تمر منطقة الساحل والصحراء بتوترات أمنية معقدة، نتيجة للتنافس الحاد على النفوذ بين تنظيمي القاعدة وداعش، الأمر الذي جعل منها معضلة أمنية مستعصية على الاستراتيجيات والمقاربات الأمنية. في هذا الصدد أصدر معهد الاقتصاد والسلام الدولي تقرير “مؤشر الإرهاب العالمي 2022” في نسخته التاسعة، ويحلل خلاله عدداً من الأبعاد المحورية للنشاط الإرهابي في العالم، فيما تناقش هذه الورقة على وجه الخصوص تطور النشاط الإرهابي في منطقة الساحل الأفريقي، ونستعرض خلالها أهداف وأيديولوجيات التنظيمات الإرهابية، إلى جانب استيضاح سياقات وتداعيات النشاط الإرهابي بالمنطقة.
أولا: قراءة في النشاط الإرهابي بمنطقة الساحل
تواجه منطقة الساحل والصحراء تحديات سياسية واقتصادية وأمنية، وتعكس كافة المؤشرات عجز تلك الدول عن مواجهتها، مما يعني اتجاه المنطقة للمُضي في دائرة مغلقة من التهديدات إذا لم تُتخذ الإجراءات اللازمة لاحتوائها وتطويقها، وقد أورد التقرير عدة ملاحظات تتعلق بالنشاط الإرهابي بمنطقة الساحل، يمكن إبرازها على النحو التالي:
- فشل الحكومات في وضع خطط أمنية: كشف التقرير وجود مجموعة مؤشرات تعكس خطورة الوضع بمنطقة الساحل، منها فشل حكومات دول الساحل في وضع خطط واستراتيجيات للقضاء على منغصات الأمن الممثلة في الجماعات الراديكالية، كما ذكر التقرير أن تصاعد التنظيمات الإرهابية كداعش والقاعدة، أدى إلى ظهور تنظيمات مسلحة محلية مكونة من مواطني الدول للدفاع عن الأقاليم القاطنين فيها، بعد فشل الأجهزة الأمنية لدولهم في حمايتهم، لتتمكن التنظيمات الكبرى من استقطابهم، وضمهم إلى صفوفها بعدما نجحوا في تقديم الدعم والمعونة التي فشلت حكومات البلاد في منحهم إياها، وهو الأمر الذي أدى إلى تصعيد المشهد الأمني للقارة، مما ساهم في توسيع دائرة العنف.
فالوفيات بمنطقة الساحل تمثل (35%) من إجمالي حالات الوفاة الناجمة عن العمليات الإرهابية في العالم خلال 2021 مقارنة بـ(1%) خلال عام 2007، كما ارتفع إجمالي الوفيات الناتجة عن العمليات الإرهابية عشرة أضعاف خلال الفترة من 2007 وحتى 2021، وتصدرت دول بوركينا فاسو، ومالي، والنيجر قائمة أعلى ثلاث دول أفريقية من حيث إجمالي الوفيات خلال عام 2021، حيث سجلت الدول على التوالي (732) و(574) و(588) حالة وفاة.
معدلات الضحايا والوفيات بمنطقة الساحل خلال الفترة من (2007–2021)
- تمركز الجماعات الإرهابية حدوديًا: يلاحظ أن الجماعات الإرهابية تتمركز في المناطق الحدودية، نظرًا لضعف السيطرة الأمنية والتهميش من قبل الحكومة المركزية في العاصمة، وكنتيجة طبيعية للتهميش الحكومي، انخفضت معدلات الوعي والتعليم لمواطني تلك الأقاليم، من ثم سُهلت المهمة على التنظيمات الراديكالية للوصول إلى مواطني الأقاليم الحدودية، وإقناعهم بالانضمام إليهم، مستغلين الدين وأنهم جاؤوا للدفاع عنه، ووفقًا للتقرير يتركز النشاط الإرهابي -بشكل كبير- في منطقة حوض تشاد والكاميرون والنيجر ومنطقة الساحل الأوسط بامتداد بوركينا فاسو ومالي والنيجر وبنين وتوغو.
- تغلغل الجماعات الراديكالية غربًا: شهدت العمليات الإرهابية تصاعدًا كبيرًا منذ عام 2007، بخلاف موريتانيا التي سجلت أقل من (40) حالة وفاة ناتجة عن عمليات إرهابية خلال عام 2021، في المقابل تعد النيجر أكثر الدول الأفريقية التي شهدت عمليات إرهابية بعدما تضاعفت الأعداد هذا العام مقارنة بالعام الماضي، ويعزى ذلك إلى الانتشار الكبير للتنظيمات المسلحة غرب أفريقيا، كجماعة بوكو حرام والدولة الإسلامية غرب أفريقيا، ناهيك عن حالات الوفاة الناتجة عن الصراعات العرقية.
- التغيرات في نسب الوفيات بمنطقة الساحل خلال (2020-2021): شهدت أعداد الضحايا والوفيات زيادة بقيمة (1000%) خلال عام 2021 مقارنة بعام 2007 (من “20” حالة لأكثر من “2000”)، ونُسبت غالبية الوفيات إلى مجموعات محلية مجهولة وأخرى راديكالية، حيث سجلت بوركينا فاسو (732) حالة وفاة خلال عام 2021، من ضمنهم (349) حالة وفاة ناتجة عن هجمات ارتكبها تنظيم الدولة الإسلامية غرب أفريقيا، و(17) حالة وفاة بفعل جماعة بوكوحرام، وباقي الوفيات نسبت لأعمال جماعات مجهولة.
لذا سجلت بوركينا فاسو أكبر تدهور على مؤشر السلام العالمي لعام 2021 بانخفاض (13) مركزًا عن 2020، بينما سجلت مالي أكبر عدد للعمليات الإرهابية والضحايا منذ عام 2011 بزيادة (56%) في إجمالي العمليات الإرهابية، و(46%) في إجمالي الضحايا مقارنة بالعام الماضي.
جدير بالذكر أن العمليات الإرهابية في مالي بدأت تأخذ الاتجاه التصاعدي منذ عام 2017 بعد إعلان حالة الطوارئ، عقب الهجمات الإرهابية التي تعرض لها فندق راديسون بلو في باماكو عام 2015، حيث تعزز وجود جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وتنظيم الدولة الإسلامية غرب أفريقيا بتلك المنطقة.
أما في نيجيريا فقد انخفضت معدلات الوفيات بنسبة (51%) خلال عام 2021 بعد ثلاث سنوات من الزيادات المتتالية، ويرجع هذا الانخفاض إلى تراجع معدلات الهجمات المرتكبة من قبل بوكو حرام في منطقة بورنو، حيث انخفضت الوفيات بتلك المنطقة إلى (71%) بعد وفاة زعيمها أبي بكر شيكاو، فيما تفوقت داعش على بوكو حرام وصنفت باعتبارها أكثر الجماعات الإرهابية دموية في غرب أفريقيا.
- اتجاه مؤشر الإرهاب للارتفاع: ذكر التقرير أنه برغم تنفيذ تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي هجومًا واحدًا خلال عام2021، فإنه ما زال من أخطر التنظيمات الموجودة، ويشكل تهديدًا كبيرًا لأنه يمثل الفرع الرئيس للقاعدة في أفريقيا، والمنوط به نشر وترسيخ أيديولوجية التنظيم.
ووفقًا للتقرير فإن مؤشر الإرهاب في اتجاهه للارتفاع في كل من بنين وتوغو، حيث تشهد الدولتان حالة من عدم الاستقرار السياسي الداخلي، وقيام انقلابات ومحاولات انقلابية ضد السلطات الحاكمة، فبرغم أن بنين كانت واحدة من أكثر الدول استقرارًا في أفريقيا، فإن الخلافات بين الرئيس باتريس تالون والمعارضة أدت إلى حالة من عدم الاستقرار.
فيما جاء قرار الحكومة الانتقالية في تشاد في أغسطس (آب) 2021 للحد من الوجود الأمني على طول “منطقة الحدود الثلاثة” من (1200) إلى (600) جندي ليساهم في تعزيز تمركز الجماعات الإرهابية، مما أدى إلى تدهور الأوضاع الأمنية في تشاد بشكل كبير.
ثانيًا: الإرهاب في الساحل: السياق والمحفزات
تتشكل التنظيمات الإرهابية دائما داخل بيئات مليئة بالصراع وعدم الاستقرار السياسي، حيث تتطلع تلك الجماعات إلى إحداث تغيرات سياسية وإعلاء أيديولوجيات مختلفة، وكانت منطقة الساحل والصحراء بيئة خصبة لظهور وتنامي تلك التنظيمات وذلك نتيجة لعدة عوامل:
- وجود مجموعات كتنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي، الذي سعى -بشكل كبير- إلى استقطاب عناصر عدة لتعزيز تواجده وقوته، فتمكن من توطيد علاقته مع عناصر داخل الطوارق، كما كون علاقات مع جماعات أخرى كأنصار الدين والمرابطين وكتيبة ماسينا.
- ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا (داعش)، والذي سعى إلى تكوين أذرع إقليمية، وتوطيد العلاقات مع تنظيمات أخرى فاعلة غرب أفريقيا كبوكو حرام، مما أدى إلى انشقاقات داخل بوكو حرام، والاتجاه لتشكيل جماعات ذات ولاء لداعش كتنظيم الدولة الإسلامية غرب أفريقيا.
- أثر التدهور البيئي على الأمن، حيث تؤدي التغيرات المناخية والطبيعية إلى نزوح مواطنين من أماكن وجودهم إلى أماكن أخرى أكثر ملاءمة للحياة، مما يؤدى إلى نزاعات وصراعات بين النازحين والسكان الأصليين.
ووفقًا للتقرير يوجد بمنطقة الساحل ثلاثة أنواع من الجماعات الإرهابية كالآتي:
- أولا: الجماعات الجهادية العابرة للحدود الوطنية التي لها صلات رسمية بالقاعدة (كالقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، جماعة نصرة الإسلام والمسلمين)، أو داعش (كالدولة الإسلامية غرب أفريقيا، والدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى).
- ثانيا: ينبثق النوع الثاني من الجماعات الإرهابية من مواطني الدولة الذين لديهم مشكلات عرقية وإثنية، ودائما ما يصطدمون مع السلطات كالمرابطين وكتيبة ماسينا.
- أما النوع الثالث فيظهر كاستجابة لظروف معينة كجمعية دنان امباسجوه، التي ظهرت عام 2016 بزعم الدفاع عن النفس للدوجون الذين لديهم ضغينة ضد الفولاني.
ثالثًا: تكتيكات التنظيمات الإرهابية
كشف التقرير عن وجود نهجين تنتهجهما الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل والصحراء:
- النهج الأول ويعرف بالرعوية الشعبية: وهو النهج الذي يعتمده تنظيم القاعدة، وينصب على استغلال المظالم الاجتماعية، وتسليط الضوء على المشكلات الاجتماعية، والتهميش الذي يعاني منه الموطنون بغية استقطابهم، وبالتدريج إضعاف مؤسسات الدولة مقابل صعود نفوذ التنظيم، حيث ينصب التركيز على بناء تحالف محلي أفقي يتضمن عنفاً أقل.
- النهج الثاني ويعرف بالنظام الهرمي: ويتبنى داعش هذا النهج الذي يعتمد على مزيد من العنف، عبر شن هجمات متكررة ودموية لإجبار الأفراد على الانضمام إليه، فعلى سبيل المثال أسفرت الهجمات الإرهابية التي ارتكبتها جماعة نصرة الإسلام والمسلمين خلال عام 2021 إلى (207) حالات وفاة، أي ما يقرب من خمسة أضعاف العدد الذي تم تسجيله لعام 2020.
وذكر التقرير أن داعش يُرغّب المقاتلين في ممارسة العنف للحصول على الغنائم، لذا لم يكن مفاجئًا أن تفوقت داعش على بوكو حرام، حيث كانت أكثر الجماعات الإرهابية نشاطًا في النيجر عام 2021، وقامت بشن (23) هجوماً في البلاد ليبلغ متوسط معدل الضحايا وفقًا للتقرير (15.2) حالة وفاة لكل هجوم، كما أسفرت هجمات داعش في النيجر عن إجمالي (60%) من مجموع الضحايا في النيجر، أما في نيجيريا بلغ عدد الضحايا المدنيين من هجمات داعش (84%) من إجمالي الضحايا.
ويرجح التقرير أن تهاجم جماعة نصرة الإسلام والمسلمين في بوركينا فاسو ومالي أهدافًا عسكرية، بينما القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي أكثر عرضة للانخراط في مهاجمة الأهداف الحكومية أو الخاصة.
رابعًا: استراتيجية قتل القادة المحليين
أورد التقرير أن هناك نمطًا آخذًا في الظهور في منطقة الساحل، يتم بموجبه استهداف الإرهابيين للقادة ورؤساء الدول وكبار رجال الدولة وسياسييها وأعضاء المجالس وزعماء دينيين، وذلك لخلق فراغ في السلطة، مما يؤدي إلى مزيد من الفوضى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حيث إن دور القادة لا يقتصر على الإدارة والإشراف على مؤسسات ومشاريع الدولة فقط، بل يقومون بالتنسيق بين الحكومات المحلية والإقليمية والوطنية، من ثم يؤدي فراغ السلطة إلى مزيد من الصراعات المحلية على السلطة، مما يقود الحكومة للرد بقوة أكبر عبر فرض إجراءات من شأنها الإثقال على الاقتصادات المحلية، ويستشهد التقرير بما حدث عام 2012 بعدما فرضت حكومات دول الساحل إجراءات مشددة لمكافحة الإرهاب منذ انتفاضة الطوارق، حيث شهدت المنطقة زيادة في استخدام تدابير صارمة لمكافحة الإرهاب بدعم من المجتمع الدولي، سواء من خلال العملية سيرفال، أو بعثة حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي، والتي نجحت في القضاء على عدد من العناصر الإرهابية، بينهم عبدالمالك دروكدا زعيم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، ومن ثم تحدث حالة من التمرد الشعبي والصدام مع مؤسسات الدولة، وبالتبعية إتاحة الفرصة لتغلغل التنظيمات الإرهابية.
ذكر التقرير أنه برغم اعتماد المجتمع الدولي استراتيجية قطع رأس القيادات، ونجاحهم في ذلك عدة مرات، فإن تلك الاستراتيجية تشكل تحديًا جديدًا، حيث سيسعى القائد الجديد لإثبات قوة التنظيم ورسوخه، مما يعني استخدام مزيد من القوة، لذا سيصبحون أكثر قسوة من أسلافهم، فعلى سبيل المثال دعا أبو عبيدة يوسف العنابي الذي جاء خلفًا لدروكدال زعيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي طوال حياته، إلى مزيد من الهجمات ضد العناصر الفرنسية المتمركزة بمنطقة الساحل، وبالفعل تم استهداف عدد كبير من الجنود الفرنسيين.
أما على صعيد القوة الدولية والتدريب للأمن المحلي، فقد أدت إلى نتائج مختلطة، حيث تعرضت المناطق التي تحيط حدود بوركينا فاسو مع النيجر ومالي لأكبر عدد من الهجمات الإرهابية، بجملة (72%) من إجمالي الهجمات في منطقة الساحل خلال عام 2021، وكان أحد التفسيرات هو وجود القوة الدولية في مالي.
خامسًا: ثنائية الجريمة والإرهاب
أشار التقرير إلى أن الجرائم التي يتم ممارستها من قبل التنظيمات الإرهابية تشكل مصدرًا رئيسًا للدخل، ومن ضمن تلك الجرائم حوادث الاختطاف والاتجار بالبشر وتهريب الأسلحة والمخدرات، حيث ذكر التقرير وجود زيادة كبيرة في هذه الأنشطة بمنطقة الساحل لا سيما في بوركينا فاسو، فقد تم الإبلاغ عن (7) حوادث عام 2016، بينما وصلت إلى (111) عام 2019، وتمكن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي من تحقيق مكاسب بأكثر من (110) ملايين دولار أميركي منذ 2003 جرّاء تلك العمليات.
سادسًا: التهديدات البيئية وتأثيرها على الإرهاب في الساحل
استنادًا إلى تقرير “سجل التهديد البيئي” (ETR) الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام، يعتبر توفير المياه وتحقيق الأمن المائي من أكثر التحديات التي تواجه ست دول من دول الساحل، يليها توفير الغذاء الذي يمثل تحديًا أيضا لثلاث دول، ويعقبهما النمو السكاني السريع الذي يمثل تحديًا كبيرًا لجميع دول الساحل، نظرًا لعدم قدرة غالبيتهم على توفير متطلبات واحتياجات المواطنين، فالنيجر لديها أعلى معدل نمو سكاني، ويتوقع زيادة قدرها (161%) بحلول عام 2050، أي زيادة من (25.1) مليون شخص إلى (65.5) مليونًا، كما أوضح التقرير وجود علاقة طردية بين انتشار التنظيمات الإرهابية ووجود أزمات إنسانية كانعدام الأمن الغذائي والمائي، ويمكن توضيح تأثير تلك الأزمات على النحو التالي:
- علاقة أزمة الأمن المائي والإرهاب: وفقًا للتقرير هناك اختلاف في حجم هطول الأمطار عند مقارنة الشمال بالجنوب، حيث يمتلك الجنوب قرابة (800) ملم سنويًا، في حين يمتلك الشمال من (100-200) ملم، وذلك خلال شهر يونيو (حزيران) ويوليو (تموز) وأغسطس (آب)، ونتيجة لانخفاض الإمكانيات اللازمة لتنقية المياه، فقد عانت نسبة كبيرة من المواطنين من أضرار المياه غير النظيفة، ومن المشكلات المتعلقة بأزمة المياه أيضا من تقع عليه مهمة إحضارها، حيث ألقيت تلك المهمة على عاتق الفتيات اللاتي أصبح عليهن المشي ستة كيلومترات لجلب الماء، بحيث تزن كل حاوية حوالي من (15) إلى (40) كجم، وهو ما يجعلهن عرضة للاختطاف والعنف الجنسي.
وأشار التقرير إلى أن الحوادث الإرهابية وأعمال العنف تتصاعد بالقرب من الممرات المائية والطرق، حيث يعتبر نقص المياه التهديد الأكثر شيوعًا في المنطقة، نتيجة لأهميتها الاستراتيجية، لذا تعتبر هي السبب الأول لغالبية صراعات القارة، حيث تعمل الجماعات الإرهابية على استغلال سوء إدارة السلطات لتوزيع المياه، خاصة إذا كانت الكمية ضئيلة لا تكفي احتياجات المواطنين، بالتالي تتبنى تلك الجماعات نهج السيطرة على مصادر المياه واستخدامها كأداة للتهديد والتجنيد.
وقد بحث أحد التقارير وضع الأمن المائي في منطقة بحيرة تشاد، واتضح أن التنافس على إمدادات المياه لا يقتصر على دول نيجيريا وتشاد والنيجر والكاميرون، لكن بوكو حرام يتطلع أيضا إلى استغلال هذا الموقف من خلال التحكم في منابع المياه، بل ومطالبة الدول والمواطنين بضريبة للحصول عليها، وفي بعض الأحيان يطالب العائلات بتجنيد أبنائها للحصول على المياه.
- التغيرات المناخية: أدت التغيرات المناخية إلى موجات من الجفاف والفيضانات، وهو ما أثر على الأمن الغذائي، وأدى لنزوح بعض المواطنين للمناطق الأقل خطرًا، ففي عام 2020 نزح أكثر من (43) مليون شخص في ستة بلدان من الساحل نتيجة لانعدام الأمن الغذائي، في حين واجه ما يقرب من (18) مليون شخص أزمات أخرى بخلاف الأمن الغذائي.
- أزمة الأمن الغذائي: وفقًا للتقرير يشير انعدام الأمن الغذائي إلى عدم قدرة الأفراد في الحصول على متطلباتهم الغذائية اللازمة للنمو، وتعتبر دول الساحل والصحراء أكثر مناطق العالم ذات معدلات عالية من النقص الغذائي، ويوضح التقرير أن الذكور في منطقة الساحل والصحراء يعانون من النحافة وسوء التغذية بمعدلات أعلى من النساء.
ففي (14) دولة من (44) دولة أفريقية هناك أكثر من (10%) من الشباب الذكور يعانون من مستويات عالية من النحافة وسوء التغذية، وهناك سبع دول بين العشر دول الموجودة في الساحل تعانى من نقص الأمن الغذائي، ومن بين تلك السبع هناك خمس دول تعاني تزايدًا كبيرًا في معدلات الإرهاب، وهو ما يعكس العلاقة الطردية بين نقص الغذاء وزيادة معدلات الإرهاب.
فتاريخيًا كان انعدام الأمن الغذائي الدافع وراء التمرد والثورات، ولكن بمرور الوقت بدأت الجماعات الإرهابية في استغلال هذا الأمر، فعلى سبيل المثال خلقت بوكو حرام أزمة غذاء في شمال نيجيريا وبحيرة تشاد، مما أدى إلى توليد المشاعر المناهضة للحكومة، وبالتزامن مع ارتفاع معدلات النمو السكاني، يصبح هناك مزيد من الضغوط على الموارد المحدودة، مما يسهل من تمدد التنظيمات الإرهابية، ففي منتصف عام 2010 ادعت سلطات الكاميرون أن معدلات الفقر المرتفعة، والمستويات العالية من انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية شجعت العديد من الشباب الكاميرونيين على العبور إلى نيجيريا.
وأشار التقرير إلى أن بوكو حرام استغلت ذلك حيث خيرت النازحين إما الانضمام إليها أو البقاء في المنزل، وعرضت عليهم ما بين (600) دولار أميركي –و(800) دولار أميركي شهريًا.
سابعًا: وضع دول الساحل من السلام الإيجابي
يشير التقرير إلى أن دول الساحل تفتقر لمقومات السلام الإيجابي، فهناك مستويات عالية من الفساد داخل مؤسسات الدولة، إلى جانب هجرة العقول والأيدي الماهرة نتيجة عدم تقديرها من الدولة، فيهربون بحثًا عن دول تتوافر بها سبل معيشية أفضل تهتم برأس المال البشري.
وتشير قاعدة رأس المال البشري وفقَا للتقرير إلى أي مدى تعمل المجتمعات على الاستثمار في وعي المواطنين وثقافتهم، ومن ثم تحسين الإنتاجية الاقتصادية، ورفع مستويات المعيشة، وتلك المعايير غائبة وغير متوافرة في منطقة الساحل، فالسلام الإيجابي يعبر عن وجود عدد من العوامل التي تعزز التنمية الاجتماعية والاقتصادية والمجتمعية.
وقد طور معهد السلام الدولي إطارًا مفاهيميًا وإحصائيًا لقياس معدلات السلام الإيجابي في البلدان والمجتمعات، وذلك على أساس ثماني ركائز وهي: قبول حقوق الآخرين، التدفق الحر للمعلومات، والتوزيع العادل للموارد، علاقات جيدة مع الجيران، حكومات تعمل بشكل جيد، مستويات منخفضة من الفساد، ارتفاع مستويات الاستثمار في رأس المال البشري، وتوفير بيئة عمل سوية.
ووفقًا للتقرير فقد سجلت دول الساحل درجة منخفضة في قبول حقوق الآخرين، والتوزيع العادل للموارد، وتوفير بيئة عمل سوية، فالدول الآمنة تسعى إلى تحقيق المساواة بين المواطنين في توزيع الموارد، وتكافؤ الفرص والحصول على التعليم، في المقابل لم تحرز دول الساحل أي تقدم فيما يتعلق بتلك الأمور، كما أنها لا تمتلك خططاً بديلة تؤهلها لتجاوز تأثير التغيرات البيئية والمناخية، حتى على الصعيد الاقتصادي تعتمد دول الساحل على النشاطات غير الربحية كرعي الماشية وزراعة المحاصيل البسيطة، وهو ما نلاحظه في دول كتشاد ومالي وبوركينا فاسو، وبرغم تحقيق النيجر تقدمًا بسيطًا فيما يتعلق باستخراج المعادن، فإنها لم تتمكن من منافسة الأسواق العالمية.
أما على صعيد قبول حقوق الآخرين، فغالبًا ما يكون لدى الدول الآمنة قوانين تضمن الحفاظ على حقوق الإنسان والحريات، والحفاظ على الأعراف الثقافية التي تنظم سلوكيات المواطنين، إلا أن التقرير أشار إلى انعدام هذا الأمر في دول الساحل، فالاختلاف الثقافي النابع من الاختلاف الإثني، هو السبب الرئيس في معظم الصراعات والتوترات الأمنية داخل دول الإقليم، وخلال الفترة من 2018 إلى 2019 ارتفع إجمالي عدد القتلى الناتج عن الصراعات الإثنية في بوركينا فاسو بمعدل سبعة أضعاف، الأمر الذي يعزز من تمركز الجماعات الإرهابية.
ثامنًا: دراسة حالة إقليمية: الحدود التي تجمع بوركينا فاسو ومالي والنيجر
شهدت السنوات الخمس الماضية تصاعدًا للهجمات الإرهابية بدول وسط الساحل عند تقاطع الحدود مع بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ووفقًا للتقرير وصل إجمالي الوفيات الناتجة عن الهجمات إلى (1600) حالة وفاة عام 2021 مقابل (1300) عام 2020.
وأرجع التقرير أسباب تصاعد العمليات الإرهابية خلال الآونة الأخيرة إلى عدة أسباب منها:
- التنافس الشديد بين الجماعات الجهادية خاصة القاعدة وداعش، وقد بلغ التنافس ذروته بعد مبايعة أبي مصعب البرناوي زعيمًا لداعش غرب أفريقيا، وقد كان البرناوي مقاتلًا في صفوف بوكو حرام، وانشق عنهم حيث سعى قبل مقتله وأثناء زعامته لتنظيم الدولة غرب أفريقيا لإثبات قوة جذور التنظيم واستمرار تمدده، ناهيك عن أن الانشقاقات التي دبت في صفوف بوكو حرام عززت من تصاعد التنافس بين التنظيمين، وهو ما انعكس على معدل العمليات الإرهابية التي تم ارتكابها.
- استغلال التوترات الطائفية بين المزارعين والرعاة بعد ظهور جماعات محلية ادعت حمايتها لإثنيات معينة، فعلى سبيل المثال سعت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين إلى تنصيب نفسها باعتبارها المناصر للجماعات العرقية كالفولاني في مالي، سعيًا منها للاستفادة من الصراعات القبلية القائمة بين الفولاني والطوارق في المنطقة الحدودية بين مالي والنيجر، واستقطاب المزيد إلى صفوفها، وذلك عبر تدريبهم ودعمهم لتنفيذ عمليات في بعض المناطق الساحلية.
- توظيف الجماعات الإرهابية لأزمات دول الساحل: بدأ النشاط الإرهابي في بوركينا فاسو ومالي والنيجر عام 2007 لكنه شهد زيادة كبيرة بعد عام 2016، حيث تواجه بوركينا فاسو ومالي والنيجر العديد من التحديات، بما في ذلك ضعف المؤسسات، والفساد، وانهيار البنية التحتية، إلى جانب صعوبة السيطرة الأمنية على حدودهم الشاسعة، كما واجهت المنطقة أيضا فترات طويلة من الجفاف والفيضانات التي كان لها تأثير سلبي على تحقيق الأمن المائي والغذائي، بالتزامن مع ارتفاع معدلات النمو السكاني، ليصبح الوضع في غاية الخطورة.
ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 أفاد برنامج الغذاء العالمي عن وجود أزمة أمن غذائي في بوركينا فاسو ومالي والنيجر، أدت إلى نزوح مليون شخص، بينما ما زال (2.4) مليون شخص بحاجة إلى مساعدات غذائية، وفي بوركينا فاسو نزح ما يقرب من (900000) نازح داخليًا من وسط وشمال البلاد إلى الجنوب، وهو ما أدى لصراعات داخلية بين سكان الجنوب والنازحين، وفي النيجر هناك العديد من التحديات الأمنية، فأقاليم تيلابيري وديفا وتاهوا لديهم أكبر معدلات للنمو السكاني، وفي مالي تضم أقاليم موبتي وغاو غالبية النشاط الإرهابي في البلاد، إلى جانب مخاطر أخرى كنقص المياه والغذاء.
- التهديدات البيئية بمنطقة بحيرة تشاد: تضم منطقة بحيرة تشاد أجزاء من الكاميرون وتشاد والنيجر ونيجيريا، وهناك أيضا العديد من التهديدات التي تواجه تلك المنطقة منها التهديدات البيئية، بما في ذلك ندرة المياه وارتفاع عدد السكان والجفاف والتصحر وتدهور الأراضي ونقص الغذاء، ناهيك عن أن حوالي (90%) من نمط المعيشة بتلك المنطقة يعتمد على مياه البحيرة وهطول الأمطار، من ثم فإن مواسم الجفاف أدت إلى القضاء على كافة أنماط المعيشة القائمة على الماء، لذا فإن عجز السلطات عن الإيفاء بمتطلبات المواطن، أدى لحالة من الرفض الشعبي أسفرت عن صراعات وصدامات داخلية، مما أدى لانتشار التنظيمات الإرهابية، وشن مزيد من الهجمات.
وسعت بوكو حرام وداعش غرب أفريقيا إلى استغلال نقاط الضعف الموجودة عبر السيطرة على مناطق واسعة من الأراضي حول بحيرة تشاد، وانضمت إليهم مجموعات أخرى محلية كالفولاني في نيجيريا، وعزز من العنف داخل تلك المنطقة الصدام المستمر منذ فترة طويلة بين المزارعين والرعاة على المياه ومناطق الرعي.
ووفقًا للتقرير فقد بلغ عدد الوفيات بسبب الإرهاب في منطقة بحيرة تشاد ذروته عام 2015 ليصل إلى أكثر من (2200) حالة وفاة، في حين شهدت الأعداد تأرجحًا خلال الأعوام التالية حتى وصلت الوفيات في 2020 إلى (1300) حالة وفاة.
تاسعًا : فشل الإجراءات الإقليمية
أورد التقرير أن قوات الأمن الإقليمية كافحت لاحتواء المليشيات واستعادة الأراضي التي احتلتها بوكو حرام وداعش، ففي 2014 أذن الاتحاد الأفريقي بمهمة مشتركة متعددة الجنسيات تتألف من جنود من بنين، والكاميرون، وتشاد والنيجر لمساعدة الحكومة النيجيرية في استعادة الأراضي التي تحتلها بوكو حرام، كما ساهمت الولايات المتحدة والمجتمع الدولي في تقديم الدعم العسكري واللوجيستي للدول المشاركة، إلا أن تلك القوات فشلت في احتواء المشهد؛ نظرًا لوجود مشكلات هيكلية وبنيوية معرقلة لمسيرة الدول في مواجهة التنظيمات الإرهابية.
وشهدت تلك الدول انتشارًا واسعًا للجماعات الإرهابية كما حدث في مالي ونيجيريا، مما تسبب في خسائر فادحة في صفوف المدنيين، ومن ثم نزوح واسع النطاق وتعطيل الإنتاج الزراعي وسبل العيش، وعجز السكان المتضررين عن الوصول إلى الخدمات الأساسية.
فمنذ عام 2020 كان هناك ما يقدر بنحو (2.7) مليون نازح في بحيرة حوض تشاد، منهم (1.9) مليون نازح في ولاية أداماوا، وبورنو، ويوبي، مما يعني أن نسبة (73%) من النازحين ذوو جنسية نيجيرية، كما سجلت بورنو في نيجيريا أكبر نشاط إرهابي على الإطلاق في منطقة الساحل بإجمالي (867) هجومًا و(6581) حالة وفاة خلال 2020.
واختتم التقرير الجزء المتعلق بوضع الإرهاب بمنطقة الساحل والصحراء، بأنه لا يمكن الفصل بين تدهور الموارد البيئية وتصاعد التنظيمات الإرهابية، فالبلدان التي تعاني من تدهور بيئي هي أيضًا من بين الأكثر عنفًا، لأن المواطنين يفتقرون الأمان سواء الشخصي أو المائي أو الغذائي، وهو ما يزيد الوضع تأزم لا سيما وأن التنظيمات الإرهابية تعمل باستمرار على تطوير تكتيكاتها بما يتناسب مع التطورات البيئية، وهو ما يجعلها ما زالت متفوقة عبر استغلال الفراغ السياسي، فالمشكلات الحالية تتطلب معالجة منهجية من شأنها تشجيع تنمية السلام الإيجابي بمرتكزاته في المقام الأول.