طرح التصعيد الروسي الأخير -عبر المناورات والحشود العسكرية على الحدود مع أوكرانيا، والتصعيد المضاد بقيادة بريطانيا والولايات المتحدة، ما بدا وكأنه “حتمية” قيام روسيا بغزو واسع النطاق لأوكرانيا، وصولاً لتحديد موعد هذا الغزو المزعوم يوم 16 فبراير (شباط)، وما بدا لاحقًا من “تراجع” روسي وميل نحو التهدئة بعد الأنباء المتداولة حول سحب بعض قواتها من على الحدود الأوكرانية، وهو ما أكده ديمتري بيسكوف المتحدث الرسمي باسم الكرملين، الذي علق ساخرًا بأن على الأوكرانيين ضبط صافرات الإنذار لبدء هذا الغزو[1]– أسئلة حول الدوافع الروسية والغربية، وهو ما أوقع العديد من المحللين السياسيين المتخصصين بالشؤون الروسية حول العالم في حيرة من أمرهم ليس بشأن نوايا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحسب؛ بل وحول أسباب الإصرار البريطاني- الأميركي بأن بوتين كان وما زال يخطط لغزو واسع النطاق لأوكرانيا.
كيف نفهم التصعيد، وما هو الخوف من وقوع الكارثة، ولماذا يجب أن يثير الصراع الراهن مخاوف المهتمين بمكافحة الإرهاب. والملفات التي تقتضي التعاون الدولي، والمتعلّقة بالشرق الأوسط.
ظلّ الغول: فرضية انضمام أوكرانيا لحلف الناتو
على الرغم من وجود شبه إجماع ما بين التيارات السياسية الروسية المختلفة حول رفض مسألة انضمام أوكرانيا للناتو، ولكن هذه الفرضية لا تبدو متماسكة، وذلك لأن طلب أوكرانيا وجورجيا لنيل عضوية الحلف لم يتم طرحه الآن، أو بعد أحداث «ثورة الميدان الأوروبي» لعام 2014، التي تبعها تدهور حاد في العلاقات بين موسكو وكييف. بل طرح الأمر منذ عام 2008، وبالتحديد في أثناء قمة الناتو في العاصمة الرومانية بوخارست في أبريل (نيسان)، والتي حضرها الرئيس الروسي بوتين، ودار وقتها جدل عنيف بينه وبين الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، وبحسب الوثائق الأميركية علق بوتين على قبول أميركا هذا الطلب، بالقول: عزيزي جورج، عليك أن تفهم هذا الأمر جيدًا –أوكرانيا لا يمكن وصفها حتى بأنها دولة– ما هي أوكرانيا؟ جزء من أراضيها يقع في أوروبا الشرقية، ولكن الجزء الأكبر منها هدية منا”[2].
تنص شروط الانضمام الخاصة بحلف الناتو من بين عدة أمور أخرى، على ضرورة عدم وجود نزاعات داخلية أو خارجية للدولة المرشحة لنيل العضوية[3]، وهو ما دفع موسكو بعد عام 2008، عندما تقدمت جورجيا بطلب الانضمام بشكل رسمي إلى استغلال حادث -تعرض قوات حفظ السلام الروسية في منطقتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا؛ لإطلاق نار من قبل الجيش الجورجي- لإدخال قواتها العسكرية، وقبول الاعتراف باستقلالهما المعلن من جانب واحد، لقطع الطريق أمام جورجيا لنيل العضوية، وبحسب السفير الأميركي في موسكو آنذاك، اجتمع بوتين بالرئيس الجورجي الأسبق ميخائيل ساكاشفيلي، وفي أثناء تعليقه على طلب الأخير انضمام بلاده للناتو، قال: “يمكنك التمتع بوحدة أراضيك أو يمكنك الحصول على عضوية في الناتو، لكن لا يمكنك الحصول على كليهما، وعليك وحدك أن تختار”[4]، لم يتأخر رد بوتين كثيرًا؛ الذي كان رئيسًا للوزراء آنذاك والحاكم الفعلي للبلاد، وتم اجتياح الأراضي الجورجية والسيطرة على أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا في أغسطس (آب) 2008، وهو ما تكرر عام 2014، بدعم الانفصاليين في إقليم دونباس بشرق أوكرانيا، واستعادة -حسب الروس- أو احتلال -حسب الأوكرانيين والغرب- شبه جزيرة القرم، وعليه أصبح طلب كلا البلدين نيل عضوية الحلف غير قابل للتحقق.
يضاف لما سبق، أن هناك اختلافاً داخل أعضاء الناتو حول قبول عضوية أوكرانيا، وخطورة تعديل ميثاق الحلف، وما قد يشكله حال حدوث مواجهة مباشرة مع روسيا، حيث تم طرح سؤال: “ماذا لو طلبت أوكرانيا تحرير القرم أو دخلت في حرب مع روسيا لأجل استعادة السيطرة على الأقاليم المتمردة المدعومة من موسكو: هل الناتو مستعد للدخول في حرب مع روسيا لأجل أوكرانيا؟“؛ أجاب الرئيس الكرواتي زوران ميلانوفيتش على هذا السؤال بالقول: إن “بلاده ستسحب قواتها من حلف الناتو في أوروبا الشرقية إذا كان هناك تصعيد في التوترات مع روسيا بشأن أوكرانيا”[5]. كما سارع رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان إلى زيارة موسكو في الأول من فبراير (شباط)، وسط العاصفة مع الغرب للتأكيد على موقف بودابست المتفهم لمخاوف روسيا[6]! وتأكيد وزير الخارجية بيتر سيارتو (Szijjártó Péter)، بأن “المجر لن تقبل المزيد من قوات الناتو على أراضيها”[7]، وما تبعه من تصريح في الثالث عشر من الشهر نفسه لأوربان، بالقول: إن “سياسة حلف الناتو فاشلة وأوروبا ستعاني من فرض أي عقوبات على روسيا”[8]؛ كما أن مسألة الانضمام للحلف؛ يوجد حولها اختلاف كبير بالداخل الأوكراني نفسه، حيث أظهر استطلاع للرأي أجرته مجموعة علم الاجتماع (RATING) الأوكرانية المستقلة في يوليو (تموز) 2021، أن “(55%) من الشعب الأوكراني يعتقدون أنهم والروس شعب واحد”، وأُظهِر في الاستطلاع الانقسام على أساس مناطقي وعرقي وثقافي في البلاد، حيث رأى “(60%) من سكان شرق أوكرانيا” الذين تشكل مناطقهم الحزام الحدودي مع روسيا “أنهم والروس شعب واحد وألا وجود لروابط بينهم وبين الغرب، وأكدو على تبعيتهم للكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية التابعة لبطريركية موسكو“. بينما أيد أطروحة الشعب الواحد “فقط (22%) من سكان غرب أوكرانيا، وفي الوسط (36%)”[9]، يظهر هذا الاستطلاع الذي قامت به أكبر مؤسسة أوكرانية متخصصة في هذا المجال، أن دخول أوكرانيا للناتو يهدد بتفجير عدة صراعات داخلية يصعب السيطرة عليها، وهو ما يهدد كيان ووحدة الأراضي الأوكرانية التي تعاني بالفعل من عدة نزعات انفصالية من الشرق إلى أقصى الغرب.
حتى في دوائر المتخصصين في الشؤون الروسية في أميركا، لا يوجد حماس لانضمام أوكرانيا للحلف، وقد كتبت المؤرخة الأميركية المتخصصة في شؤون ما بعد الحرب الباردة ماري ساروت (Mary Sarotte)، أن وزير الدفاع الأميركي الأسبق وليام بيري (William Perry)، قد خلص عام 2015، إلى أن “الجوانب السلبية لعضوية الناتو المبكرة لدول أوروبا الشرقية كانت أسوأ مما كان يخشى”[10]، وكرر الشيء نفسه المؤرخ النرويجي آرني ويستاد (Westad Arne) بالقول: “على الغرب مراعاة مصالح روسيا وهو يقوم بعملية توسيع حلف شمال الأطلسي، لعدة أسباب ليس أقلها أن روسيا ستظل تحت جميع الظروف دولة حاسمة في أي نظام دولي بسبب مساحتها الضخمة”[11]، أما جورج كينان (George Kennan)، أحد مهندسي الحرب الباردة، فقد اعتبر عملية توسيع حلف الناتو بالقرب من حدود روسيا “أسوأ قرار أميركي منذ الحرب الباردة”، وقد علق عليها، وليام بيرنز، بالقول: “عندما بدأت الموجة الأولى من توسع الناتو في أوروبا الوسطى، صدمتني تعليقات كينان وشعرت أنه مبالغ فيها إلى حدٍ ما. بعد ذلك أدركت مع الوقت أنه كان على حق، وأننا ارتكبنا خطأً استراتيجيًا خطيراً، وكان كينان يتمتع بالبصيرة: (كان في السماح لاحقًا للقصور الذاتي بدفعنا إلى الضغط من أجل عضوية الناتو لأوكرانيا وجورجيا)، على الرغم من ارتباطات روسيا التاريخية العميقة بكلتا الدولتين وحتى دعم الاحتجاجات القوية بهما: (أن تسبب في ضرر لا يُمحى)، وغذى شهية القيادة الروسية المستقبلية في السعي نحو بناء علاقة ندية متساوية معنا”[12].
بناءً على ما سبق، لم يكن هناك خطر مُلح على الأمن القومي الروسي من انضمام أوكرانيا للحلف، وهي مسألة -كما وضح- عليها خلاف داخل أميركا والحلف وأوروبا وداخل أوكرانيا نفسها، كما أنها لم تكن مسألة جديدة كونها مطروحة منذ عام 2008، ولذلك يظل السؤال: ما الدافع الروسي خلف التصعيد الأخير؟
اختبار: فرضية استعادة روسيا لحدودها “الطبيعية”
في حديث خاص لشبكة سي بي إس نيوز (CBS News) الأميركية، صرح سفير أوكرانيا لدى الأمم المتحدة سيرغي كيسليتسيا (Sergiy Kyslytsya)، بأن بوتين يريد أن يكون الزعيم الروسي “الذي أعاد إحياء الإمبراطورية الروسية” من جديد[13] –هل وجد بوتين حقًا أن الفرصة مهيأة بالوقت الحالي “لاستعادة” الإمبراطورية الروسية لسابق عهدها وإن كان بشكل جديد؟
هذه الفرضية زاد من زخمها ما كتبه بوتين نفسه في مقال خاص موجه للشعب الأوكراني، تحت عنوان «حول الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين»[14]، والذي تحدث فيه عن “الوحدة” التاريخية بين السلاف الشرقيين الذين يشكلون اليوم أساس شعوب (روسيا – أوكرانيا – بيلاروس)، وما تبع ذلك من التوصل لاتفاقية حول إقامة دولة اتحادية مع بيلاروس. كما أن بوتين الذي يعتقد العديد من المراقبين أنه يرى “القدر” قد دفع به لسدة الرئاسة في ظل مرحلة عصيبة تعاني فيه روسيا من أزمات تمامًا كما حدث مع بطرس الأكبر، الذي بنى مدينة سانت بطرسبورغ التي ولد فيها بوتين الذي أكمل عامه الحادي والعشرين في الحكم، تمامًا مثل بطرس الأكبر الذي أعلن بعد مرور (21) عامًا من حكمه قيام الإمبراطورية الروسية (1721-1917).
حسب البروفيسور الروسي أندري أوكارا، فإن روسيا بوتين “تسعى لكي تصبح إمبراطورية شبه استعمارية”، وذلك عبر “ضم البلدان السوفيتية السابقة إليها في صيغة اتحادية جديدة عبر الاتحاد الاقتصادي الأوراسي”[15]، وإن هذا الحلم لن يتحقق سوى عبر “تصحيح الخطأ التاريخي الذي أدى لنزع أوكرانيا وبيلاروس من روسيا وتحولهما لدول مستقلة”[16]، كما لا يخفي السياسيون الروس هذه الرغبة. إلا أن تحقيق هذا الحلم الإمبراطوري مستحيل التحقق دون “استعادة” أوكرانيا، وبحسب وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كسينجر “بدون أوكرانيا لا يمكن لروسيا أن تكون إمبراطورية – «without Ukraine, Russia cannot be an empire»[17].
على الرغم من ذلك، كان واضحًا أن الغرب لن يقبل هكذا بسهولة بعودة “الإمبراطورية” الروسية بأي شكل من الأشكال، فقط لمجرد تحريك بعض القوات على الحدود مع أوكرانيا أو تقديم ضمانات أمنية حملت صفة “الإنذار”.
فرضية التلويح بالحرب للوصول إلى تفاهمات سياسية
للإجابة عن هذه الفرضية، قد يكون من المفيد اللجوء لآراء بعض الخبراء الروس المقربين من الكرملين، والذين يعرضون بشكل أو بآخر وجهات نظر بوتين في مقالاتهم، وعلى رأسهم سيرغي كاراغانوف (Sergey Karaganov)، رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاعية، ورئيس هيئة تحرير مجلة روسيا في الشؤون العالمية، الذي يعتقد بأن “هناك حرباً باردة جديدة قد بدأت حقًا”، وأن ظروفها الحالية “تسمح لروسيا بالانتصار فيها على الغرب وأميركا”، وذلك لأن “الحضارة الغربية بالرغم من أنها لا تزال قوية للغاية، فإنها تشهد انهيارًا سياسيًا وأخلاقيًا، وضعفًا اقتصاديًا، على الرغم من أن الموارد الاقتصادية والعسكرية والثقافية والمعلوماتية المتراكمة لدى الغرب لا تزال كبيرة، والتي يتم استخدامها من خلال العقوبات و”حرب المعلومات”، وفيما يخص “فقدان” الإمبراطورية يقول: “لا يسع أي وطني روسي إلا الحداد على فقدان الأراضي التي ضمها الأجداد؛ لكن معظم هذه الأراضي قد التهمت موارد روسيا نفسها، وهي الآن تمدنا بموارد عمالة رخيصة.
بدونهم، “كان التدهور الديموغرافي الذي بدأ في العهد السوفيتي سيكون أكثر إيلاما بكثير”، ويرى كاراغانوف، أن روسيا الآن تتمتع بمزايا عديدة تجعل وضعها أفضل مما كانت عليه في العهد السوفيتي، وذلك لأن “تبادل السلع مع الدول السوفيتية السابقة يتم بسعر السوق وليس بأسعار مدعومة، وأوكرانيا تتجه بسرعة نحو الفشل الكامل، والمساعدات للدول النامية محدودة ومجهرية لا تكاد تؤثر على الميزانية، والشيء الرئيس هو أنه تم الحفاظ على سيبيريا، وهي أساس رئيس للتنمية في السنوات القادمة”.
كذلك، أحد العوامل المهمة في حساب ميزان القوى هو “انخفاض حصة الغرب في الناتج القومي الإجمالي العالمي، والاستقلال المتزايد للدول غير الغربية، مما يوسع مجال المناورات الجيواقتصادية والجيوسياسية”. مختتمًا حديثه حول “كيفية كسب الحرب الباردة الجديدة”، بالقول: “لقد حان الوقت لمفهوم جديد حقًا للسياسة الخارجية، فالسرد القديم قد استنفد كافة أغراضه، ويُنظر إليه بشكل متزايد على أنه أشبه بطقس معتاد وليس دليلاً للعمل”.
روسيا بحاجة إلى “الصبر الاستراتيجي” الآن أكثر من أي وقت مضى، حيث “يتجه الوضع العالمي بشكل عام لصالحنا، ومن المحتمل أن تكون الاتفاقيات المستقبلية أكثر ربحية من تلك المقدمة لنا الآن”. مشددًا على أنه “من المستحيل الانتصار في الحرب الباردة الجديدة على الفور، لذلك فالأمر بحاجة إلى عدة مواجهات ومعارك هنا وهناك للوصول إلى اتفاقيات جديدة مقبولة للجميع”[18].
أما فيما يخص الحشود العسكرية على الحدود مع أوكرانيا، والتي بدأت منذ نهاية 2021، فقد صرح بالقول “تزيد روسيا من ضغوطها على الغرب بإظهار مدى جدية تعاملنا مع أوكرانيا. إذا لم تصبح دولة محايدة منزوعة السلاح، فقد تكون أوروبا في مأزق، وسنضطر لحل هذه المشكلة بطريقة أو بأخرى”.
أما فرضية “الغزو” الروسي لأوكرانيا، فقد أجاب عنها بالقول: “روسيا لا تريد مهاجمة أي دولة. الغزو البري ليس من المصالح الأساسية للكرملين ما لم يقرر نظام كييف المنهار بالفعل مهاجمة إحدى جمهوريات إقليم الدونباس المستقلة من جانب واحد”.
ثم أكمل “لا توجد هدية أسوأ للاتحاد الأوروبي من تسليمه دولة منهارة، تسيطر عليها مثل هذه النخبة التي أوصلتها للخراب الحالي بعدما كانت أوكرانيا واحدة من أغنى جمهوريات الاتحاد السوفيتي، بينما الآن لديها واحد من أقل بلدان أوروبا بالنسبة للناتج القومي الإجمالي للفرد؛ إن السيطرة على مثل هذا البلد لن تكون من الحكمة، هذا لو استخدمنا عبارة ملطفة”.
أما فيما يخص استخدام الحشود على الحدود من أجل أسباب سياسية داخلية، فقد أجاب “بدون شك، يستخدم القادة الروس السياسة الخارجية لتحقيق أهداف سياسية داخلية، وهذا أمر طبيعي ويحدث في كل مكان. سيكون من الغريب لو لم يكن الأمر كذلك”.
بالنسبة لدوافع الغرب من عملية “التصعيد” كما يصفها، فيرى أن أحد أهم دوافعها، خط الغاز الجديد نورد ستريم-2، ويعلق “لست مندهشًا من أن الأميركيين يعارضون خط أنابيب الغاز. إنهم خائفون من الاعتماد المتبادل الذي سينشأ بين روسيا وأوروبا بسبب تدفقات الطاقة، وما سيجلبه الغاز من أموال إلى الميزانية الروسية، ويمكن لروسيا استخدام هذه الأموال لزيادة التجارة مع أوروبا”.
كما عاب على الولايات المتحدة “عدم مراعاة مصالح روسيا، والتي بسببها تمكنت الصين من التفوق وباتت مشكلة لأميركا”، وحول التحالف بين موسكو وبكين، قال “تحاول أميركا دفع الناتو إلى مواجهة متزامنة مع الصين وروسيا. هذه الاستراتيجية من المستحيل فهمها؛ إذا استمر الضغط علينا ستصبح العلاقات بين بلدينا أكثر قربًا، ولا يُستبعد حتى التحالف العسكري بيننا”[19].
أخيرًا، وفي تعليقه على التطورات الأخيرة بين روسيا والغرب، ولماذا الآن يصر بوتين على ضرورة الحصول على ضمانات أمنية، يجيب: “نحن لدينا تصميم على استعادة دولتنا الروسية لحدودها الطبيعية، ودورها العالمي المنشود، وحقها العادل الذي حرمت منه، والذي كنا نسأل عنه في الماضي ولا يجيب الغرب عن تساؤلاتنا، بينما الآن ومع تغير الوضع الجيوسياسي، فقد بات لنا الحق في المطالبة وليس السؤال”. أما العامل الثاني الذي دفع بوتين لهذا التصعيد، بحسب كاراغانوف، فهو وصول “الوضع إلى حدوده القصوى. تهديد الناتو بالتوسع والنفوذ الغربي المتنامي في أوكرانيا أصبح غير مقبول على الإطلاق. دخول أوكرانيا في الناتو يعني حرباً كبيرة واضحة في أوروبا ويجب منع ذلك، ومن هنا جاء هذا الإنذار. بالإضافة إلى ذلك، يتم اتخاذ الكثير من الإجراءات الأخرى سواء تلك التي نعرف عنها أو تلك التي لا نعرف عنها. كل ذلك من أجل إقناع شركائنا الغربيين بأن سياساتهم في السنوات الماضية كانت لها نتائج عكسية تمامًا بالنسبة لهم أيضًا”.
في تفسيره للإصرار الغربي على وجود غزو روسي لأوكرانيا، علّق قائلاً: “إنهم يستعدون لحرب دعائية. بتعبير أدق يواصلون هذه الحرب التي بدأت بالفعل منذ زمن، مما يعزز شيطنة روسيا. إلى جانب ذلك، يريدون بالتأكيد جر روسيا إلى حرب برية في أوكرانيا، وهذه ليست المرة الأولى، هذا تكرار لسيناريوهات قديمة حدثت عندما تم إدخال روسيا في أفغانستان، وكذلك حاولوا جر الاتحاد السوفيتي إلى القيام بأعمال عدائية في بولندا بأواخر الثمانينيات، نحن نتصرف بشكل صحيح، وتوقفنا عن اللعب حسب القواعد التي فُرضت علينا من قبل الغرب، حيث كنا حتى وقت قريب ضعفاء وأغبياء بعض الشيء”.
وحول تقييم روسيا لموقف ألمانيا، ورفض تسليمها أسلحة إلى أوكرانيا، قال: “لأنهم يدركون جيدًا أن ألمانيا ستكون من أولى ضحايا حرب كبرى”.
مختتمًا تعليقه على الأزمة الحالية، بأنها أكبر من أوكرانيا، وليست بسبب “خوف” الغرب من سياسات بكين وموسكو، بل بسبب “الخشية من خسارة (500) عام من هيمنتهم السياسية والاقتصادية والثقافية، والتي سمحت للغرب بسحب الناتج المحلي الإجمالي العالمي الافتراضي لصالحه. نحن نمتلك سيبيريا، وهي أكثر جزء واعد في بلدنا، ويضم فرصاً استثمارية عظيمة، وكذلك الصين تتطور بشكل مذهل، الزمن يتغير ولكن التغيير سيحدث عبر الخطوات لا بالضربة القاضية”[20].
حول الدوافع الروسية وراء مطالبة الغرب بضمانات أمنية، يجيب فيودور لوكيانوف، رئيس تحرير مجلة روسيا في الشؤون العالمية، ومدير الأبحاث في نادي فالداي الدولي، بالقول: “قدمت روسيا مطالب صارمة وصاغتها في شكل إنذار نهائي مفاده: تغيير النظام الأمني في أوروبا كما تطور بعد الحرب الباردة، ولكن البعض يستغرب ويسأل: لماذا الآن؟” في الحقيقة “لم يكن هذا النظام يناسب روسيا، ولا حتى في فترة التسعينيات، ولكنها كانت ضعيفة وغير قادرة على المواجهة، ولا الاعتراض بشكل علني.
أما الآن فقد أصبح لدينا فائض قوة ونفوذ تشكل على مدار العقدين الماضيين، وهو ما يسمح لها بترجمته إلى واقع عملي يحفظ أمن ومكانة روسيا”، ولكنه يعلق بأن روسيا أيضًا “مدركة أن الغرب لن يقبل بسهولة بهذا الإنذار، لأن الوضع الحالي مفيد للغاية ومريح للغرب، ولا يوجد ما يستدعي تغييره لأجل أن يكون ملائماً لروسيا”. لكن التصعيد الروسي الأخير، مجرد “جولة” من ضمن عدة “جولات” في إطار “معركة” أطول بحسب لوكيانوف، حيث لا مجال للحرب بين موسكو وواشنطن لوجود عامل الردع النووي، وعليه سيكون الصراع قائماً على “الميزة التنافسية” لكلا الطرفين، وكيفية استغلالها لخدمة مصالحهم. ما يميز روسيا -يقول لوكيانوف-: “ميزة روسيا هي أن قدراتها العسكرية في منطقة الصراع لا تضاهى مع قدرات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وكذلك في حالة حدوث تطور شديد في الأحداث، فهي قادرة على استخدام هذه الميزة على عكس الدول الغربية التي تؤكد بشكل قاطع أنها لن تشارك بشكل مباشر في الصراع”.
منوهًا لنقطة هامة حيث يعتقد أن “عامل الردع العسكري، وإظهار موسكو لإمكانية استخدامها للقوة مفيد لتعزيز الاستراتيجية الروسية الجديدة، حيث عندما توسع الناتو ليغطي مناطق جديدة في شكل عدة موجات (مع وعد الانضمام لأوكرانيا وجورجيا)، لم يفترض أحد بجدية أن الدول الأعضاء الجديدة أو حتى المرشحين سيتعرضون لخطر عسكري من موسكو يؤدي لطلبهم تنفيذ الضمانات داخل إطار اتفاقية الأمن الجماعي”، وعليه “تلويح روسيا بالقوة العسكرية، يؤكد عزمها على استخدامها إن اقتضى الأمر، وهو ما سيجعل دول أوروبا تعيد التفكير في ضمانات الناتو، وفقدانه لعامل الردع دون الدخول في حرب ستدمر أوروبا قبل غيرها”.
أما الميزة الأميركية، التي يرى لوكيانوف، تمتع واشنطن بها “الهيمنة، شبه الكاملة حتى الآن على فضاء المعلومات العالمي، والقدرة على إنشاء سردية عالمية مفيدة لمصالحها، وضارة بالآخرين (على وجه الخصوص، روسيا)، وتصوير موسكو على أنها معتدية لا تعرف الرحمة، وأن واجبها حماية البلدان الضعيفة من تغولها“. يختتم لوكيانوف تعليقه بالقول: إن “الحرب مع أوكرانيا ليست خيارًا مطروحًا، والقضية ليست أوكرانيا، بل لمن السيادة على هذه المنطقة من العالم، وإن التصعيد المتبادل سيكون سمة العلاقات الروسية الأطلسية وصولاً للتفاهم على ضمانات أمنية متبادلة، كما حدث في أزمة الصواريخ عام 1962، والنصف الثاني من الحرب الباردة، ونجاح روسيا في الحصول على الضمانات اليوم يعتمد على مدى شعور الغرب بقدرتها على القيام بأفعال مفاجئة لا يمكن الرد عليها”[21].
الدوافع الروسية وراء التصعيد الأخير
لم تكن روسيا تسعى لشن غزو على الأراضي الأوكرانية، وهدفها يكمن في إظهار موقفها الاعتراضي على عدم أخذ مصالحها على محمل الجد حسب تصريحات الرئيس الروسي، عبر استعراض للقوة بالحشود والمناورات العسكرية.
ربما تشعر موسكو، بأن موقفها بالوقت الحالي أكثر قوة من ذي قبل، وذلك بعدما رسخت من وجودها في شرق المتوسط عبر قاعدتين بحرية وجوية في سوريا، وارتماء ألكسندر لوكاشينكو، رئيس بيلاروس في أحضانها بعد سنوات من المراوغات بالعلاقة بين موسكو والغرب، وذلك على إثر الانتفاضة الشعبية التي قامت ضده عام 2020 ولقيت دعمًا غربيًا، وبالتالي أصبح لدى روسيا مساحة أمنية واسعة لوضع قواتها على كامل حدود أوكرانيا وكذلك بولندا وبلدان البلطيق الأعضاء في الناتو، وهو ما يعني عمليًا أن القوات الروسية أصبحت على حدود الناتو مباشرةً، وتصريح لوكاشينكو، بأن “بيلاروس، ستدخل الحرب مع روسيا إذا تعرضت الأخيرة لعدوان من أي جهة”[22].
اعتمدت الاستراتيجية الروسية، على عدة عوامل دفعتها لهذا التصعيد، وطلب ضمانات أمنية في صيغة ما يبدو وكأنه “إنذار” للغرب، وأبرز هذه العوامل، كالتالي:
- الانقسام الأوروبي نتيجة الخلافات مع الإدارة الأميركية السابقة، وعدم حدوث تغيير جوهري في طبيعة العلاقة بين الطرفين بعد مجيء إدارة بايدن، والدخول في تحالفات جديدة تم استثناء أوروبا منها وتفضيل بريطانيا.
- الخلاف حول توسيع حلف الناتو، ووظيفة الحلف ودوره الذي بات يتعرض لانتقادات من عدة دول أوروبية، وعلى رأسها فرنسا التي وصف رئيسها الحلف بأنه “ميت دماغيًا”[23]، وما سرب من تصريحات لقائد سلاح البحرية الألماني الأدميرال كاي آخيم شونباخ، الذي قال فيه: “إن الرئيس الروسي بوتين يستحق الاحترام، وإن كييف لن تسترد أبدا شبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو”[24]، وبالرغم من تقديمه لاستقالته فإن مثل هذا التصريح لافت.
- الأزمات التي تعصف بالاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا، وموجات اللاجئين، والأزمة الاقتصادية التي تفاقمت مع تفشي وباء (كوفيد-19)، والانقسام الأوروبي- الأوروبي، حول عدد من القضايا مثل الاقتصاد والهجرة والصين والأمن الجمعي، والأهم التعامل مع روسيا. كرواتيا هددت بالانسحاب من الحلف حال دخل في مواجهة مع روسيا، والمجر نأت بنفسها عن هذه المواجهة، وذهب رئيس وزرائها إلى موسكو للتأكيد على موقف بلاده المتحفظ تجاه سياسات توسيع الناتو، بجانب تشكيك بولندا في التضامن الأوروبي، ورفض ألمانيا تصدير أسلحة إلى كييف، وتفضيل فرنسا للحوار والحلول الدبلوماسية.
- وجود مصالح اقتصادية قوية لعدة أطراف أوروبية مع روسيا، وورقة الغاز الذي لا وجود لبديل آمن وسلس ومنافس من ناحية السعر لنظيره الروسي، وهو ما عبر عنه بوتين في مؤتمره الصحفي مع المستشار الألماني شولتس، وذلك بالقول: “تستقبل ألمانيا اليوم (55) مليار متر مكعب من الغاز الروسي. يتم توفير هذا الغاز بموجب عقود طويلة الأجل، والتي كما ذكرت سابقًا، هو أرخص خمس مرات من منافسيه، وفي ذروة الأسعار في أوروبا كان أقل بسبع مرات. دع المواطن الألماني يفتح محفظته، وانظر له وقل، أجب عن السؤال التالي: “هل مستعد لدفع ثلاث إلى خمس مرات أكثر من أجل الكهرباء والغاز والتدفئة؟”[25]، بجانب وجود حكومة ائتلافية غير متماسكة في ألمانيا، وانتخابات رئاسية فرنسية، وصعود لقوى اليمين المتشدد، وهو ما يزيد من تعقيدات الوضع الأوروبي.
- بالرغم من عدم وجود إمكانية لانضمام أوكرانيا، لحلف الناتو بالوقت الحالي، وربما مستقبلاً لإدراك الولايات المتحدة لخطورة هذه الخطوة، والخلاف داخل الحلف حولها، فإن روسيا، بدأت تشعر بالقلق من العلاقة المتنامية بين كييف والغرب، وتجميد الصراع في دونباس، وعدم التوصل لحل سياسي، وهو ما قد يؤدي مع الوقت حتى لو لم تنضم كييف للناتو، إلى قطيعة ثقافية واقتصادية وسياسية معها، وربما تغييراً في عقيدة الجيش الأوكراني، ونشوء حالة اغتراب بين البلدين لا تسمح لموسكو مستقبلاً بممارسة أي نفوذ على هذا البلد الهام بالنسبة لها، وتحولها لما يشبه جدار برلين ولكنْ غربي هذه المرة بين روسيا وأوروبا، وما يعنيه ذلك من أن تصبح روسيا بلدًا آسيويًا أكثر منه أوروبيًا، وهو ما دعاها للتحرك على أمل تغيير الأوضاع عبر إثارة فزع الأوكرانيين من أن بقاء الوضع على حاله غير ممكن.
- حسب البروفيسور الروسي أندري أوكارا، يسعى بوتين من وراء المواجهة الحالية إلى الحصول على اعتراف ضمني بتبعية القرم وبشكل نهائي إلى روسيا، ولو لم يحصل على تصريح بهذا الشأن، وكذلك ضمان عدم توقف خط الغاز الطبيعي نورد ستريم-2، بينما استبعد تمامًا فكرة الحرب، لأنها -حسب وصفه- تمثل “تهديدًا مباشرًا لروسيا نفسها قبل كل شيء؛ فهي قادرة على محو النظام السياسي الروسي الحالي، وإعادة تشكيل الدولة بكاملها بطريقة جذرية وغير متوقعة”[26].
- أمر آخر ذو أهمية خاصة لموسكو، وهو دفع البلدان الغربية للضغط على كييف، لقبول تطبيق «اتفاقية مينسك»، تكمن إشكالية تطبيق ما ورد في هذه الاتفاقية إلى أنها تناقض كافة الأسس التي قام عليها النظام الجديد في أوكرانيا ما بعد 2014، حيث تثبت هذه الاتفاقية استخدام اللغة الروسية في الدستور بجانب الأوكرانية، وتمنح إقليم الدونباس الحق في الحكم الذاتي، وتفرض على الحكومة الأوكرانية عقد مفاوضات مباشرة مع المتمردين للتوصل لحل نهائي يفضي إلى انتخابات برلمانية ورئاسية.
لو حدث وطبق أي رئيس أوكراني هذه البنود فسيفقد دعم القوميين الأوكرانيين وباقي الحلفاء في الميدان، وستطالب بعض الأقاليم في الشرق والجنوب ذات الأغلبية الناطقة بالروسية بنفس الحقوق، وربما كذلك أقاليم أقصى الغرب الناطقة بالرومانية والمجرية والتشيكية الحق ذاته، وربما الحكم الذاتي لبعض المناطق مثل لفيف المرتبطة تاريخيًا وثقافيًا ومذهبيًا ببولندا، وفي الغالب وصول حلفاء موسكو لسدة الحكم من جديد مع أول انتخابات، ومنحهم مصداقية أمام الشعب الأوكراني، حيث حذروا منذ البداية من أن مآلات الصراع ستفضي لتفاهمات مع موسكو، وبعد فقدان القرم ومركزية الدولة الأوكرانية، وحوالي (15) ألف قتيل خلافًا لآلاف المهجرين، ومليارات الدولارات خسائر اقتصادية، في الغالب ستكون الأغلبية من نصيبهم، وهو ما يعني تثبيت نظام موالٍ لموسكو دون الحاجة لصراع جديد مع أوكرانيا أو الغرب.
- أرادت موسكو من وراء الحشد الحالي -حسب المحللين الروس الذي تعرض التقرير لآرائهم- إرسال رسالة مفادها “أن روسيا قادرة على استخدام القوة العسكرية، ووجود دولة ما في الحلف لا يعني ضمانة لأمنها”، وإرهاق الاقتصاد الأوكراني عبر هروب رؤوس الأموال الأجنبية، والسياحة، وتراجع وضع البلاد الاقتصادي المتراجع أصلاً.
- تبدو الطلبات الروسية في بعض جوانبها غير منطقية، على سبيل المثال (المطالبة بعودة قوات الناتو لوضعها السابق قبل عام 1997)، وقد لمح وزير الخارجية الروسي لافروف، بأن هذه المطالب تمثل “الحد الأقصى للحصول على الحد الأدنى المقبول من قبل روسيا”[27]، وما تسرب من الرد الغربي أن هناك عدة جوانب وصفها الرئيس الروسي ووزير خارجيته بأنها “إيجابية”، ويمكن النقاش حولها، مثل نشر الصواريخ متوسطة المدى النووية وشكل المناورات وعدد القوات والعتاد للناتو بالقرب من روسيا، وهو ما أكد عليه يوم السادس عشر من فبراير (شباط) الرئيس الأميركي بايدن، الذي شجع على مزيد من الحوار مع روسيا، لبناء “منظومة أمن مشتركة تراعي مصالح كل الأطراف”، وترحيب موسكو ببيانه في اليوم نفسه.
- اعتمدت روسيا على أولوية إدارة بايدن في مواجهة الصين، وما قد تثيره روسيا من متاعب للاستراتيجية الأميركية حال لم تستمع إلى مطالبها، وذلك عبر الحشود وإشغالها في قضايا أوروبا الشرقية، وهو ما نوه إليه عدة باحثين روس. بجانب إثارة المخاوف الغربية من التقارب الروسي مع الصين، وما قد يشكله من تحديات حال لم تحصل موسكو على مطالبها، وقد اعتمدت موسكو -إلى حد كبير- على الدعم الصيني لمواجهة أي آثار اقتصادية من خلف هذه المواجهة، وهو ما بدا واضحًا من حجم الاتفاقيات التجارية الكبيرة التي بلغت (22) اتفاقية، أثناء زيارة الرئيس الروسي الأخيرة إلى بكين.
- أخيرًا، لا يغيب العامل الداخلي عن تلك التحركات الروسية الأخيرة في ظل تراجع الأوضاع الاقتصادية، وحالة الجمود السياسي بالداخل الروسي، وهيمنة الحزب الحاكم على أغلبية مقاعد الدوما، والغموض المحيط بمن سيخلف بوتين الذي تنتهي فترة ولايته عام 2024، وهل سيترشح من جديد أم لا، والتصعيد مع الغرب عامة يثير مشاعر الروس القومية، ويجعلهم يقفون خلف قيادتهم السياسية أياً كانت ملاحظاتهم عليها.
تأثير الصراع الروسي- الغربي على قضايا الشرق الأوسط
يبدو أن الجهود الغربية الروسية، فيما يخص ملف الحرب على الإرهاب قد تراجعت -إلى حد كبير- على إثر الصراع الحالي، وبعدما كان الحديث عن مواجهة الإرهاب في الإعلام والخطاب السياسي الروسي والغربي واضحًا ومحددًا باتجاه الجماعات المتطرفة، بدأ كلا الطرفين استخدامه سياسيًا في الصراع الحالي.
على سبيل المثال، وصفت موسكو تحركاتها الأخيرة بالقرب من الحدود مع أوكرانيا، بأنه يهدف إلى ردع “الإرهابيين” ذوي النزعة القومية الأوكرانية التي وصفتهم بأنهم “فاشيين” و”نازيين جدد”، ينوون مهاجمة سكان إقليم دونباس، وارتكاب جرائم “إبادة” جماعية ضد الناطقين بالروسية، وهو ما صرح به الرئيس بوتين نفسه في مؤتمره الصحفي مع المستشار الألماني أولاف شولتس، وفي المقابل استخدم الإعلام الأوكراني والغربي عامة مصطلح “الإرهاب” في وصف المتمردين الموالين لموسكو في شرق أوكرانيا، وفي خضم حرب الاتهامات المتبادلة يبدو أن ما يحدث في أفغانستان، وبدء عودة تحركات داعش قد بات في الخلفية، وقد ظهر ذلك بوضوح في تعليق روسيا على عملية تصفية المدعو أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم التنظيم، حيث يخشى من أن يؤدي الاستقطاب السياسي بين روسيا والغرب إلى فقدان الوحدة التي جمعت الطرفين حول قضية مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة.
يوم التاسع عشر من يناير (كانون الثاني) وصل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، إلى موسكو التي اختارها لتكون أول دولة يقوم بزيارتها بعد انتخابه، وقد تم الاحتفاء بهذه الزيارة في وسائل الإعلام الروسية على إثر الصراع الحالي مع الغرب، وقد وصفت يلينا بانينا، رئيسة لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الدوما سابقًا، ومديرة معهد الإستراتيجيات الروسية المقرب من الكرملين؛ اللقاء بالقول: “زيارة الرئيس الإيراني ولقاؤه بالرئيس الروسي بوتين أهم حدث في بداية العام”. كما رحبت بدعوة الرئيس الإيراني إلى إبرام “اتفاق مع الاتحاد الروسي على غرار الاتفاقية مع الصين، لمدة (25) عامًا”، ورأت كذلك في الزيارة رسالة بأن روسيا قادرة على خلق المشكلات للغرب في عدة أماكن حول العالم، مدعية بأن الوضع الحالي يشهد بوضوح على “تشكل محور جيوسياسي جديد في أوراسيا، بين روسيا وإيران والصين”[28].
طالت آثار الصراع الحالي إسرائيل، التي يعود أصول أكثر من مليوني مواطن فيها إلى روسيا وأوكرانيا، وانتقال الاستقطاب بين مؤيد ومعارض لموقف موسكو، وهو ما دفع الحكومة الإسرائيلية لمحاولة التهدئة بالداخل واتخاذ موقف “الحياد”، حيث صرح وزير الخارجية يائير لابيد، بأنه “لا يتوقع حدوث حرب بين روسيا وأوكرانيا”، وأن هناك “مبالغة بشأن نية موسكو غزو الأراضي الأوكرانية”، وتشديده على أن إسرائيل “لن تتدخل في هذا الصراع عبر إمداد أوكرانيا بأسلحة” حيث تم تداول عدة أنباء عن طلب كييف أسلحة من إسرائيل، وقد دفع هذا الموقف السفير الأوكراني في تل أبيل، يفغن كورنيتشوك، لإصدار بيان رسمي، انتقد فيه تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي، وادعى أنه يردد “الدعاية الروسية”، مؤكدًا على أن أوكرانيا “تخوض حرباً من أجل استقلالها، وتنتظر المساعدة والدعم من إسرائيل”[29]، وقد علق البروفيسور الروسي- الإسرائيلي أرتيوم كيربيتشينوك، على الموقف الإسرائيلي بالقول: “إسرائيل ستظل بعيدة عن الصراع قدر الإمكان، وقد ظهرت معلومات في وسائل الإعلام أن تل أبيب منعت دول البلطيق من نقل أسلحتها الإسرائيلية إلى أوكرانيا، وستتخذ موقف الحياد الذي يمكن وصفه بالإيجابي لصالح موسكو”[30].
حاولت تركيا التي تجمعها علاقة اقتصادية وسياسية مميزة مع موسكو وكييف، وتخشى من تفاقم الأوضاع وصولاً لحرب بين الطرفين تجبرها على الاختيار بينهما للعب دور الوساطة من ناحية، والتأكيد على دعم أوكرانيا وسيادتها من ناحية أخرى، عبر قيام الرئيس أردوغان بزيارة كييف، والتنديد في الوقت نفسه بالموقف الغربي المروج لحتمية الحرب، حيث اتهم أردوغان الولايات المتحدة والغرب بأنهم “لم يقدموا المساعدة المطلوبة لنزع فتيل الأزمة بين روسيا وأوكرانيا”[31]، تحتضن تركيا المعارضة الرئيسة لتتر القرم، والممثلة فيما يسمى “مجلس شعب تتار القرم”، وترفض الاعتراف بضم روسيا لها، وعبر هذا الموقف حصلت على امتيازات تجارية كبرى من أوكرانيا، وصولاً لتوريد أسلحة وطائرات “بيرقدار تي بي 2” بدون طيار لكييف، وهو ما أثار انتقادات موسكو، وتلعب بهذه الورقة من التوازنات بين موسكو وكييف والغرب، وحال بدأت الحرب ستؤدي لفقدانها القدرة على المناورة وإجبارها على الاختيار، وهو ما سيؤدي لخسارة أحد الطرفين، ولذلك كانت تشعر بأنها أكثر المتضررين إقليميًا من نشوبها.
الاستنتاجات
لا يبدو أن هناك نوايا روسية حقيقية للقيام بغزو واسع النطاق لأوكرانيا، وإن الهدف من التحركات العسكرية الحالية استعراض للقوة وصولاً لتفاهمات سياسية، والضغط على الغرب لإجبار كييف على تطبيق اتفاقيات مينسك، التي تمثل حال تطبيقها انتصارًا لروسيا وحلفائها بالداخل الأوكراني.
الحالة الوحيدة التي يمكن فيها لروسيا التدخل عسكريًا، هو قيام أوكرانيا بمهاجمة جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك المعلنتين من جانب واحد، وفي هذه الحالة ستمتلك موسكو كافة المبررات داخليًا وخارجيًا للتدخل بذريعة حماية الأقلية الروسية مما تصفه بـ”الفاشية” الأوكرانية، وربما تعلن قبولها استقلال كلا الجمهوريتين، ولا يتوقع أن يمتد الدخل العسكري ليشمل مناطق أخرى.
بالرغم من عدم وجود بدائل واضحة للغاز الروسي لأوروبا، ولكن سعي واشنطن لإيجاد هذه البدائل يتوقع أن يزداد وهو ما سيدفعها لتعميق علاقاتها مع الدول المنتجة للغاز والقادرة على تصديره، والبحث عن طرق جديدة لنقله إلى أوروبا، وهذا الأمر يطرح سؤالاً يبدو هامًا حول العلاقة الأميركية- الإيرانية، وإمكانية طرح مشروع نقل الغاز إلى أوروبا من العراق ومنها إلى سوريا، ثم عبر المتوسط إلى أوروبا أو عبر تركيا، وتأثيرات مثل هذه المشاريع على الأمن القومي العربي. والدور الذي يمكن أن تلعبه إيران والمقابل الغربي الذي سيقدم لها.
يخشى من أن يؤدي الاستقطاب الحالي، ووجود أقليات مسلمة ذات ثقل مؤثر وكبير في روسيا والصين، إلى تراجع الدعم الدولي لمواجهة الإرهاب، واستخدام الجماعات الإسلاموية، وبالتحديد السياسية منها في هذا الصراع، خصوصًا مع تمتع الإخوان بعلاقات واتصالات مباشرة مع الغرب، وهو ما قد يؤدي لضغوط جهات لإعادة تعويمهم من جديد.
الصراع الحالي هو صراع على الموارد والسيادة وتشكيل نظام عالمي جديد بعدما فقد النظام الذي تشكل بعد الحرب الباردة صلاحيته، وتمثل أوكرانيا فيه مجرد عنوان وأولوية لروسيا، واختبار للصين لشكل المواجهة مع الغرب المقبلة معها، وهو ما يطرح تساؤلات حول مصير الشرق الأوسط برمته، وأين موقعه في ظل هذا النظام الجديد قيد التشكل.
أحمد لطفي دهشان – باحث في التاريخ والعلاقات الدولية
[1]– Песков предложил украинцам завести будильник, чтобы не проспать “вторжение” – РИА Новости – 16.02.2022, https://ria.ru/20220216/vtorzhenie-1773024868.html
[2]– Putin’s Ukrainian endgame and why the West may have a hard time stopping him – CNN – By: Angela Stent – March 4, 2014, https://edition.cnn.com/2014/03/03/opinion/stent-putin-ukraine-russia-endgame/index.html
[3]– NATO Enlargement & Open Door – Process of Accession – NATO – July 2016, https://www.nato.int/nato_static_fl2014/assets/pdf/pdf_2016_07/20160627_1607-factsheet-enlargement-eng.pdf
[4]– The Back Channel – William J Burns – 2019 – Page 197.
[5]– Croatia sows confusion with threat to pull NATO troops over Ukraine crisis – BY: ANDREW GRAY AND CAMILLE GIJS – Politico – January 25, 2022, https://www.politico.eu/article/croatia-withdraw-military-from-nato-conflict-ukraine-russia/
[6]– Orban Pledges Cooperation With Putin in Storm of Ukraine Crisis – By: Ola Cichowlas – The Moscow Times – Feb. 1, 2022, https://www.themoscowtimes.com/2022/02/01/orban-pledges-cooperation-with-putin-in-storm-of-ukraine-crisis-a76225
[7]– Ukraine crisis: Hungary won’t accept more NATO troops on its soil, says foreign minister Szijjártó – By: Euronews – 10/02/2022, https://www.euronews.com/2022/02/09/ukraine-crisis-hungary-won-t-accept-more-nato-troops-on-its-soil-says-foreign-minister-szi
[8]– رئيس وزراء هنغاريا أوربان: سياسة حلف الناتو فاشلة وأوروبا ستعاني من فرض أي عقوبات على روسيا – روسيا اليوم – 13 فبراير (شباط) 2021، https://www.youtube.com/watch?v=SxojiTLdzaw
[9]– Опрос: 41% украинцев считают себя единым народом с россиянами, 55% с этим не согласны – BBC – 27 июля 2021, https://www.bbc.com/russian/news-57984025
[10]– How to Enlarge NATO: The Debate inside the Clinton 8
Administration, 1993–95 – By: M.E. Sarotte – International Security – July 01 2019, https://direct.mit.edu/isec/article/44/1/7/12232/How-to-EnlargeNATO-The-Debate-inside-the-Clinton
[11]– The Cold War: A World History – by: Odd Arne Westad – 2017 – Page 98.
[12]– The Back Channel – William J Burns – 2019 – Page 99.
[13]– Putin wants to be the Russian leader “who restored the empire,” Ukraine’s U.N. envoy says – BY: PAMELA FALK – CBS News – FEBRUARY 4, 2022, https://www.cbsnews.com/news/russia-ukraine-un-ambassador-kyslytsya-says-putin-wants-to-restore-empire/
[14]– On the Historical Unity of Russians and Ukrainians – Article by: Vladimir Putin – Kremlin – July 12, 2021, http://en.kremlin.ru/events/president/news/66181
[15]– Россия готовится стать колониальной квази-империей – Андрей Окара – Українська правда – 21 листопада 2011, https://blogs.pravda.com.ua/ukr/authors/okara/4eca38764e7e4/page_2/
[16]– وجهات نظر روسية بشأن الأزمة الأوكرانية، مركز الدراسات العربية الأوراسية، أندري أوكارا، 09 فبراير (شباط) 2022، https://eurasiaar.org/article/russian-views-ukrainian-crisis/
[17]– Takeaways From Munich-50 – By: Dmitri Trenin – Carnegie Moscow Center – 3.02.2014, https://carnegiemoscow.org/commentary/54404
[18]– Как победить в холодной войне – СЕРГЕЙ КАРАГАНОВ – Россия в глобальной политике – 18.07.2018, https://globalaffairs.ru/articles/kak-pobedit-v-holodnoj-vojne/
[19]– Украина, газ и Китай – СЕРГЕЙ КАРАГАНОВ – 24.12.2021, https://globalaffairs.ru/articles/ukraina-gaz-i-kitaj/
[20]– «Украина в НАТО – это однозначная большая война в Европе» – СЕРГЕЙ КАРАГАНОВ -Россия в глобальной политике – 07.02.2022, https://globalaffairs.ru/articles/bolshaya-vojna-v-evrope/
[21]– Ответ ребром – ФЁДОР ЛУКЬЯНОВ – Россия в глобальной политике – 16.02.2022, https://globalaffairs.ru/articles/otvet-rebrom/
[22]– Belarus Strongman Says Will Go to War if Russia Attacked – The Moscow Times – Jan. 28, 2022, https://www.themoscowtimes.com/2022/01/28/belarus-strongman-says-will-go-to-war-if-russia-attacked-a76187
[23]– Emmanuel Macron warns Europe: NATO is becoming brain-dead – The Economist – Nov 7th 2019, https://www.economist.com/europe/2019/11/07/emmanuel-macron-warns-europe-nato-is-becoming-brain-dead
[24]– German navy chief resigns after saying Putin ‘deserves respect’ over Ukraine – Guardian News – 23/01/2022, https://www.youtube.com/watch?v=SN4ajbhYMcY
[25]– Пресс-конференция по итогам российско-германских переговоров – Kremlin – 15 февраля 2022 года, http://kremlin.ru/events/president/news/67774
[26]– وجهات نظر روسية بشأن الأزمة الأوكرانية، مركز الدراسات العربية الأوراسية، أندري أوكارا – 09 فبراير (شباط) 2022، https://eurasiaar.org/article/russian-views-ukrainian-crisis/
[27]– مقابلة وزير الخارجية الروسي لافروف الموسعة مع (4) إذاعات روسية، روسيا اليوم، 28 يناير (كانون الثاني) 2022، https://www.youtube.com/watch?v=vQ9tK_VYhPo
[28]– Россия и Иран: чего ждать от контактов на высшем уровне – Елена Панина – РУССТРАТ – 21 янв 2022, https://russtrat.ru/poziciya-eleny-paninoy/21-yanvarya-2022-2020-8317
[29]– Ukraine’s ambassador ‘appalled’ by Israeli FM’s comments on Russia standoff – The Times of Israel – FEBRUARY 3, 2022, https://www.timesofisrael.com/liveblog_entry/ukraines-ambassador-shocked-by-israeli-fms-comments-on-russia-standoff/
[30]– وجهات نظر روسية بشأن الأزمة الأوكرانية، مركز الدراسات العربية الأوراسية، أرتيوم كيربيتشينوك، 09 فبراير (شباط) 2022، https://eurasiaar.org/article/russian-views-ukrainian-crisis/
[31]– Erdogan says Biden, West have not helped solve Ukraine crisis – Reuters – February 4, 2022, https://www.reuters.com/world/europe/erdogan-says-biden-west-have-not-helped-solve-ukraine-crisis-media-2022-02-04/