؟ ثالثًا: ما علاقة هذه المقاربات بالدولة القومية، سواء من جهة الأمن وحفظ الحياة، أو من جهة تحقيق العدل والحريَّة؟
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر لكل المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الباحث والأستاذ القدير عبدالله بن بجاد العتيبي؛ الذي اقترح المشروع في أجزائه الثلاثة، والزميل منير أديب الذي نسّق هذا العدد، والمشرفين على الكتاب الزميلة ريتا فرج، والزميل إبراهيم أمين نمر، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهودهم وفريق العمل.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
سبتمبر (أيلول) 2021