تقديم
يأتي كتاب مركز المسبار للدراسات والبحوث: «صناعة القادة الدينيين في أوروبا: تدريب الأئمة والمرشدات» (الكتاب الخامس والثمانون بعد المئة، مايو (أيار) 2022)، استكمالاً لجهد تراكم منذ أربعة عشر عاماً، ومواصلةً لإسهامات الكتاب الشهري للمركز في دراسة الإسلام الأوروبي، وتأهيل الفواعل والقيادات الدينية، وتأثير محاولة اختطاف تمثيل المجتمعات المسلمة الأوروبية.
يطرح هذا الكتاب قضايا الرعاية الروحية، والإسلام الفردي، والتطرف المؤسسي، والتدخل الأجنبي، لينتهي بدراسةِ مقترحات تطوير مناهج تدريب تعتمد على الخطاب المحلي، ضمن سياقٍ احترافي يقوم على الموازنة بين الأصول والفروع، دون تسييسٍ للقيم الروحية واحتياجاتها.
حاول الكتاب تجذير فهم دور «القيادات الدينية» المسلمة في المجتمعات الأوروبيّة من أئمة ومرشدات روحيات، وتتبع آليات تدريبها، مع استصحاب التجارب السابقة في الدول الأوروبية، سواء المجتمعية أو الرسمية أو المختلطة، مناقشًا عوامل ضعفها؛ والنظريات التي يبني عليها الباحثون رؤىً لتدريب الأئمة في فضاء علماني، ويقدمون مقترحات تقنية؛ ودليلاً فلسفيًا لتطوير لغة الخطاب وتحديث سياقه، بغرض تحقيق الكفاية الروحية، والتخلص من إكراهات التطرّف والانعزال والإقصاء، ويطرح فكرة «تمدين» الإصلاح الديني للنقاش. فيوفر بذلك مادةً أوليّة؛ يمكن البناء عليها، في معالجة ملف «تدريب، وتأهيل، وتكوين، القادة الدينيين المسلمين، في سياقٍ أوروبي».
بدأت الدراسات بتأكيد أهمية دور «الإسلام المؤسساتي» في مشاريع التدريب المقترحة، وفي ثنايا لمحةٍ تاريخية؛ فصّلت دراسةٌ: دور الدين في الدولة الحديثة. ورصدت انعكاسات المفاهيم الجدلية على المسلمين الوافدين على أوروبا ثقافةً وسياقاً وقيماً؛ وحذّر الباحث فيها من سيطرة الإسلام السياسي على إدارة الشأن الديني، ناصحاً بتوطين الإمامة في أوروبا ومأسستها.
انتهت الدراسة الثانية؛ لعالم الأنثروبولوجيا، مارتيان دي كونينغ (Martijn de Koning)، إلى رؤية مختلفة، تدعو إلى تدريب مستقل، فقدّمت مراجعة ناقدة للبرامج الهولنديّة لتدريب الأئمة؛ باحثةً عن سبب فشلها، ومبينةً خلل المعالجات الأوليّة الذي اضُطرَّت إليه البرامج والمبادرات السابقة وما ترتب على ذلك من عرقنةٍ للإسلام وأثننة لقضاياه، ودخولٍ في مقايضة دينية، كان مدخلها؛ النقاش حول التوافق بين الإسلام والديمقراطية؛ ومسألة الهجرة والاندماج، فبدت كأنها استجواب، يضع المسلمين طرفاً أضعف وفي مقارنة مع الدولة!
ذكرت الدراسة مساهمة المفكر الفرنسي الجزائري الأصل محمد أركون، في هولندا إذ قال عام 1994 في برلمانها: «إذا واصلتم في النظر إلى تدريب الأئمة بوصفه مسألةً تخص المسلمين حصراً، فإنكم تبطئون مسار الحداثة والتحديث، وإذا أُبقي الإسلام في الهوامش عبر الطرق المعلومة، فعليكم أن لا تشتكوا حين يفشل الاندماج»! تستحضر الدراسة من ذلك ضغطًا من خارج المجتمعات المسلمة ومن دواخلها، ولكنّها تشير إلى أن النقاش تؤثر فيه «المنظمات الإسلاموية التي ترغب في السيطرة على التعليم الإسلامي». وعلى الرغم من إسهاب المادة في ضرورة تبيئة البرامج وتوطينها؛ إلا أنها قدّمت ملاحظةً مهمة: «أن مجرد فرض التحدث بالهولندية؛ ليس حلاً، فقد كان من أسباب التطرّف في هولندا، أن النصوص الأولية التي تمت ترجمتها، في الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم، وتمّ توزيعها على مناهج متعددة، أخذت من مراجع راديكالية، فتسببت في موجة التطرف في الألفية الراهنة».
كتبت الباحثة جوليان دي ويت (JulienDeWit)؛ دراسة ميدانية، عن دور الأئمة في إعادة تأهيل المتطرفين من الشبان. عرّفتهم في البداية بأن مهمتهم لا تختلف كثيرًا عن مهمة القس في المسيحية والحاخام في اليهودية، وأنهم «الوصلة بين المسلم ودينه»، وأنّ بيدهم: إنجاح الإدماج أو إفشاله، ومكافحة التطرف أو تعزيزه. رصدت الباحثة الفاعلين في برامج التدريب في هولندا وبلجيكا، وفصلت المخاطر؛ فلاحظت أن بعض الأئمة يدعون إلى الكراهية، ويقولون أشياء يصعب وصفها بأنها متوافقة مع المجتمع الغربي. وأن صلتهم مقطوعة بالمجتمع؛ مما يلجئ صغار السن، إلى البحث عن مصادر أخرى، تعزز انعزالهم عن الأسرة والمجتمع، وتربطهم بهوية أيديولوجية جديدة، وتعزز نظرتهم الانقسامية. وانتهت الدراسة إلى أن مشكلة معاصرة؛ مثل التطرّف في حاجة إلى نهج معاصر، وأئمة معاصرين.
جمعت الدراسة الثالثة، مناقشةً لواحدٍ وعشرين بحثاً، تخصصت في مسارات ونظريات تكوين الأئمة في أوروبا الغربية؛ ضمها كتاب حرره ثلاثة من المختصين في الإسلام الأوروبي، راجعت مواطن الخلل الرئيسة؛ وناقشت صناعة المرجعية الإسلامية في أوروبا، والمستفيد منها، وراهنت على قدرة الروح الأوروبية على بناء إسلامها المستقل.
كانت الإمامة في أوروبا، ضربًا من التطوّع، ولم يكن وضع يد الدولة على أمرٍ ديني سهلاً، خصوصاً في السياق العلماني، الذي يحتاج أن يعترف بالدين الوافد؛ ثم يخصص له منصرفاته ونطاقه، لذا استفادت الجماعات التفاوضية، فنشأت أزمات عرضتها دراسة لاحقة أشارت فيها إلى: مخاطر الإرهاب والتكفير والغلو، وفوضى الفتاوى، وخلل الهوية، فتطرقت إلى أجيال الأئمة الوافدين واختلافها، وإشكاليّة الأئمة المتطوعين والوافدين، وارتباطها ببروز سمات الفكر الصدامي، والمؤامراتي. واستعراضاً لتجربة النمسا؛ التي أصدرت قانون الإسلام سنة 1912، وتأسست الجمعية الدينية الإسلامية فيها عام 1979، فإنها أتاحت تعليماً دينياً في جامعة فيينا، إلا أنه لم يصل إلى برامج تدريب الأئمة. أما الأنموذج الألماني فظهرت فيه كلية الإسلام، التي بدأت بالتدريس في العام 2021، بغرض تنشئة الدولة للأئمة الألمان، وانطلق الباحث من ذلك إلى مقترح لتكوين أئمة وصفتهم الدراسة بالمتخصصين!
ناقشت دراسة تالية افتراضات تقديم الأئمة، لمكافئ موضوعي لدعاة الإرهاب والتأثير الراديكالي، ولاحظت أنّ الإمام لا يكتسب نفوذه في أوروبا من منصبه، ولكن من تفاعله الرقمي، وألمحت إلى أنّه «لم يعد بمقدور القادة الدينيين الزعم بأن أتباعهم ومريديهم لا يزالون يدينون لهم بالولاء والطاعة ما داموا على قيد الحياة».فوظفت التوجهات الرقمية لتطوير برنامج تدريب الأئمة، باستخدام البيانات والتحليلات الرقمية، في ظل العولمة الاجتماعية؛ والهجرة العالمية؛ وتشققات مفهوم العلمانية، مستعرضةً فرص التعليم الرقمي، وتحدياته.
وفي سياق الاقتراحات، قدم الباحث وِم فان آل (Wim Van Ael)، مبادرة لتطوير التقنيات التواصلية، بدأها بتفعيل خطاب الشك، وتطوير الأساليب الفنية المستقاة من السيرة النبوية؛ وصمم أنموذجاً لخطبة الجمعة، مقترحاً لمجلسٍ مركزي يتحكم فيها، ولكنه ترك رعايته مفتوحة.
يحتاج تطوير الخطاب، إلى عدة فلسفية، طرحها الفيلسوف خيرت كورنيليس (Geert Cornelis) بسردٍ فلسفي؛ لجذور تعليمٍ تعددي، يفتت يقينية الإدراك الحسي، ويصنع هياكل سردية متماسكة وأفكاراً ثنائية بظاهرٍ وباطن، وتستند على البحث التجريبي والشك المنهجي، وتطوير مفاهيم تؤدي إلى احتمالية «أن الأشياء ليست دائماً كما تدرك، وأن العالم ليس دائماً كما تعتقد»، وترتكز على مبدأ المعاملة بالمثل، واحترام الآخر.
طرح سيرجيو سليم سكاتوليني (Sergio Saleem Scatolini)، مقترحات لتحديث الفكر والخطاب الديني في أوروبا، مشددًا على ضرورات إجرائية متباينة، فمن ناحية الأئمة المسلمين فيجب عليهم قبول التنوّع على إطلاقه، والاعتراف بالخصائص الجوهرية الدينية المميزة لأوروبا، ومن ناحية الحكومات الأوروبية فيجب عليها الاعتراف بالدين كما هو؛ وتفهّم الرتب الدينية والعلمانية، وتفهّم منابع المصداقية الاجتماعية، وتطويرها لتكون مقرونةً بالعدالة. وعلى المجموع الديني توسيع مفهوم الهداية. ونظّم المقال القيم الدالة على تعزيز النظم المحيطة، مثل الإنصاف، والتضامن، والاعتدال، وكاد أن يصل لفهمٍ موسّع لمبدأ المعروف في الإسلام؛ الذي يتسع بالعرف الحسن والمنافسة في الطيبات الخيرية.
قدّمت دراسة يونس الأحمدي؛ جدلية «علمنة» الإصلاح الديني، التي يتبناها المفكر التونسي محمد الحدّاد، وعلى الرغم من أنّ النظرية تطورت كثيرًا عن بداياتها، فإن الباحث اقتصر على الكتب الأوليّة للحداد، وتطبيقه المنهج النقدي في فهم الإصلاح الديني، وتمييزه عن التجديد.
تعيد الدراسة الأخيرة عن التطور الاجتماعي والسياسي لمملكتي السويد والنرويج، التذكير بإنسانية تجربة الدولة؛ والتفاوضية بين المؤسسة الدينية والفاعلين السياسيين، مؤشرةً إلى أنّ التجارب يمكن أن تستلهم بذكاء، ولكنّ استيعاب مقتضياتها يحتاج إلى بعد نظرٍ وحنكة كبيرين.
ما تزال الأسئلة التي فتحها المشروع تتسع، ولكنّها تؤشّر إلى إمكانية بناء هويّات متسقة مع سياقها، وقد تشير إلى أنّ الأسئلة الحيّة في السياق الأوروبي تختمر أجوبتها ببطء في الدوائر الرسمية.
في الختام، يشكر مركز المسبار للدراسات والبحوث، الزميلات والزملاء من الباحثين الذين شاركوا في هذا الكتاب؛ ويخص بالذكر الزميل إبراهيم ليتوس الذي نسَّق العدد، والزميل فهد الشقيران، ويتمنى أن تجدوا في سطوره شيئاً من بغيتكم.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
مايو (أيار) 2022