صدر “المؤشر العالمي للفتوى” (Global fatwa index) عن دار الإفتاء المصرية، ليرصد حصاد السنوات الأربعة بين عامي ( 2018-2021)، من خلال دراسة الحالة الإفتائية لـ (24) دولة على مستوى العالم، واعتمد على تحليل عينة مقدارها (2 مليون و600 ألف فتوى)، استنادًا إلى “محرك البحث الإلكتروني للمؤشر العالمي للفتوى”، وقد شملت العينة أبرز الموضوعات على الساحة الإفتائية التي نتناولها من خلال هذه الدراسة.
مقدمة
جاء المؤشر في ثلاثة مجلدات (تقارير) بالألوان، الأول تحت عنوان: “مؤشر الفتوى المقارن: الاستمرار والتغيير في الخطاب الإفتائي عالمياً، (دراسة مقارنة للفترة من عام 2018 حتى النصف الأول من عام 2021م)، (135 صفحة)، وجاء المجلد الثاني تحت عنوان: “حصاد 2020″، (258 صفحة)، وجاء المجلد الثالث تحت عنوان: “حالة الفتوى في العالم.. فقه ما بعد كورونا والرقمنة والقضايا الاجتماعية” (تقرير نصف سنوي من 1 يناير (كانون الثاني) 2021 إلى 30 يونيو (حزيران) 2021 ) (206 صفحات).
هذه الأعمال (التقارير) الثلاثة غير متاحة للقارئ، لكنها متاحة لصناع القرار، وبعض الباحثين والأكاديميين المتخصصين، ومن ثَمَّ فلا تحتوي على إشارة لدور نشر، لأنها إصدار مؤسسة دار الإفتاء وليس دار نشر، والمؤسسة ليس لها دار نشر تجارية، وتأتي هذه التقارير ثمرة من ثمرات المؤتمر السادس والأخير الذي عقدته الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم في أغسطس (آب) بالقاهرة، تحت عنوان “مؤسسات الفتوى في العصر الرقمي تحديات التطوير وآليات التعاون”. هذا وتم تأسيس “المؤشر العالمي للفتوى” عام 2018، واشترك في إعداده فريق كبير من الباحثين والمفكرين في التخصصات المختلفة، الفكرية والشرعية والثقافية والاقتصادية والعلوم السياسية، وخبراء تحليل، ليتيسر لهم استشراف الرؤية المستقبلية للتيارات الإسلاموية. ينقسم المشتركون في العمل إلى ثلاث فرق: فريق رصد الفتاوى، وفريق المحررين، وفريق المحللين، وأما المادة نفسها فيتم جمعها من خلال محرك البحث الخاص بالمؤشر العالمي، وهو الأول من نوعه. ومحرك مؤشر الفتوى عبارة عن: بوابة رقمية إلكترونية يتم من خلالها رصد الفتاوى آليًّا وتحليلها، والوقوف على مكامن الخلل في الفكر المتطرف، بالاعتماد على خدمات التحول الرقمي في جمع الفتاوى وتتبع جديدها عبر مواقع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي؛ لاستخراج المؤشرات التي تفيد المعنيين وصُناع القرار.
كل ذلك تحت إشراف الأستاذ الدكتور شوقي علام، مفتي الديار المصرية، والدكتور إبراهيم نجم، الأمين العام لدور وهيئات الإفتاء في العالم، والدكتور طارق أبو هشيمة، مدير المؤشر ورئيس وحدة الدراسات الاستراتيجية في دار الإفتاء المصرية.
تُعد إصدارات المؤشر العالمي للفتوى من أهم الإصدارات في التاريخ الإفتائي، من حيث رصد الفتاوى الدينية وتحليلها، واستخدام مؤشرات الفتوى عبر الإحصاءات والأرقام، لا سيما أنه يساعد المؤسسات الإفتائية الرسمية في الدول المختلفة لتكون على وعي بمخاطر الفتاوى غير المنضبطة[2] والمتطرفة دينياً، وحثّها على تقديم الأجوبة قبل أن تُعرض عليها الأسئلة في المجالات كافة، خصوصاً في مجال دراسة وتتبع وتفنيد الفتاوى الصادرة عن جماعات الإسلام السياسي.
كشف المؤشر عن تأثير الفتوى على المجتمعات وصناعة الأحداث، ويُعد مثالاً للتحول الرقمي في المجال الإفتائي بتحويل الفتوى إلى أرقام يمكن تحليلها، فإنه يقدم لصانع القرار والباحثين والمراكزِ البحثية المتخصصة، رصدًا دقيقًا لحالة الفتوى في أربعين دولة.
وكشف عن الحصاد الإفتائي لتيارات الإسلام السياسي، وأداء اللجان الإلكترونية للجماعات الإسلاموية، والاستمرارية والتغيير في الخطاب الإفتائي للتنظيمات الإرهابية، ومؤشرات صعودها وهبوطها، واستغلالها للأزمات الاقتصادية والسياسية والصحية في عدد من الدول، وكيف أن فتاوى الجماعات المتطرفة دعَّمت ظاهرة الإسلاموفوبيا، مما يعكس مدى نشاط وتوغل الفكر المتشدد.
رصد المؤشر (2018-2021) الخطابَ الإفتائي بشقيه الرسمي وغير الرسمي، في دول مختلفة، محدداً الخريطة الإفتائية لكل دولة على حدة، بقصد الكشف عن تأثير الفتوى في المجتمعات وصناعة الأحداث، مقدما رؤية استشرافية لصُناع القرار والباحثين لمعرفة أثر الفتاوى في صناعة الفكر المعتدل أو الفكر المتطرف، وفي دراسة دورِ المؤسسات الرسمية ومدى القيام -أو عدم القيام- بواجبها أمام أكبر تحدٍ يواجهها، وهو الفتاوى الصادرة عن الجماعات المتطرفة التي تعتمد على التوظيف السياسي للدين.
أولاً: المؤشر العالمي للفتوى: المنهج ورصد الخطاب الإفتائي الإرهابي
اعتمد المؤشر على فتاوى المؤسسات الرسمية، وفتاوى التنظيمات الإرهابية، وطُبقت العينة المختارة على منهجين: الأول: كمي، وجرى خلالها المتابعة اليومية للفتاوى وحصر المكرر، والثاني: نوعية، سُجلت فيها الملاحظات التي يصعب رصدها بالمقاييس الكمية، فاستعمل المؤشر لذلك منهجية تعتمد على مضمون المادة استكمالاً لجهود الرصد الكمي حتى تكون الصورة أكثر وضوحا ودقة.
اتسمت منهجية المؤشر بتنوع منافذ العينة، ما بين مؤسسات إفتائية رسمية عربية وأجنبية (عددها “500”)، ومواقع متخصصة (1500)، وصحف ومواقع غير إخبارية (عددها “200”)، وقنوات تلفزيونية (عددها “100”)، وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، وأخرى كالكتب والإصدارات المرئية (عددها “20000”). وصنف الفتوى إلى (30) تصنيفا، مما يُسهِّل معرفة مجالات الفتوى ومصدرها وأماكن نشرها، وتمكين الباحثين من معرفة هوية مصدر الفتوى وجنسيته وانتمائه ونطاق الفتوى الجغرافي والزمني، فأصبحت الفتوى حية متحركة، من خلال تحويل البيانات الإحصائية الموجودة في السجلات والمستندات من مادة خام إلى بيانات لها أبعادها تسهم في تحديد المشكلة والمساعدة على التشخيص، ومعرفة بيئة الفتوى وأسبابها ومصدرها وتوجهاته.
اعتمد المؤشر على منهج “المسح الإعلامي”، وهو من أوسع المناهج استخداماً في الدراسات الإعلامية الحديثة؛ لوصف وتحليل الفتاوى المختلفة، واستخدام منهج تحليل المضمون بنوعيه الكمي والموضوعي، لذا بدأ بتحديد المشكلة، مقترحاً بعض الحلول ما أمكن، مع مراعاة متابعة الخطط وتقويم الأداء، وإيجاد مؤشرات للمدخلات، والمؤشرات العملية، ومؤشرات النواتج، ومؤشرات الآثار.
تدرج المؤشر في عملية البحث النوعي في مجال الفتوى الذي يقوم على ملاحظة ما يتعلق بردود الفعل حول الفتاوى، سواء قبل إصدارها، أو بعد إصدارها، مما يؤدي للتتبع الدقيق لبيئة الفتوى وردود الفعل حولها وتالياً إضفاء مزيد من الدقة على التحليل، وتحقيق المرونة في تلقي المعلومات والبيانات.
استندت الخطوة الثانية وهي (الوصف العلمي) على الوسائل الإحصائية القادرة على اختزال مجموعة كبيرة من البيانات إلى مجموعة بسيطة من الأرقام والمصطلحات الإحصائية، وهو المنهج الذي يبدأ منه المؤشر انطلاقاً من اعتبارات عدة، أبرزها: أن الأسلوب الوصفي هو الأنسب لبحث أسباب الفتوى بمختلف الظروف المحيطة بها والمؤثرة فيها، ويتم استخدام الوصف لاختيار المؤشرات وبناء المقاييس التي تُعد الأساس لدراسة الحقل الإفتائي، ويقوم المؤشر في استخداماته لأسلوب الوصف على دراسة مختلف أنواع المتغيرات الكمية أو النوعية، والاعتماد على الإحصائيات الوصفية باستخدام أساليب متنوعة، سواء الوصف بالصورة مثل: الرسم البياني والأعمدة والمنحنيات والقطاعات الدائرية، والوصف بالأرقام للتمركز حول قيمة معينة، وقد سهل هذا علينا كثيراً في قراءة الحقل الإفتائي.
أما أسلوب الوصف كعملية أولية لتجميع البيانات والمعلومات بشأن جوانب الحقل الإفتائي كافة، وتنظيمها من أجل معرفة أسبابها والعوامل المتحكمة فيها، فكانت نقطة الانطلاق للانتقال لمرحلة تحليل وتفسير الفتوى، وتقسيم المؤشر الرئيس لعدد من المؤشرات الفرعية التي تنتقل إلى المؤشرات المقارنة.
ينقلنا هذا إلى اعتماد المؤشر على (المنهج المقارن)، لما يتمتع به هذا المنهج من خصائص تُعين على تفسير وفهم الظواهر محل دراسة المؤشر وتجزئتها واستنتاج العلاقة بينها، ومدى تفاعل القضايا الإفتائية مع السياقات المختلفة، فهو بديل التجريب في العلوم التطبيقية، ومن أفضل أنواع الدراسات الوصفية.
يقوم المؤشر بالمقارنة في اتجاهين: طوليًا وعرضيًا، فطوليًا من خلال مقارنة الفتوى في المجتمع خلال فترة زمنية محددة، وعرضيًا من خلال مقارنة وضع الفتوى في أكثر من مجتمع في الفترة الزمنية نفسها، انتهاء بالخروج بنتائج ورؤى استشرافية والخروج بإحصائيات استنتاجية متعلقة بفحص الفرضية، وعلاقة المتغيرات ببعضها لتقترب بقوة من الواقع نتيجة لدقة الوصف وقوة التحليل.
- أحداث مؤثرة في القدرة الإفتائية للتنظيمات المتطرفة
من اللافت للنظر أن الصورة الإجمالية للتنظيمات الإرهابية، تؤكد تراجعها على المستوى الحركي بشكل تدريجي وملحوظ، خلال السنوات الفائتة. يرجع ذلك إلى العمليات العسكرية المحلية والعالمية لمكافحة الإرهاب، وخسارة التنظيمات عدداً من قياداتها، ومساحات كبيرة في مناطق سيطرتها، وهذه الخسائر أثرت في خطابهم الديني عموماً والإفتائي خصوصاً، حيث تأثرت فتاوى هذه التنظيمات بانشغالها بجمع شتاتها، وتعويض خسائرها من خلال إطلاق فتاوى التحريض والتكفير، وحض أتباعها على التكاتف، ونبذ التشتت والانقسام بعد انتشار الجواسيس داخلها، وفي ظل الصراع بين هذه التنظيمات كان تنظيم القاعدة المركزي وأفرعه الفاعلة باستثناء “حركة الشباب المجاهدين” من أكثر التنظيمات التي ظهر فيها التراجع الإفتائي، وهو ما رصده مؤشر الفتوى.
فبداية من عام 2018، على الرغم من أن تنظيم القاعدة استمر في تراجعه الحركي وبقائه في أوضاعه المتدهورة منذ سنوات، فإنه كان من أكثر التنظيمات كثافة في الفتاوى التي يصدرها في ظل وجود عدد من منظريه النشطين، وعلى رأسهم زعيم القاعدة “أيمن الظواهري”، الذي تراجع ظهوره في الأعوام الأخيرة، وندر في عام 2021، حيث لم يظهر إلا مرة واحدة. كما أن القيادي “أبا قتادة الفلسطيني” الذي كان يعمد لإطلاق الفتاوى الاجتماعية عبر برنامجه الإفتائي، الذي كان يتلقى خلاله تساؤلات المستفتين اختفى بين عامي (2019- 2020 ) بسبب التضييق على النشاط الإلكتروني للتنظيمات الإرهابية، ليعود عام 2021 بصورة محدودة جداً، مقدماً سلسلة حلقات رمضانية بعنوان “في ظلال الأخلاق”.
رصد المؤشر تأثر فتوى التنظيم بالخلافات الداخلية والانشقاقات، على رأسها خلافات منظر التنظيم “أبي محمد المقدسي” مع “هيئة تحرير الشام” إلى حد تكفيره لها، وانتقاد اتفاق السلام بين حركة طالبان وأميركا، وانتقاله من مفتي التنظيمات الإرهابية، إلى تقديم عدد من الفتاوى المحدودة، هذا إلى جانب تراجع الخطاب الإفتائي لأفرع التنظيم في سوريا بعد انهيار غرفة عمليات تنظيم “وحرِّض المؤمنين”، وتنظيم “حراس الدين” الذي شهد عام 2019 مقتل القيادي الأبرز له “بلال خريسات”، ومقتل نائب التنظيم “أبي القاسم الأردني” عام 2020.
استمر تراجع تنظيم القاعدة في المغرب العربي منذ نهاية 2018، لا سيما بعد مقتل أميره “أبي مصعب عبدالودود”، وغيره من القادة مثل “أبي يحيى الجزائري”، وتأثر خطابه الإفتائي بهذه الأحداث، فخرج متسماً بالمحدودية، مع إطلاق بعض الفتاوى من حين لآخر للتحريض على التظاهرات، والتأليب على الحكومات في شمال أفريقيا “الجزائر وتونس”.
وبالنظر لتنظيم داعش الذي على الرغم من افتقاره لوجود منظرين على غرار القاعدة، فإن استقراره في مناطق نفوذه الأساسية (العراق وسوريا) منذ عام 2014 ساعده على تأسيس خطاب إفتائي يقدمه لأتباعه، كانت إذاعة (البيان) أداته الرئيسة، غير أن هذا النشاط الإفتائي تراجع منذ عام 2019 بشكل ملحوظ، نتيجة مقتل زعيمه “أبي بكر البغدادي”، والمتحدث باسمه “أبي الحسن المهاجر”، ومن ثم الحرمان مما كانوا يقدمونه من فتاوى وإرشادات لأتباع التنظيم، في ظل عدم نشاط الزعيم الجديد “أبي إبراهيم القرشي” ومتحدثه الرسمي، كما أدت هزيمة التنظيم في الباغور وخسارته مناطق نفوذ شاسعة، إلى التأثير على استقراره، ومن ثم قدرته على إطلاق الفتاوى.
اقتصر خطاب التنظيم الإفتائي بين عامي (2020-2021) على ما يقدمه من خلال صحيفة النبأ، والإصدارات المرئية التي يطلقها، والتي لا تتضمن خطاباً إفتائياً رصيناً، مع غياب الإصدارات المكتوبة (الكتب- الكتيبات- المطويات) التي تقدم محتوى إفتائياً.
- الاستمرارية والتغير في الخطاب الإفتائي للتنظيمات الإرهابية
أكد مؤشر الفتوى أن هناك مجموعة من موضوعات الفتاوى التي يمكن اعتبارها شبه ثابتة على مدار سنوات، حتى وإن تباين مستوى زخمها صعوداً وهبوطاً، وهي الفتاوى “الجهادية”، والفتاوى التكنولوجية وفتاوى العبادات والقضايا الاجتماعية، التي تعتمد عليها التنظيمات لخدمة أهدافها المتنوعة التي تشمل التحريض على العمل الإرهابي، والحفاظ على تماسك أتباعها وتحقيق الاتصال فيما بينهم.
ساعدت عوامل على تفاوت وتيرة فتاوى التنظيمات الإسلاموية الإرهابية، رصد المؤشر أبرزها: التراجع الحركي بسبب تعرضها للضربات، فلجأت إلى تكثيف الفتاوى القتالية لتضمن استمرار بقائها، ولتجد التنظيمات في الوسائل التكنولوجية وسيلة للتواصل بين أتباعها منعاً للاختراق والتجسس، فتعمل على تكثيف تناولها لهذه القضايا حفاظاً على تماسكها وعدم اختراقها.
تناول المؤشر فتاوى التنظيمات الإرهابية على النحو الآتي: [3]
تنظيم داعش:
كشف المؤشر أن الكثافة الإفتائية الأكبر من الفتاوى القتالية لتنظيم داعش كانت بين عامي 2018 و2019، وكانت النسبة الأكبر في 2018، ثم بدأت في التراجع التدريجي لتصل لأقل نسبة لها عام 2020، ثم عادت للارتفاع مرة أخرى خلال النصف الأول من عام 2021.
تفسير هذه الحالة من الصعود والهبوط يعود إلى أن عامي 2018 و2019 مثَّلا حالتي نقيض، ففي عام 2018 كانت أوضاع التنظيم مستقرة، ولا يزال يتمتع بالقوة، وتالياً استغل هذه الحالة في التحريض على تكثيف عملياته الإرهابية من خلال إطلاق الفتاوى القتالية، بعكس عام 2019 الذي يُعد العام الأصعب للتنظيم بسبب خسائره، ومقتل زعيمه؛ لذلك اهتم بتكثيف الفتاوى القتالية حفاظاً على بقائه ومنع تفككه. فيما جاء التراجع الطفيف لهذه الفتاوى خلال عام 2020 إلى استمرار معاناة التنظيم من الهزيمة ومحاولته استغلال جائحة كورونا للعودة إلى الساحة، ولم يكن التنظيم بقوته السابقة نفسها، ليعود التنظيم مرة أخرى لتكثيف هذه الفتاوى خلال عام 2021 بعد استقرار قيادته الجديدة بزعامة “أبي إبراهيم القرشي” والبحث عن مناطق جديدة للتمدد مثل أفريقيا وآسيا، والسعي نحو تهريب سجناء التنظيم.
تنظيم القاعدة:
بعكس تنظيم داعش اتخدت الفتاوى لدى تنظيم القاعدة شكلاً تصاعدياً انتقل من التراجع إلى التزايد التدريجي؛ بل اتخذ شكل أكثر عنفاً من حيث مضمون الفتاوى التحريضية على مدى سنوات، ليصل لحد التحريض على انتهاج نهج “الذئاب المنفردة” بداية من 2020 وحتى 2021، فخلال 2020 استغل التنظيم تراجع تنظيم داعش وهزيمته في محاولة العودة للظهور والتحريض ضده.
بيَّن المؤشر أن الفتاوى القتالية لدى تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية أخذت منحى تنازلياً، فكان التنظيم أكثر نشاطاً وبروزاً خلال عامي 2018 و2019، وعُدَّ منافسا قوياً لتنظيم داعش في اليمن، حتى تعرض للاختراق الداخلي خلال عام 2019، وكانت نهايته بمقتل زعيمه “قاسم الريمي” الذي يُعرف بـ”أبي هريرة الصنعاني” مطلع 2020، ليصل التنظيم إلى أقل معدل له في الفتاوى عموماً، وللفتاوى القتالية التي يركز عليها التنظيم خصوصاً، وتعمق هذا التراجع باختفاء زعيمه الجديد “خالد باطرفي” منذ منتصف 2020 وسط أنباء عن اعتقاله أو مقتله، ليحاول التنظيم خلال عام 2021 العودة الطفيفة مرة أخرى، في ظل عودة ظهور محدود وإعادة نشر الفتاوى الجهادية للزعيم السابق “الريمي”. [4]
- تطورات الخطاب الإفتائي وأثره في الحركية الإسلاموية
يُعد النشاط الحركي والإفتائي مكملين لبعضهما البعض بالنسبة لتنظيمات الإسلام السياسي، وقد تطور النشاط الحركي للتنظيمات خلال سنوات الدراسة، فبعض التنظيمات اتجهت للبحث عن مناطق نشاط جديدة، وبعضها انحسر نشاطه وفقاً لقوة كل تنظيم وأوضاعه الداخلية، ووفقاً للمستجدات الدولية.
تُعد التنظيمات الإرهابية النشطة في أفريقيا التابعة لداعش والقاعدة، أكثر التنظيمات التي يتوافق فيها الجانبان الإفتائي والحركي، فيما يعد تنظيم القاعدة المركزي وأفرعه (الجزيرة العربية والمغرب العربي) الأقل من حيث التوافق، فتدهور أوضاع التنظيم في الجزيرة العربية حال دون قدرته على إصدار فتاوى التحريض على أرض الواقع، بينما حال استقرار الأوضاع الداخلية وقوة دولتي الجزائر وتونس دون تمكن فرع التنظيم في المغرب العربي من تأليب شعوبهما على الحكام.
ويأتي تنظيم داعش كأكثر التنظيمات التى يتحقق فيها التوافق بين الجانبين الإفتائي والحركي، فيشير المؤشر إلى أن فتاوى التحريض من داعش يقابلها عمليات إرهابية فِعلية، فالفتوى باقتحام السجون يقابلها العمل الفعلي على تحقيق الاقتحام، لكن تعرض التنظيم للهزائم والتضييق عليه يحول -في بعض الأحيان- دون تنفيذ بعض الفتاوى على أرض الواقع.[5]
تطورت الدول التي كانت محور نشاط تنظيم داعش على مدار الأربعة أعوام الماضية، فخلال عام 2018 كانت (أفغانستان– العراق- سوريا– ليبيا- تونس– مصر) أكثر الدول التي انتشر فيها التنظيم حركيا، وبالرغم من استمرار عمليات التنظيم في هذه الدول؛ فإن كثافة العمليات تفاوتت على مر الأعوام وباختلاف الأحداث.
- تنظيمات مندثرة حركياً وإفتائياً
خلال الأعوام الأربعة الماضية اندثر النشاط الإفتائي لعدد من التنظيمات، مثل: حركة (حسم) الإخوانية، وهي من الحركات التي تأسست عام 2014، ولكنها لم تستطع الصمود أمام عمليات الجيش المصري، حتى أصبحت مندثرة منذ عام 2019، وقبل ذلك بعام كان نشاطها الإفتائي والعسكري محدوداً، وتنظيم القاعدة في سيناء أيضاً من التنظيمات التي اندثرت. واندثرت غرفة عمليات تنظيم “وحرض المؤمنين”، الذي تشكل أواخر 2018 نتيجة تحالف تنظيمات عدة تابعة لتنظيم القاعدة في سوريا، فبدأ في البروز عام 2019، وتراجع نشاطه عام 2020، مهتما بإطلاق الفتاوى القتالية التي تحرض على القتال في سوريا، ثم بدأ بالتصدع التدريجي بعد إعلان تنظيم “أنصار التوحيد” انفصاله عنه في مايو (أيار) 2020م.[6]
نخلص في المحور الأول من هذه الدراسة إلى النتائج الآتية:
1- تراجع معدل كثافة فتاوى التنظيمات الإرهابية من بعد 2018، ربما كانت جائحة كورونا أحد أسبابه، مع انشغال هذه التيارات بهزائمها على الأرض، وتعرضها للاختراقات، واكتفت بالبحث عن سبل استغلال الجائحة لتحقيق أهدافها.
2- بالرغم من التفوق الحركي لتنظيم داعش مقارنة بمختلف التنظيمات الفاعلة، فإنه في السنوات الأخيرة كان أقل كثافة إفتائياً من تنظيم القاعدة الذي يعتمد على منظريه فيما يصدر عنه من فتاوى، وكانت الفتاوى الجهادية هي الأكثر كثافة بالنسبة لمختلف التنظيمات التي يهمها السيطرة وتهديد الحكومات القائمة، إلى جانب اللجوء لفتاوى العبادات والفتاوى التي تحث على التضحية والإيثار حفاظا على التنظيم.
3- ظلت الإصدارات المرئية الخيار الأكثر تفضيلاً من جانب التنظيمات المتطرفة، وإن كان أصابها التراجع بسبب مقتل بعض قياداتها أو التضييق عليهم، ويمكن القول: إن التنظيمات التي عانت من التراجع والهزيمة في بعض المناطق، حاولت البحث عن مناطق توسع أخرى، لا سيما في أفريقيا وآسيا، بينما التنظيمات المستقرة زادت من سيطرتها، فيما اندثرت تنظيمات مثل حسم الإخوانية.
ثانياً: الخطاب الإفتائي لجماعة الإخوان
- استغلال الفتوى السياسية للتأليب على الأنظمة المستقرة
تُعد جماعة الإخوان من الجماعات التي لا يتباين تفاعلها الفكري والإفتائي، ويمكن القول: إنها تتسم بالثبات إلى حد بعيد، وتُعد الفتوى المتعلقة بالأحداث السياسية التي تخص المسلمين عموماً من الفتاوى الثابتة لدى الإخوان، انطلاقاً من وصية مؤسس الجماعة حسن البنا التي جاء فيها: “إننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة، وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وطن عندنا، له حرمته وقداسته”[7]. وما يختلف فقط هو الزخم الإفتائي فيما يتعلق بهذه الفتاوى المرتبطة بالأحداث السياسية، واتضح هذا الأمر بشدة خلال فترة الدراسة، إذ لاحظ المؤشر أن هذه الفتاوى يمكن حصرها في عدد محدد من الموضوعات الأكثر تكرارًا، والتي تتمثل فيما يلي:
– التأليب ضد الحكومات العربية والإسلامية التي تعارضها: وهي الفتاوى التي بلغت نسبة مرتفعة -إلى حد كبير- من إجمالي فتاوى الجماعة خلال فترة الدراسة (35%) التي رصدها المؤشر، حيث تعمد هذه الفتاوى للتشكيك الدائم في الحكومات العربية والإسلامية التي تحاول معارضة أفكار الجماعة، باتهامها بالخيانة، وموالاة الأعداء، وعدم الأمانة في مراعاة مصالح وأحوال شؤون الشعوب والظلم، وذلك بهدف إسقاط هذه الحكومات وتشويهها تحقيقا للفوضى والتخريب.
ذكر مؤشر الفتوى أن حصاد فتوى الإخوان في انتقاد الدول المعارضة لهم ودعم الثورات والاحتجاجات والتظاهرات جاء بنسبة (60%)، إذا كان لهذه الدول هدف سياسي يختلف مع توجهات الجماعة، ومن ذلك فتوى الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين التي عدت: “التظاهر السلمي للشعوب والمطالبة بحقوقها وبمعاقبة الفاسدين، حق ثابت شرعاً، وحمايتهم فريضة شرعية، فالعلة الجامعة لما يحدث في العراق ولبنان وإيران والجزائر وغيرها هي الفساد الكبير الذي أدى إلى إفقار الشعوب وإذلالها”.[8]
– التركيز على القضية الفلسطينية باعتبارها قضيتها الأولى، وهي القضية الأكثر كثافة في تناول الجماعة بنسبة (45%)، وتعد من القضايا الثابتة التي تعتمد عليها الجماعة للتقارب مع الشعوب الإسلامية من ناحية، وإحراج الحكومات العربية من ناحية أخرى، من خلال الظهور باعتبارها المدافع الوحيد عن القضية الفلسطينية وسط صمت الحكومات العربية، وهي وسيلة لغسل سمعة الجماعة أمام الرأي العربي والإسلامي، وبوابة لاستغلال مشاعر الأمة للنفاذ إلى عقولهم بأفكارهم الهدامة. [9]
– تأتي في المرتبة التالية فتاوى المحاباة والدفاع عن الدول التي تدعم الجماعة، وعلى رأسها تركيا بنسبة (35%)، فتستخدم الفتوى لتقديم الدعم الكامل والتأييد المطلق للدول التي تدعمها مادياً، وتؤي أتباعها على أرضها، وتقدم الجماعة التبريرات التي تحمل غطاء شرعيا ودينيا لكل ممارسات هذه الدول، بل وتفخيمها لدرجة اعتبارها حامي الإسلام على الأرض.
حيث دعمت الجماعة بكل فروعها وقياداتها فتاوى التحركات التركية في ليبيا، فجاءت فتاوى دار الإفتاء الليبية الخاصة بـ”صادق الغرياني” و”محمد عجيلة”، و”سامي الساعدي” التي خرجت للترحيب بالتدخل التركي في ليبيا، والتعهد بجعل الموارد الليبية في خدمة تركيا، ومعارضة كل الأطراف المعارضة لهذا التدخل.
كما خرجت المقالات والفتاوى والتحليلات من قبل الإخوان لدعم خطوة الرئيس أردوغان لتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد، حيث قال الإخواني الليبي علي الصلابي: “إن فتح أبواب العبادة لمسجد ظل محروماً من أهله على مدار قرن تقريباً، لهو أمر عظيم استبشر به الأحرار ومحبو العدل وأنصار الحق الإنساني في العالم”، بل وصلت المبالغة في الأمر حيت اعتبرها الإخوان خطوة لاسترداد المسجد الأقصى، وهي خطوات غرضها إيهام العامة بأن الإخوان هم المدافعون عن الإسلام.
رصد المؤشر تصاعداً في منحنى فتاوى الجماعة المرتبطة بالقضايا السياسية في الأعوام الماضية محل الدراسة، فكشف عن أن عام 2020 أكثر الأعوام التي ظهرت فيها كثافة الفتاوى المرتبطة بالقضايا السياسية لجماعة الإخوان، والسبب في ذلك تعدد الأحداث السياسية العالمية والمحلية التي حرصت الجماعة على استغلالها لمصلحتها، وتمثلت في ادِّعاء التخاذل العربي في القضية الفلسطينية، وإطلاق الفتاوى لتأليب الشعوب على الحكومات العربية.[10]
– الأحداث السياسية على المستوى المحلي في عدد من الدول وعلى رأسها مصر وليبيا، فبالنسبة لمصر قامت الجماعة بالانتقاد المستمر لسياسات الدولة المصرية لتشويه ما تقوم من إصلاحات تنموية وسياسية واقتصادية، كانتقاد العاصمة الإدارية في مصر. وبالنسبة لحالة ليبيا أطلقت الجماعة عددا لا يُحصى من الفتاوى المتعلقة بوجوب القتال، وأحكام الصلح والتفاوض والغنائم، والحصول على الدعم الخارجي خاصة الدعم التركي، وغيرها من الفتاوى التي حملت الكثير من الأحكام التي غلب عليها (الوجوب والتحريم والتكفير).
لكن انخفض زخم الفتاوى عند جماعة الإخوان عن سابقيها، ويمكن تفسير ذلك بأسباب عدة على رأسها أزمات الجماعة سياسيًا، التي تفاقمت عام 2020، والتي كان منها وفاة عدد من قيادات الجماعة في مصر مثل: “عصام العريان”، والقبض على القيادي الإخواني “محمود عزت”، القائم بأعمال المرشد العام للجماعة، والانشقاقات الداخلية بالنسبة لشباب الجماعة، هذا إلى جانب الأزمات التي تواجهها الجماعة في عدد من الدول العربية مثل: السودان وتونس والأردن، وغلق النوافذ الإعلامية الخاصة بها في بعض الدول.[11]
- استغلال الإخوان لجائحة كورونا
استغلت جماعة الإخوان جائحة كورونا، وفسَّرها بعض أعضائها تفسيرًا عقائديًا، باعتبارها عقوبة إلهية بسبب الظلم، وبلغت نسبة هذا التفسير (20%)، كما أنكر بعض المنتمين للجماعة هذا التفسير، وأرجع المؤشر ذلك إلى محاولة الإخوان كسب الأنصار من الجهتين، فالطرف الذي يعتبرها عقوبة إلهية يعمق أفكار المظلومية، والآخرون ينكرون كونها عقوبة إلهية؛ حتى لا يُقال: إن الجماعة تُروج للخرافة[12]، ونحن نرى -بالإضافة إلى السبب الأول- سبباً يتعلق بأن الجماعة -مع انقساماتها المختلفة- لم تعد لها رؤية واضحة متفق عليها في قضايا الشأن العام الشرعية، فتقول الشيء ونقيضه، بسبب خلل في بنية المنهج من ناحية، وبسبب تأثير الانقسامات في عدم تكوين رؤية موحدة من جهة أخرى.
حاولت الجماعة إبراز أنها الجديرة بالمرجعية الشرعية في العلوم الدينية، وذلك من خلال إطلاق فتاوى يغلب عليها الاجتهاد وادعاء مواكية العصر، كوسيلة للتأكيد أنها الأعلم والأكثر اجتهاداً من المؤسسات الإفتائية الرسمية، ما يمكنها من كسب ثقة الشعوب الإسلامية، وتكون هي المُصدرة للعلم الشرعي، وكان النشاط الأبرز في هذا الإطار من نصيب الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وهو ما رصده المؤشر من خلال:
أ- استغلال دعوات تجديد الخطاب الديني، حيث أكدت الجماعة أهمية تجديد الخطاب الديني[13] ووجوب نبذ التشدد، ووجوب التسهيل في الفتوى.
ب- فتحت جائحة كورونا الباب لإطلاق عدد من الفتاوى التي تخص الجائحة، وحتى بيان الأحكام المتعلقة بالعبادات، مع مواكبة العصر في الفتاوى الاجتماعية.
إلا أن الملاحظ أن نسبة الانضباط في فتاوى كورونا عند جماعة الإخوان بلغت (75%)، إلا أن هذا لم يخلُ من انتقاد لعلماء السعودية ومصر والإمارات، واعتبار علماء هذه الدول أداة في يد الحكام.
نماذج لفتاوى إخوانية غير منضبطة مرتبطة بقضايا سياسية
جدول (1)
فتوى الإخوان |
قائلها |
ضبط الفتوى |
التعديلات الدستورية المصرية جريمة وخيانة لله ولدينه، والتصويت عليها إعانة على الإثم والعدوان. |
“البشير بن الحسن” الإخواني التونسي. |
المشاركة في التصويت على التعديلات الدستورية واجب وطني وديني، يصب في مصلحة الوطن. |
دماء أفراد الجيش اليمني ودماء القوات الحكومية حلال ويجوز اغتيالهم. |
“هاني بن بريك” نائب رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي اليمني، التابع للإخوان. |
الجيش برجاله هم حماة الأمة، وحائط صد ضد العدو، لكن البعض يحرض ضدهم لأسباب سياسية ومطامع شخصية. |
نماذج لفتاوى إخوانية منضبطة بشأن جائحة كورونا
جدول (2)
فتوى الإخوان |
قائلها |
الاستجابة للتدابير والإجراءات التي تتخذها الدول لمواجهة “كورونا” هو أمر واجب شرعا على المواطنين. |
“أحمد الريسوني” رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. |
يجب توفير ما تحتاجه الأطقم الطبية من أدوات تحفظهم من الإصابة بالفيروس. |
موقع إسلام أون لاين. |
إذا رأت الجهات حظر التجوال حفاظا على صحة المواطنين، فإن من يخرج من بيته لغير ضرورة يكون آثما من الناحية الشرعية. |
“ونيس المبروك الفسي” الليبي عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي. |
يغلب على الخطاب الإفتائي لجماعة الإخوان الانضباط فيما يتعلق بالفتاوى التي تخص أحكام العبادات والمعاملات المالية والإنسانية؛ جذباً للأتباع، وخلقاً لقاعدة جماهيرية مؤيدة لها، وقادرة على الدفاع عن أي اتهامات توجه للجماعة بالتشدد أو الإرهاب، أو السعي لتحقيق مصالح خاصة، لتكون صورة الجماعة شعبيا معتدلة ومدافعة عن شؤون الإسلام والمسلمين.
وهناك عدد من مفتي الإخوان الذين كانوا أكثر حضوراً على مدار الأعوام، على رأسهم يوسف القرضاوي الذي خفت نشاطه والجدل الذي يثيره على مدار سنوات، سواء بسبب تركه رئاسة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أو المرض وكبر السن، ثم يأتي مفتي دار الإفتاء الليبية “الصادق الغرياني” الذي استمر في كثافته الإفتائية المثيرة للجدل والداعية للتحريض، فيما كان “القره داغي” الأكثر تفاعلاً مع مختلف الأحداث التي تخص المسلمين على مستوى العالم، والأكثر انتقادا للحكومات العربية، أما الداعية الكويتي “حاكم المطيري” فكان الأكثر إطلاقا للفتاوى غير المنضبطة والمثيرة للجدل.[14]
وينشط الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وفروعه في الغرب في مجال الفتوى، وكذلك المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ولجنة الفتوى في ألمانيا[15] التي كانت أكثر المؤسسات الإخوانية نشاطاً على مدار الأعوام الأربعة، وقد ذهب المؤشر إلى أن عام 2020 كان عام الازدهار الإفتائي لجماعة الإخوان، وعام محاولة العودة مرة أخرى للظهور على الساحة.
كما كانت مصر والمملكة العربية السعودية أكثر الدول مواجهة للإخوان فكرياً، من خلال إطلاق الفتاوى التي تؤكد تصنيف الجماعة ومنتسبيها باعتبارهم خوارج العصر، وإطلاق البرامج الدعوية وعقد المؤتمرات، وإطلاق الحملات الإلكترونية للتحذير من خطورة أفكار الجماعة.
وعلى مستوى المواقع الإلكترونية يأتي في رصد المؤشر العالمي للفتوى موقع “إسلام ويب” الموجه للغرب من أكثر المواقع انتشاراً، حيث يتضمن عدداً من اللغات الأكثر انتشاراً، على رأسها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية، كما يعتمد على إصدار الفتاوى التي تخص عدداً كبيراً من المتلقين، مثل فتاوى العبادات والأطعمة والشباب والمرأة والطفل.[16]
- المؤتمرات الإلكترونية فرصة الإخوان في التأثير
فيما أكد مؤشر الفتوى أن نشاط الجماعة لم يتوقف عند حد إطلاق الفتاوى فحسب، بل عقدت عدداً من المؤتمرات باستخدام وسائل التواصل الحديثة، عبر منصات “زووم”، حيث وجدت الجماعة في التباعد الاجتماعي والوسائل التكنولوجية الحديثة فرصتها لتعويض تراجعها الواقعي بالوجود الرقمي والإلكتروني ونشر أفكارها، لذا حرصت على أن يكون موضوع هذه المؤتمرات: جائحة كورونا، والتطبيع، والإسلاموفوبيا، وفي الغالب كان الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين هو المنظم أو المشارك الرئيس.
من هذه المؤتمرات، مؤتمر أولويات العمل الوطني، الذي عقد بمدينة إسطنبول التركية، وكان هدفه -وفقا للقائمين عليه- توعية المصريين بمخاطر كورونا، ولكن الملاحظ أنه لم يلق صدى داخل مصر، ومؤتمر “الإسلاموفوبيا والتوجهات الفرنسية في ضوء تصريحات ماكرون”، وقد عقد برئاسة هيئة علماء المسلمين في لبنان، وبمشاركة الاتحاد العالمي، والهيئة الدائمة لنصرة القدس.[17]
اتسم خطاب الإخوان الإفتائي بسمات عدة، منها: الهجوم المستمر للدولة المصرية، والترويج لفشل النظام المصري في كل شيء، وتكثيف مشاعر التعاطف مع المصريين وإظهار حرص الجماعة على حقوقهم، وتكثيف خطاب المظلومية والابتلاء.
- تحول فتوى الفقيه الإخواني إلى أداة تعبئة تنظيمية
إذا دققنا النظر في خلاصة الأداء الإفتائي لجماعة الإخوان –بل لغيرها من الجماعات الإسلامية- نجد أن كثيراً من فقهاء هذه الحركات الإسلاموية المتطرفة قد تحول فقههم وفتاواهم إلى أداة تطويع تعبئة تنظيمية تعمل على خدمة الجماعة، ومحمد الحسن ولد الددو ما هو إلا مثال فقط، ومثال آخر هو القرضاوي الذي طوع فقهه في المرحلة الأخيرة لخدمة تنظيم الإخوان، ودعم الدول الداعمة لها كقطر وتركيا.
ولكي يحقق الفقيه مبتغاه بجعل الفقه أداه تنظيمية، فإنه يدخل على الفتوى بتصورات مسبقة، تملأ ذهنه، أو نظريات خاصة به؛ وينطلق ليستنطق الفقه استنطاقاً أيديولوجياً تنظيمياً، إنه منهج خطير يكشف عن غياب تام لعقلية الفقيه، ويعزله عن مناهج العلم لحساب عقلية التنظيمي والحزبي والتعبوي والحماسي، وصار الفقه عند الحركات الإسلاموية فقهاً حركياً عنفياً.
لم يغير إنكار الإخوان ضلوعهم في العمل السري من حقيقة وجود تنظيمات وخلايا إخوانية نشطة، وإن لم تظهر للعلن بصورتها وهيئتها، وحافظ بعض فقهاء الإخوان على صورتهم المتعالية على التصريح بشرعية العمل السري أو دعمه حركياً وإفتائياً، ففي مؤتمر (هيئة علماء فلسطين في الخارج)، الذي عقد تحت اسم “منتدى الشباب الثاني” في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، تحدث الفقيه الإخواني الموريتاني الددو، قائلاً: إن منتدى الشباب كالكهف، لتحقيق التربية التي تحقق الأخوة والتعارف، وإن هذا العدد هو الأصل أن يكون فرديا، لحسم الخيار، ويتقيد بالظرف الأمني الذي يحيط به، وإن أنسب الأعداد هي الفردية، واستشهد بذلك بآيات من القرآن الكريم، وأن الله لم يحسم ذلك، وإنما وكله للظروف، ويتساءل عن ماذا يرمز الكلب؟ ويجيب: يرمز إلى الاحتياط الأمني وأخذ الحذر، ويشير إلى أن أهل الكهف قالوا: “فابعثوا بأحدكم”، لئلا يتعرضوا لمشكلات أمنية، وما قاله الددو تأكيد على أنَّ التيّارات الإخوانية لا تتخلى عن أسس الأيديولوجيا، ومثال لتيارات ترى أنه لا بد من عمل سري لمواجهة الأوضاع الحالية التي تضيّق امتدادهم وتخنق وجودهم، فتحولت رمزيات قصة أهل الكهف من مثال تربوي ينبه المسلمين إلى التعامل مع “صدمة الحضارات”، إلى شفرات سياسية يتم فيها تطويع النص بما يخدم الجماعة، بتحويل الكلب الباسط ذراعيه بالوصيد إلى إشارة للعمل الحذر السري، والدعوة إلى الحذر من أجهزة الأمن[18].
- الشخصيات الإخوانية والخطاب الإفتائي
قبل رصد أبرز المواقع والشخصيات الإخوانية التي صدرت خطاباً إفتائياً، نعرض الجهات الرسمية الأكثر كثافة إفتائية كما رصدها المؤشر، لوضع للمقارنة بين النشاط الإفتائي الرسمي والنشاط الإفتائي لجماعة الإخوان. وقد جاءت وفق الترتيب الآتي:
– تأتي دار الإفتاء المصرية في المرتبة الأولى، ويرجع ذلك إلى أسباب عدة، أهمها: تنوع قنواتها الإعلامية، وصفحاتها المختلفة، وتنوع وسائل إصدار الفتوى الشفوية والمكتوبة، والحضور الإعلامي لأمناء دار الإفتاء، وجاءت دائرة الإفتاء الأردنية في المركز الثاني، نظراً لنشاطها الملحوظ وسرعتها في التفاعل مع الأحداث المحيطة، وتنوع منافذ الفتوى بها، وجاء الأزهر الشريف في المرتبة الثالثة بعد تفاعله مع القضايا والظواهر المختلفة، وجاءت وزارة الأوقاف القطرية في المركز الرابع، والهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف بالإمارات في المركز الخامس.[19]
أما أكثر المواقع المتخصصة إصداراً للفتوى، فجاءت على النحو الآتي:
– في المرتبة الأولى موقع دروس الإمارات الإماراتي، ويليه موقع الإسلام سؤال وجواب السعودي، ويليه موقع شبكة تحرير وتنوير التونسي، ويليه موقع بينونة للعلوم الشرعية الإماراتي، ويليه موقع نور الإسلام التونسي، ويليه موقع إسلام ويب القطري الذي شهد تراجع نشاطه في الشهور الأخيرة من سنة 2021، وبرز موقع رابطة العلماء السوريين ضمن قائمة أكثر (10) مواقع متخصصة في إصدار الفتوى.
– أما أكثر الشخصيات الرسمية إصداراً للفتوى فهي على الترتيب: شوقي علام (مصر)، عبدالكريم الخصاونة (الأردن)، أحمد الحسنات (الأردن)، عبدالله المطلق (السعودية)، أحمد عبدالعزيز الحداد (الإمارات)، الصادق الغرياني (ليبيا).
أكثر الشخصيات غير الرسمية إصداراً للفتوى جاءت على الترتيب:
– عزيز العنزي (الإمارات)، عبدالحي يوسف (السودان)، يوسف القرضاوي (قطر)، خميس الماجري (قطر)، إبراهيم الحرمي (الأردن)، مشهور فواز (فلسطين).
أبرز شخصيات الإخوان التي صدرت خطاباً إفتائياً كما رصدها مؤشر الفتوى:
– عبدالحي يوسف، وحاكم المطيري، ووجدي غنيم، وعبدالله جاب الله، وعلي القره داغي، والصادق الغرياني.
واستغلت جماعة الإخوان سلاح الفتوى لتحقيق أغراضها السياسية، والسعي لإثارة الفرقة بين الدول، والشعوب، ومن نماذج ذلك:
– الإخواني الصادق الغرياني، مفتى ليبيا الذي أفتى بمنح ثروات الليبيين لتركيا، وأفتى بحرمة شراء السلع من مصر أو غيرها من الدول التي تعادي (الإخوان)، لأن التجارة معهم تقوية لهم، وأما الإخواني الكويتي حاكم المطيري فقد كفر بعض الدول الإسلامية، وله فتوى يدعم فيها مليشيات تركيا في ليبيا.
ولو أخذنا دولة مثل موريتانيا كأنموذج، لاحظ المؤشر اعتماد الفتوى الرسمية الممثلة في (المجلس الأعلى للفتوى والمظالم) على إعادة نشر الفتاوى القديمة، وعدم الاهتمام بمواكبة الأحداث الجارية والمستجدات الفقهية، مما دفع العديد من المستفتين إلى متابعة عدد من الدعاة المعروفين بآرائهم المتشددة والمنضمين إلى جماعة الإخوان، ومن أبرز دعاة الإخوان في موريتانا ظهورا “محمد الحسن الددو”، و”محفوظ ولد الوالد”، و”أبو حفص الموريتاني”، وقد اهتم هؤلاء بنشر الفتاوى على صفحاتهم، وأغلبها فتاوى سياسية[20].
اللافت للنظر أن تراجع مؤسسة الفتوى الرسمية لم يكن في موريتانيا فقط، بل كان في عدد من الدول ومنها السودان، التي أظهرت النتائج أن الفتوى فيها تعاني من ضعف، وهو ما ينعكس على حالة الفتوى بشكل عام، كما أكد مؤشر الفتوى أن الفتوى التونسية تركز على آراء تتسم في بعض الأحيان بالتشدد، مثل فتوى “عبدالحي يوسف، التي يذهب فيها إلى أن “الكنائس لا توصف بأنها بيوت الله”.
تكرر الأمر في أميركا، فقد أدى غياب المرجعيات الدينية المعتدلة، وضعف مصادر الفتاوى المعتدلة إلكترونيا إلى اللجوء للمواقع التابعة لجامعة الإخوان، مثل مجمع فقهاء الشريعة في أميركا، الذي يعد الذراع الأساسية لجماعة الإخوان في أميركا.
[1]* باحث أكاديمي مصري.
[2]– تعبير (الفتوى المنضبطة) تعبير سائغ مشهور، للتفرقة بين الفتوى المؤسسة على قواعد علمية صحيحة، والفتوى غير المنضبطة المحكومة بالحماس والعاطفة، والتي نتج عنها أن ألصقت بالدين أفهاما حائرة، واستدلالات مضطربة، وخرجت في جو مشحون، اختلطت فيه الابتلاءات والتوجهات الفكرية بالعلم والاستنباط، لتكوين مرجعية إسلامية خارج المؤسسات الرسمية، والفتوى المنضبطة معناها: الفتوى المؤسسة على عملية الاستنباط بآلاتها وفَنِّيَّاتِها ومعاييرها، ودوائر علومها، ومقاييس التثبت من دقة الأحكام التي تم استنباطها، وتؤدي إلى التوازن الفكري واستقرار المجتمع، ورعاية الواقع ومقاصد الشريعة، لا سيما الفتاوى المتعلقة بالشأن العام، وعرفتها دار الإفتاء المصرية في دراسة منشورة بما خلاصته: أنها تبيين الحكم الشرعي بحسب ترتيب الأدلة الشرعية، بكلام موجز وألفاظ محررة غير متعددة الاحتمالات، لا جزم بأنها حكم الله، مع احترام الخلاف السائغ، ومراعاة الواقع، لأن النصوص محصورة والحوادث والوقائع غير محصورة، انظر: دار الإفتاء المصرية، الفتوى.. تعريفها.. كيفيتها.. مراحلها، على الرابط الآتي:
https://www.ifta-learning.net/mofti223?page=show
[3] – تقرير مؤشر الفتوى المقارن، ص55.
[4] – تقرير مؤشر الفتوى المقارن، ص59، 60، 61.
[5] – تقرير مؤشر الفتوى المقارن، ص65.
[6] -تقرير مؤشر الفتوى، ص65.
[7]– مجموعة رسائل حسن البنا، دار الشهاب، ص19.
[8] – تقرير مؤشر الفتوى المقارن، ص69.
[9] -المرجع السابق نفسه.
[10] – تقرير مؤشر الفتوى المقارن، ص69، 70.
[11] – تقرير حصاد 2020، ص252.
[12] – تقرير حصاد 2020م، ص243.
[13]– تجديد الخطاب الديني مقصود به إزالة كل ما علق بالدين من مفاهيمَ مغلوطة، أو تأويلات منحرفة، أو استدعاء خاطئ لآيات القرآن في غير ما قصدت إليه، وإعادة إبراز مكارم الشريعة، وسمو أخلاقها، ومعالجة الأفكار التي خرجت في جو مشحون مندفع، اختلطت فيه المعاناة والابتلاءات بالفكر والعلم، تحت الضغوط النفسية الهائلة، مما أنتج فقها وفكرا مغرقا في التشويش والاضطراب، وعلى ذلك فمعنى التجديد الذي يقوم به الإخوان مختلف تماما عن التجديد في الفكر الإسلامي، فالتجديد في الفكر الإسلامي ينتهي إلى رفض التنظيمات هذه.
[14] – تقرير مؤشر الفتوى المقارن، ص 72-77.
[15]– من أذرع جماعة الإخوان في الغرب: منظمة كير الإسلامية الأميركية، واتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا، ومعهد الفكر السياسي الإسلامي بلندن، والاتحاد الإسلامي في الدنمارك، ومبادرة المسلم البريطاني «بي إم آي»، واتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا، والجمعية الإسلامية في ألمانيا، واتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، وغيرها. وتعد التجمعات الشبابية ساحة خصبة لنشر أفكار الإخوان وإقناع الشباب بمواقفهم السياسية، ساعدهم على ذلك بعد المنظمات والجمعيات الإخوانية عن الأجهزة الأمنية.
[16] – تقرير مؤشر الفتوى المقارن، ص77.
[17] – تقرير حصاد 2020، ص251.
[18]– بتصرف واختصار وزيادة بسيطة جدا من تقرير بعنوان: الإخوان وشهوة العمل السري، كيف يتحول الفقيه إلى أداة تعبئة تنظيمية.. ولد الددو نموذجا، صادر عن وحدة تحليل الوثائق بمركز المسبار للدراسات والبحوث، بتاريخ 24 يوليو (تموز) 2018.
[19] – تقرير حالة الفتوى في العالم، ص28.
[20] – تقرير حالة الفتوى في العالم، ص29.