لطالما تحدث جورج دبليو بوش في أثناء فترة توليه مقاليد الحكم رئيساً للولايات المتحدة وأوضح مراراً وتكراراً أن الولايات المتحدة، ومن خلال الحرب العالمية ضد الإرهاب، لا تحمي قيمها الخاصة بها فحسب، وإنما أيضاً قيم العالم “المتحضر”[2]. وقد ظلت الولايات المتحدة طوال الفترة بين عامي 2001–2011 تردد بصفة مستمرة كيف أنها تنهض مع حلفائها بأعباء الدفاع عن حقوق الإنسان الأساسية؛ وكيف أنهم يحاربون لأجل حرية التعبير والحق في الحصول على فرص التعليم المتكافئة، وحرية العيش دونما خوف أو وجل من بطش الأنظمة الغاشمة التي درجت على ممارسة التعذيب.
لقد تحدث جورج بوش وخلفه باراك أوباما، على حد سواء، عن أشياء من قبيل الاستقامة والنزاهة والأمانة والشرف والديمقراطية. بَيد أن العالم أجمع شاهد كيف أن القتال الذي تقوده الولايات المتحدة للدفاع عن تلك القيم ضد الإرهاب العالمي كان في بادئ الأمر حرباً، ثم ما لبث أن تحول إلى حرب غشوم ضروس موصومة على نطاق واسع بتعذيب الأسرى وإساءة معاملتهم وقتل المدنيين فضلا عن عدم الاكتراث بل والازدراء التام للقيم والثقافات الخاصة بالشعوب في كل من أفغانستان والعراق.
لا غرابة إذن أن تنظيم القاعدة لم يستمر ويـظل على قيد البقاء فحسب وإنما أيضاً ظلت معه الحرب العالمية ضد الإرهاب (Global War on Terrorism/GWoT) (أو عمليات الطوارئ لما وراء البحار (Overseas Contingency Operations) تدور رحاها فلا تبقي ولا تذر بعد مضي عشر سنوات من نازلة الحادي عشر من سبتمبر على الرغم من موت بن لادن. لأجل هذا كان لابد من التوقف هنيهةً للتدبر والتفكير ملياً كأمر لازم وضروري في آنٍ معاً؛إذ أن ثمة أسئلة لا مندوحة عن طرحها والإجابة عليها: هل حقاً أفضت الحرب العالمية على الإرهاب إلى الدفاع عن القيم التي تزعم أنها تنافح عنها؟ وما مدى النجاح الذي تحقق بالفعل في دحر القاعدة؟
من الواضح أن هذه أسئلة صعبة، ولا توجد لها إجابات مباشرة، ذلك أنه يكاد يكون ضرباً من المحال أن يقاس النجاح والفشل في الحرب العالمية على الإرهاب بصورة محددة ودقيقة[3]. ومن ناحية أخرى، فإن مما لا مراء فيه البتة أن الإرهاب، سواء كان إرهاب دولة أم غيره، لا يمكن تبريره بأي حال، وأياً كانت الظروف، وإنما يتعين محاربته بلا هوادة. بيد أن الحرب العالمية على الإرهاب وبوجهها الذي أسفرت عنه قد كشفت النقاب عن حقائق مريرة عن الممارسات المشينة في الحرب التي خاضت غمارها الولايات المتحدة جنباً إلى جنب مع حلفائها.
الحرب العالمية على الإرهاب وحقوق الإنسان
لعلَّ العلاقة بين الحاجة لمحاربة الإرهاب من جهة، وضرورة الحفاظ على حقوق الإنسان الفردية من جهة أخرى، هي أحد الجوانب المثيرة للجدل بصفة خاصة في الحرب العالمية على الإرهاب. فمن كل حدب وصوب، انطلقت سهام النقد اللاذع وصُوِّبَتْ على نطاق واسع ضد الأنظمة والقوانين المحلية الجديدة التي صدرت عقب الحادي عشر من سبتمبر لجهة أنها مبهمة وغامضة وفضفاضة وتتصادم بشكل مباشر مع قيم حقوق الإنسان التي يفترض أن تحرسها وتحميها. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة دأبت منذ أمد بعيد على انتهاك حقوق الإنسان تحت ذريعة محاربة الإرهاب، ومواجهة الأخطار الأخرى التي تهدد الأمن الوطني، فإن الجديد في الحادي عشر من سبتمبر هو أنها ألبست الممارسات القديمة ثوب ما أسمته الشرعية الجديدة المتمثلة في ما أسمته مشروعية «الحرب ضد الإرهاب»[4].
لقد سعت القوى الغربية عن قصد وسابق إصرار وإدراك إلى سن قوانين جديدة، تعمد قصداً إلى استبعاد أفراد معينين، وتقصد عمداً إبعادهم عن الوقوع تحت طائلة القوانين الحالية لحقوق الإنسان؛ وبذا فإن تلك القوى إنما تسعى إلى نسف وتقويض أركان ذات القيم التي تقوم، وتقعد مدَّعيةً أنها تحميها وتحرسها من غوائل الانتهاك.
تعد المذكرة السرية التي أصدرها المستشار العام لوزارة الدفاع الأمريكية مثالاً جيداً يمكن الاستشهاد به في هذا الخصوص؛إذ يمثل هذا المستند دراسة أجرتها الحكومة الأمريكية لإلقاء الضوء على إمكانية استخدام ما أسمته تقنيات الاستجواب المُحسّنة (أساليب الاستجواب القاسية) للمشتبه بضلوعهم في أعمال إرهابية[5]. يشتمل المستند على تحليل ضافٍ للمبررات السياسية لاشتراع قوانين خاصة بالإضافة إلى آليات تفصيلية؛ تحسباً للمعارضة المحتملة لتلك القوانين من قبل الأطراف السياسية، ومن قبل عموم الأفراد على حد سواء؛ وهو كذلك يحوي القوانين التي تحول دون إحقاق حقوق إنسانية معينة لمن أسموهم بالمشتبه بضلوعهم في أعمال إرهابية[6] فتنكر عليهم تلك الحقوق وتتنكر لهم إزاءها؛ مما يثبت بما لا يدع أدنى مجال للشك أن تلك القوانين قد جرى اشتراعها عن وعي وقصد وبطريقة منهجية.
علاوةً على ما تقدم، يلقي المستند أضواء كاشفة على مفارقة مثيرة للاهتمام: لئن كانت القوانين الجديدة قد صدرت تحت مزاعم حماية المجتمع الدولي من التهديد الجديد المتمثل في الإرهاب العالمي، فإن القيم التي تنطوي عليها تلك القوانين تتصادم بشكل مباشر مع القيم التي تتجسد فيها حقوق الإنسان. وقصارى القول إن تلك القوانين الجديدة تضع من الضغوط على حقوق الإنسان ما يؤدي ليس إلى الإضرار بالسلطة فحسب وإنما أيضاً يضع مصداقيتها على المحك عطفاً على أنه لم يعد كبار المتنفذين يحترمون حقوق الإنسان. إن هذا الإزدراء المباشر لحقوق الإنسان والاستخفاف بها من قبل من يدعون أنهم دعاة إليها ورعاة لها ويزعمون أنهم من المنافحين عنها والقائمين على أمرها ممن يمثلون المجتمعات التي من المفترض أن تحظى فيها تلك العمليات بقبول واسع النطاق لهو أمر من شأنه الطعن في مصداقيتها وإضعافها بشكل ملحوظ في الدول غير الغربية.
ولأجل هذا، وبما أن المفهوم الذي تستبطنه الحرب العالمية على الإرهاب بما مفاده أن حقوق الإنسان لا يمكن أن تتطابق مع أهدافهم/أغراضهم أصبح يوماً بعد يوم يزداد انتشاراً داخل الدول والمجتمعات الغربية وخارجها على حد سواء، فإن صلاحيته أصبحت آخذة في التآكل والتضاؤل بصفة مستمرة. تبين الأمثلة التالية بوضوح وجلاء كيف أن الغرب – وبصفة خاصة الولايات المتحدة- حطم بل قوّض أركان ذات القيم التي يدعي حمايتها، مفضياً بذلك إلى فقدان المصداقية العامة لحقوق الإنسان وتآكل صلاحيتها وضمور ما يبعث على احترامها والثقة بها في المحافل الدولية.
الحجز التنفيذي لتسليم المتهمين التعذيب بالوكالة
درجت الولايات المتحدة منذ أمد بعيد على استغلال الحجز التنفيذي (الحجز على الممتلكات بدون أمر قضائي)، والبرنامج غير العادي لتسليم المتهمين إلى دول أخرى لاستجوابهم وانتزاع الاعترافات منهم (التعذيب بالوكالة) على الرغم من الجهود الرامية إلى الحد من تلك الممارسات وأمثالها. وقد كانت حالات الحجز التنفيذي تتم بصفة رئيسية في حقبة ما قبل الحادي عشر من سبتمبر في سياق قضايا الهجرة وقلما تم استغلالها كإجراء أو تدبير لمكافحة الإرهاب. أما حالات التسليم الاستثنائي للمتهمين، فهي أيضاً ذات سجل قديم في الولايات المتحدة شأنها في ذلك كشأن الحجز التنفيذي سواء بسواء؛ وقلّما استخدمتها الولايات المتحدة قبل الحادي عشر من سبتمبر؛ إلا أن مختلف الولايات تبنت قوانين تؤسس للحجز التنفيذي ضد المتهمين المشتبه في ضلوعهم في أعمال إرهابية.
يجب التأكيد على أن هنالك عدة دول استهجنت تلك الممارسات، ونددت بها وأوسعتها إدانةً في خطابها الرسمي، ومع هذا فقد قدم العديد من تلك الدول قدرا من المساندة الإجرائية لحالات الحجز التنفيذي والتسليم غير العادي للمتهمين؛ وتعد كل من أفغانستان وباكستان ومصر والأردن وموريتانيا والبوسنة وإيران وزامبيا والمغرب وتايلاند وجامبيا والعراق[7] فضلاً عن مختلف دول أوروبا الشرقية[8] أمثلةً لما تقدم. وفوق ذاك، فإن التقرير الصادر عن لجنة حقوق الإنسان التابعة لمنظمة الأمم المتحدة احتوى أيضاً على أسماء دول أقدمت مراراً وتكراراً، إما على انتهاك القواعد والقوانين الخاصة بحقوق الإنسان أو تطبيقها بصورة انتقائية في أثناء تسليم المتهمين المشتبه في ضلوعهم في أعمال إرهابية[9].
تعكس هذه الأمثلة بوضوح وجلاء أن حقبة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر شهدت ازدياداً في حالات الحجز التنفيذي والتسليم الاستثنائي للمشتبه فيهم والمتهمين، فقد أتى ذلك مصاحباً لانعطاف وتحول ملحوظ في ممارسات الدول. ففي غمرة مجريات الحرب العالمية على الإرهاب، جاءت الزيادة في القواعد والقوانين التي تؤسس لحالات الحجز وتشرعنها مقترنةً بثلاث تغيرات في غاية الوضوح وهي:
(أ) زيادة هائلة في العدد الفعلي لحالات الحجز التنفيذي للممتلكات والتسليم غير العادي للمتهمين.
(ب) نقص حاد ومريع في المحاكمات القائمة على أساس إجراءات القانون الجنائي العادي فيما يتعلق بالقضايا المنظورة المرتبطة بالإرهاب.
(ج) تمييز واضح في تطبيق قوانين محاربة الإرهاب وحقوق الإنسان. تمثل التغيرات الثلاث آنفة الذكر تطورات مزعجة مناهضة للتحرر ومناقضة لحماية الحريات السياسية والمدنية في السياسة الدولية.
يندرج العدد الحقيقي لحالات الحجز التنفيذي، في حقبة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، في معظم الدول تحت بند المعلومات المصنّفة (غير القابلة للنشر). لذا يصعب حصر تلك الحالات على وجه الدقة، والتحديد ليس للعدد الإجمالي فحسب، وإنما أيضاً للتمييز بين الحالات التي يتم تنفيذها في إطار قضايا الهجرة وتلك التي ترتبط بالإرهاب. بيد أنه على الرغم من عدم التمكن من تحديد عدد حالات الحجز بصورة دقيقة، فإن الزيادة الكمية في عدد الحالات غير العادية لتسليم المتهمين يمكن التحقق منها بمزيد من السهولة[10] ذلك أن من المعلوم على سبيل المثال أن هنالك (774) من الموقوفين المحتجزين في سجن غوانتامو وحده.
كما أن هنالك سمة صارخة أخرى تتمثل في أنه على الرغم من العدد الهائل من الاعتقالات، وحالات الحجز وتسليم المتهمين بنقلهم لتعذيبهم في دول أخرى منذ الحادي عشر من سبتمبر، فإن عدد المحاكمات في القضايا المرتبطة بالإرهاب يظل طفيفاً لا يكاد يذكر. فعلى سبيل المثال، من بين أكثر من ألف أجنبي جرى اعتقالهم عقب وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر مباشرة، تم توجيه تهمة أنشطة تتعلق بالإرهاب إلى ثلاثة منهم فقط [11]. ومن بين (744) أسيراً في سجن غوانتنامو سيئ السمعة، مثُل اثنان فقط أمام المحكمة حتى فبراير 2004 ، فيما تم توجيه التهمة إلى ستة آخرين خلال الفترة من 2004 حتى 2006، بالإضافة ثلاثة فقط ووجهوا باتهامات في يونيو 2007 بموجب النظام الجديد لمحاكمة الإرهابيين المشتبه بهم أمام لجان عسكرية وفقاً للقانون الصادر بهذا الشأن في عام 2006 . وإجمالاً يمكن القول إن من حوكموا في ست سنوات بلغ عددهم (13) أسيراً من (774) أسيراً. فضلاً عمَّا تقدم، شهدت الولايات المتحدة إدانةً واحدة فقط ذات ارتباط مباشر بهجمات الحادي عشر من سبتمبر بالإضافة إلى محاكمتين جنائيتين فقط في ألمانيا لهما ارتباط بخلية هامبورغ[12].
علاوة على ما تقدم، كان الهدف الرئيسي لحالات الحجز والاعتقالات، قبل الحادي عشر من سبتمبر، يتمثل في تقديم المتهمين والمشتبه فيهم للمحاكمة. أما بعد الحادي عشر من سبتمبر، فيبدو أن المقصد السياسي الأساسي من استخدام هذه الآليات هو استباق الهجمات المستقبلية بغرض إجهاضها. وأما أكثر ما يثير الاهتمام في هذا الصدد، فهو أن الدولة ليست ملزمة بمقتضيات قوانين الإجراءات الجنائية العامة تجاه هؤلاء الأفراد طالما أنهم لم يرتكبوا جرماً بعد؛ كما أن الجهاز التنفيذي بالدولة يمارس صلاحياته التقديرية لتحديد من يعد عدواً من غيره استناداً على اختلافات الخلفيات والفوارق الثقافية لا على ما اقترفه الفرد بالفعل. ففي بعض الدول مثل الولايات المتحدة، ومبدئياً على أقل تقدير في المملكة المتحدة، تنطبق مواصفات «العدو» بصفة رئيسية على الأفراد الأجانب – الأمر الذي يعد تجسيداً صارخاً لعدم مراعاة الإنصاف والمساواة في إنفاذ الأنظمة والقوانين المحلية لمحاربة الإرهاب[13].
هكذا يتضح أن الدولة تفادت تطبيق الضوابط والتدابير الإجرائية الممنوحة بموجب حقوق الإنسان تحت ذريعة خوض غمار الحرب العالمية على الإرهاب؛ والأهم من هذا كله أنها أسست ورسخت للتغيير في منظومة القيم من خلال التمكين للسلطات التنفيذية بحيث أصبحت أعلى شأناً من السلطات القضائية بالتركيز لا على التحقيق في الجرائم وإنزال العقوبة بحق مرتكبيها وإنما على استباق الأخطار والمهددات المستقبلية المحتملة بغية إجهاضها ووأدها في مهدها.
لقد أفضى هذا الخلط إلى إضفاء درجة عالية من قابلية المط على تلك الأنظمة والقوانين الجديدة حيث أصبحت فضفاضة وحمالة أوجه كما أصبح استخدامها ذرائعياً إلى أبعد الحدود «كوسيلة مفضية إلى غاية»؛ إذ أصبحت حالات الحجز التنفيذي تستخدم في حقبة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر لتعزيز مقومات الأمن الوطني والترويج للسياسة الخارجية على حد سواء. وقد أوضح النائب العام بالولايات المتحدة جون اشكروفت معالم «الاستغلال المقصود والمبتكر لقوانين الهجرة الحالية»[14] لأغراض الحفاظ على الأمن الوطني؛ حيث قال في هذا الخصوص: «نسعى إلى اعتقالهم كمتهمين يشتبه في ضلوعهم في أعمال إرهابية في حين أن قضاياهم يتم التصدي إليها بناءً على أسس أخرى»[15] باختصار، يؤدي تطبيق هذه القوانين الخاصة بمكافحة الإرهاب إلى ظهور نزعة تتعارض على نحو عميق مع منظومة القيم الأساسية لحقوق الإنسان.
الأنظمة شبه القضائية لمكافحة الإرهاب
إن ممارسة مقتضيات القانون الجنائي فيما يتعلق بالإرهاب في إطار خوض غمار الحرب العالمية على الإرهاب كانت في أغلبها تتم في إطار الاختصاصات الداخلية. ولهذه الغاية أنشأت دول مثل الهند وباكستان والولايات المتحدة نظاماً قضائيا خاصاً في كل منها للتعامل مع المشتبه في ضلوعهم في الإرهاب. إن هذه الممارسة في حد ذاتها ليست جديدة حيث دأبت دول مثل مصر وتركيا فيما مضى على إنشاء محاكم عسكرية للتعامل مع المجموعات الإرهابية داخل أراضيها. وبالمثل أقدمت كل من المملكة المتحدة وأيرلندا على تأسيس محاكم جنائية بدون هيئات محلفين للتعامل مع الجيش الجمهوري الأيرلندي والمنظمات الإرهابية الأخرى بينما تبنت بيرو محاكم غير ظاهرة (faceless courts) للتصدي لمشكلة المسار المشرق / الساطع (The Shining Path)[16]. إلا أن تطبيق نظام المحاكم شبه القضائية (التي يقوم عليها أفراد من خارج السلك القضائي) اكتسب مدلولاً جديداً بعد الحادي عشر من سبتمبر. فقد كان تطبيق أي نظام جديد يقوم على أساس المفهوم الذي مفاده أن تنظيم القاعدة يمثل مع فروعه تهديداً نوعياً جديداً؛ وهو تهديد لا يمكن التصدي له من خلال النظام القانوني الجنائي الحالي وبالتالي يتطلب إجراءات غير عادية من شأنها تهيئة الظروف التي تتيح للدولة وتبيح لها تجاوز التدابير الاحترازية القياسية لمنظومة حقوق الإنسان.
إن نظرة سريعة لنظام اللجان العسكرية في الولايات المتحدة تميط اللثام عن مركزية الاعتبارات السياسية ومحوريتها في تصميم؛ ومن ثم تشغيل المحاكم شبه القضائية التي أدخلت إلى حيز الاستخدام في الآونة الأخيرة. كما أن ممارسات اللجان العسكرية لا تكشف النقاب عن الانتقائية في نطاقات الاختصاص فحسب وإنما أيضاً عن كيف أن الحكومة تعمد كثيراً إلى تعديل إجراءات المحاكمات على أساس كل حالة على حدة وتفصيلها على مقاس المتطلبات المحددة لكل حالة بالاعتماد إلى حد بعيد على العلاقات الدبلوماسية التي تربط الدول التي تمثل الموطن الأم للمدعى عليه مع الولايات المتحدة[17].
إن المحاكمات التي أجرتها اللجان العسكرية بالولايات المتحدة تعكس كيف أن الولايات المتحدة عمدت إلى الانتقائية الفجة في تطبيق الضمانات الرامية إلى حماية حقوق الإنسان على المشتبه بضلوعم في الإرهاب. ذلك أن اللجان العسكرية المذكورة لم تعمد إلى عدم محاكمة المواطنين الأمريكيين الذين توجه إليهم ذات التهم فحسب؛ وإنما أيضاً جرى تطبيق ذلك بصورة تمييزية تقوم على التفرقة حتى بين الأجانب أنفسهم. فقد تم السماح على سبيل المثال للأسير الأسترالي ديفيد هيكس بأن يستعين بمحامين أجانب يمثلونه أمام القضاء كما تم السماح له بحضور جميع جلسات الاستماع بل وإمضاء العقوبة بموجب الحكم النهائي في أستراليا[18] كما تم تقديم ضمانات لأسيرين بريطانيين بأنهما لن يواجها عقوبة الإعدام[19].
أما الشهير جون ووكر ليند وهو مواطن أمريكي ألقي القبض عليه في أفغانستان وحوكم أمام محكمة مدنية، فقد صدر بحقه حكم يقضي بسجنه (20) عاماً بدلاً عن إرساله إلى غوانتنامو والمثول أمام لجنة عسكرية. بيد أن هذه «المزايا الخاصة» لم يتسع نطاقها لتشمل الأسرى المعتقلين الآخرين. فعلى سبيل المثال صدر حكم بحق سالم حمدان (هو يمني الجنسية وكان السائق الخاص لأسامة بن لادن) حيث حوكم بالسجن لمدة 66 شهراً لإقدامه على تقديم الدعم المادي لتنظيم القاعدة. وفي حين أن هيئة المحلفين العسكرية قررت أن المدة التي أمضاها بالفعل في غوانتنامو، وتبلغ 61 شهراً، ينبغي أن تحسب ضمن مدة المحكومية التي تبلغ 66 شهراً، فإن المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية برايان ويتمان أعلن أن حمدان سيكون قيد الحبس لأجل غير مسمى بصفته «عدواً مقاتلاً» إلى أن يصبح في عداد «من تنطبق عليهم شروط إطلاق السراح» حتى بعد أن قضى مدته المتبقية وقدرها خمسة أشهر.
يتضح تأثير الأنظمة شبه القضائية على حقوق الإنسان وآثارها، وتداعياتها السلبية في حقيقة أن المحاكم المدنية الاعتيادية ظلت منذ أمد بعيد تسجل نجاحاً منقطع النظير في النظر في قضايا الإرهاب المعقدة؛ وقد استمرت كذلك حتى بعد الحادي عشر من سبتمبر. ففي ألمانيا على سبيل المثال، نظرت المحاكم المدنية في العديد من القضايا المرتبطة بالإرهاب، وأصدرت بشأنها أحكاماً قضائية. أما منير المتصدق، وهو عضو في خلية هامبورغ ويرتبط ارتباطاً مباشراً بهجمات الحادي عشر من سبتمبر، فقد أصدرت محكمة في هامبورغ بحقه حكماً قضى بسجنه (15) عاماً.
وفي المملكة المتحدة التي شهدت أيضاً تخويل صلاحيات ومنح سلطات بإنشاء محاكم خاصة عملاً بأحكام نظام مكافحة الإرهاب ومحاربة الجريمة وبسط الأمن لعام 2001، فقد نظرت المحاكم المدنية العادية في أكثر من 200 قضية متعلقة بالإرهاب منذ عام 2001م. بل إنه حتى في الولايات المتحدة أصدرت محاكم مدنية جملة من الأحكام التي تقضي بإدانة أكثر من 250 متهماً في جرائم تتعلق بالإرهاب بعد الحادي عشر من سبتمبر؛ وقد اشتمل ذلك على مختلف أعضاء القاعدة الذين مثلوا أمام المحكمة الجزئية في نيويورك للاشتراك في تفجيرات السفارات في نيروبي ودار السلام[20].
على هذا فإن في المحاكمات التمييزية للأجانب ومثولهم أمام اللجان العسكرية ليس ما يتعارض مع حق الفرد في المساواة أمام المحاكم فحسب وفقا لما ينص عليه نظام حقوق الإنسان، وإنما أيضاً ما يضع مصداقيتها نفسها على المحك. لذا فإن النقطة التي يجمل توضيحها هي أن الدول كان بمقدورها اللجوء إلى خيار المحاكم المدنية للتصدي لتحديات الحرب العالمية على الإرهاب ولكنها آثرت عدم اللجوء إلى هذا الخيار. وبالتالي فإن تطبيق الأنظمة شبه القضائية لا يعكس جهود الدولة لاستبعاد أفراد بعينهم من الحماية المقننة المقدمة بمقتضى حقوق الإنسان وإنما يفضي أيضاً إلى الإضعاف المتعمد لمكانة الجهاز القضائي مقابل الإعلاء من شأن الجهاز التنفيذي. وكما يتبين بكل وضوح وجلاء من الأمثلة آنفة الذكر تم تمكين الجهاز التنفيذي وأفلح في الاستحواذ على مهام شبيهة بالمهام القضائية كما أنه أفلت من قبضة الرقابة القضائية – وذلك كله باسم الأمن الوطني.
أسهمت هذه الصلاحيات والسلطات في المزيد من التآكل والضمور في القيود والضوابط التي تتصف أصلاً بالضعف والهشاشة والرامية إلى كبح جماح إجراءات الدولة. وفوق هذا وذاك وعلى الرغم من المعارضة المتزايدة من قبل هيئات حقوق الإنسان فقد أسهمت تلك العمليات والإجراءات أيضاً في كل ما يصب في إتجاه إضعاف قبضة الأنظمة والهيئات المعنية بحقوق الإنسان وتهميش دورها المنوط بها للعناية بتلك الحقوق.
مخالفات وانتهاكات أخرى
أعربت اللجنة الدولية للصليب الأحمر وأجهزة حقوق الإنسان بمنظمة الأمم المتحدة، على حد سواء، عن قلقها إزاء التطبيق غير الملائم للأنظمة والقوانين المعنية بحقوق الإنسان في الحرب العالمية على الإرهاب. ففي واقع الأمر أصبح من الشائع على نطاق واسع انتشار الشكاوى ضد عسكرة الحرب العالمية على الإرهاب، واستخدام القنابل العنقودية والاغتيالات المتعمدة وسياسات إطلاق النار بقصد القتل وحالات الأسر والاعتقال والمحاكم فوق القضائية (التي تعمل خارج نطاق القضاء)، وإساءة معاملة المساجين واللجوء إلى التعذيب للانتزاع القسري للمعلومات الاستخباراتية. ومن الواضح تماماً أن عدم مراعاة مثل تلك الأحكام والقوانين من قبل الدول يسهم في تآكل حقوق الإنسان.
أما الأمر الأوثق صلةً بما تقدم فهو يتمثل في إسباغ الشرعية على تلك المخالفات والانتهاكات في تجسيد صارخ وصاعق لما حل بالمعاييرالقانونية التي طالما ما كانت من المسلّمات فأصبحت مثار شك ومدار تساؤل وصارت عرضة للانتهاك منذ الحادي عشر من سبتمبر[21] ، ففي عام 1976 على سبيل المثال، وقع الرئيس فورد على أمر تنفيذي يحظر بموجبه جميع الاغتيالات السياسية وهو أمر لا يزال سارياً نافذ المفعول على الرغم من عدد الاغتيالات المتعمدة (اغتيال أفراد مستهدفين) على غرار ما جرى في الآونة الأخيرة[22]. ويعد تبني سياسة إطلاق النار بقصد القتل مثالا آخر. وكما يرى مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان بمنظمة الأمم المتحدة، « يستخدم إطلاق النار بقصد القتل ليتضمن أسلوباً جديداً وللإيحاء بأنه لا طائل من وراء العمل في إطار القانون لمواجهة الإرهاب».
وعلى كل حال فإن قانون حقوق الإنسان ينطوي أصلاُ على إباحة استخدام القوة المميتة عندما يكون ذلك مطلوباً بمقتضى الضرورة القصوى لإنقاذ الحياة البشرية[23].
وبالمثل، فإن إساءة معاملة السجناء والاستجواب لأغراض جمع المعلومات الاستخبارية هي أيضاً عن أمثلة كاشفة عن التآكل العام لحقوق الإنسان. ففي مرحلة ما قبل الحادي عشر من سبتمبر، اشتمل الكتيب/الدليل الأمريكي الميداني 34-52 على إرشادات عامة بخصوص الاستجواب لأجل الحصول على معلومات مخابراتية وقد أقر صراحةً بأن الإرهابيين يحق لهم أن يستفيدوا من الحماية المنصوص عليها في معاهدة جنيف وتنطبق عليهم شروط الاستفادة من تلك الحماية[24]. بالإضافة إلى ما تقدم، نص الدليل الميداني على أن أعمال العنف والترهيب والترويع بما في ذلك التعذيب البدني أو النفسي والإساءات أو المعاملة غير الإنسانية كوسيلة الاستجواب غير مصرح بها ولا يجوز التسامح بشأنها من قبل الجيش الأمريكي. أما قائمة الأنشطة والأعمال القسرية غير القانونية المنصوص عليها في الدليل، فهي تتضمن ما يلي:
– التهديد أو الإشارة الضمنية إلى التعذيب الجسدي أو النفسي لمن يخضع للاستجواب أو عائلته أو الآخرين الذين يدين لهم بالولاء؛
– الحرمان المتعمد عن العناية الطبية أو الرعاية الصحية مقابل الإدلاء بالمعلومات التي يسعى من يجري الاستجواب إلى الحصول عليها أو التعاون بأي وجه آخر.
– التهديد أو الإشارة ضمناً إلى أن الحقوق الأخرى الممنوحة بموجب معاهدة جنيف لتحسين أوضاع الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة في ميادين القتال، أو معاهدة جنيف لمعاملة أسرى الحرب أو نحوهما سوف لن يتم منحها ما لم يتم إبداء التعاون[25].
ومهما يكن من أمر، فإن أساليب الاستجواب والاستنطاقات الرامية إلى استخلاص معلومات استخباراتية عن القضايا المتعلقة بالإرهاب شهدت تغييرات جذرية عقب الحادي عشر من سبتمبر؛ حيث أجرت وزارة الدفاع الأمريكية دراسة سرية[26] لتقييم المسائل والجوانب القانونية والسياسية والإجرائية المتصلة باستجواب الأسرى المحتجزين لدى القوات المسلحة الأمريكية في إطار الحرب العالمية على الإرهاب. وقد تلمّست وثيقة الدراسة رد الفعل المحتمل من عموم الأفراد كما استشرفت آفاق التداعيات القانونية والسياسية إزاء تطبيق تقنيات الاستجواب المعززة في سجن خليج غوانتنامو. كذلك خصصت الدراسة فصلاً بأكمله لتقييم كيفية رد الفعل المتوقع من المحكمة الجنائية الدولية إزاء سياسة من قبيل ما تقدم وعن ماهية التدابير التي يمكن اتخاذها تحسباً لمجابهة رد الفعل السلبي من عموم أفراد الشعب أو من الدول الأخرى أو من المحكمة الجنائية الدولية أو أي هيئات قانونية دولية أخرى بينما حرصت الدراسة في الوقت نفسه على توصية الحكومة بشدة على تبني أساليب الاستجواب القسري لانتزاع المعلومات عنوةً من الخاضعين للاستجواب.
من واقع التقارير الصادرة عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر والإفادات الواردة من الأسرى الذين أُطلِقَ سراحهم وأخلي سبيلهم من غوانتنامو، أميط اللثام عن أن جميع الأساليب والتقنيات الموضحة أعلاه والتي صنفتها حكومة الولايات المتحدة نفسها مدرجةً إياها بجلاء ووضوح تحت باب الإكراه والتعذيب، قد تم استخدامها في واقع الأمر من قبل الوكلاء والمحققين الأمريكيين. وقد أقر مايكل هايدن مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية واعترف بصراحة ووقاحة باستخدام التعذيب بالماء[27]. كما أن الرئيس بوش أعلن على رؤوس الأشهاد أن وكالة الاستخبارات المركزية استخدمت مجموعة بديلة من الإجراءات لاستخلاص المعلومات من الأسرى[28].
رسالة من قيادة الولايات المتحدة
تعد منظومة حقوق الإنسان إحدى أكبر ضحايا الحرب العالمية ضد الإرهاب، بيد أن قمة السقوط في أتون التناقض الصارخ مع حقوق الإنسان بالنسبة للولايات المتحدة التي تقوم وتقعد مدعية حمايتها إنما تمثل في التآكل الذي طال سلطتها الأخلاقية ونال من دورها القيادي بين الأمم؛ ذلك أنه ومن خلال الممارسات العسكرية والأحادية الجانب من قبل الولايات المتحدة تحت ذريعة الحرب العالمية على الإرهاب وجهت الولايات المتحدة إلى الدول الأخرى رسالة واضحة مفادها أن القوة العظمى مع استعدادها لإنفاذ قوانين جمعية متعددة الجوانب للدول الأخرى فهي أكثر من راغبة في رفضها جملة وتفصيلا متى رأت ضرورة ذلك.
وهكذا يتضح أن الولايات المتحدة استغلت الحرب العالمية على الإرهاب لتوصيل رسالة كانت موجهة إلى الدول أكثر من كونها موجهة إلى المنظمات الإرهابية وهي رسالة أثبتت أن الولايات المتحدة بصفتها القوة العظمى الوحيدة راغبة وقادرة في آن معاً على ممارسة القهر والقسر والإكراه عندما ترى ذلك مناسباً. لقد انطوت الأعمال والأفاعيل التي أتت على شاكلة التدخل العسكري غير المصرح به في العراق على إفادة الدول الأخرى في النظام الدولي أن القوة العظمى قد تتحول من موقع القيادة الحميدة إلى سلوك يتسم بمزيد من العدوانية التي لا يسبقها سلوك استفزازي وينزع نحو الأحادية والتفرد بالقرار والانفراد بحرية التصرف من جانب واحد لأجل حماية مصالحها الخاصة عندما يقتضي الأمر ذلك ومتى نشأت الضرورة لذلك.
أما الأعمال من قبيل الاستخفاف بمنظمة الأمم المتحدة وشن الهجمات الاستباقية والتصرفات الأحادية الجانب المنفلتة العيار، فقد أفضت في مجملها إلى وجود معارضة صريحة ضد الولايات المتحدة. وفي واقع الحال، فإن من الواضح أن الحرب العالمية على الإرهاب قد أعيدت صياغتها في العام 2006 كي تبدو أقل أحادية، ولأجل تحسين صورة أمريكا حول العالم. وفي حقيقة الأمر، فإن الخطاب المعارض الذي أعربت عنه مختلف الدول كان ينزع كل حال نحو أن يكون مجرد عبارات منمقة وطنانة وتعابير جوفاء ورنانة. ومع هذا فإن الفشل في تحقيق أي إجماع ينعقد حول أهم الجوانب المتعلقة بالحرب العالمية على الإرهاب إنما يشي بأن الالتزام الضمني للدول بجوانب معينة من الحرب لم يكن يعني بالضرورة قبولاً تلقائياً غير مشروط لاضطلاع الولايات المتحدة بالدور القيادي أو إقراراً غير قابل للاعتراض بزعامتها. وفي الواقع تبدو الولايات المتحدة وهي تترجل تدريجياً عن سدة الزعامة وتفقد دورها القيادي رويداً رويداً خلال فترة السنوات العشر الماضية.
وهكذا فإنه وعلى الرغم من أن الحرب العالمية على الإرهاب أكدت بالفعل التفوق العسكري للولايات المتحدة، فقد أخفقت أيما إخفاق في الجمع بين القوة الأمريكية وقدرتها على ممارسة القيادة والنفوذ والتأثير على مجريات السياسة الدولية. وربما كان هذا أوضح ما يكون في ما يسمى «حرب الأفكار» في سياق الحرب العالمية على الإرهاب حيث دأبت الولايات المتحدة على السعي لاستخدام الأفكار بصورة منهجية للحفاظ على دورها القيادي وتعزيزه وترسيخه في النظام الدولي.
في هذا السياق أيضاً، بذلت الولايات المتحدة جهداً مدروساً للابتعاد عن مفردات خطاب «صراع الحضارات»، وعدم الربط بين الثقافة الإسلامية والعربية من جهة والإرهاب العابر للدول من جهة أخرى – بيد أنه ولما كانت جميع برامج الدبلوماسية الشعبية الجديدة بالولايات المتحدة قد تم تصميمها وتنفيذها خصيصاً للتجاوب مع آراء المسلمين والعرب تجاه الولايات المتحدة والاستجابة لتلك الآراء بحيث تكون ذات تأثير محمود، فإن خطاب الحكومة قد أفضى بالفعل على سبيل المصادفة ودونما قصد إلى الترويج لأسئلة حيال مختلف الهويات الدينية والعلمانية والحدود في السياسة الدولية.
فعلى سبيل المثال، سعى نظام إصلاح الاستخبارات ومنع الإرهاب (2004) إلى توسيع نطاق المثل والقيم العليا ونشرها في أوساط العامة ووسط عموم الأفراد عن طريق الدبلوماسية؛ وقد مثلت مبادرة القيم المشتركة محاولة لإلقاء الضوء على وجود مثل وقيم مشتركة بين العرب والولايات المتحدة؛ كما تم تدشين حملة عالمية للتبادل في مجال التربية والتعليم لناشئة المسلمين وشبيبتهم في إطار ما أطلق عليه مسمى «الشراكة للتعلم» كما تم افتتاح العديد من محطات الإذاعة والتلفزيون في محاولة صفيقة لتجاوز «المفارز ومعايير التمحيص والفرز وفق الأسس العلمية والعملية وآليات فلترة الأفكار لدى قادة الرأي والنخبة والقائمين على أمر الإعلام والاتصال الجماهيري وسط الشعوب الإسلامية»[29]، والقفز عليها وعليهم جميعاً للوصول مباشرة إلى الشباب العربي لأجل «إطلاعهم على حقيقة أمريكا وما تمثله وما تنافح لأجله»[30].
ففي نظام الولايات المتحدة للترويج للحرية، والذي صدر عام 2002م، تم تخصيص الموارد اللازمة لخطة إستراتيجية وعملية للدبلوماسية الشعبية التي تهدف إلى «التركيز المكثف على الشرق الأوسط»[31] وعلى هذا فإن عناصر جديدة للهوية تم دمجها تدريجيا ضمن مجتمع ما بين الدول ليس نتيجةً لإدراك الدول أن العمليات المرتبطة بالهوية العربية والإسلامية أصبح تأثيرها على السياسة الدولية يزداد يوما بعد يوم فحسب، وإنما أيضاً بالتطبيق الاستتباعي للسياسات التي تم تصميمها خصيصاً للاستجابة لذات العمليات آنفة الذكر.
لقد أعربت الحكومة الأمريكية صراحةً عن تسويغها للدبلوماسية الشعبية كأداة يتم تسخيرها لنشر وترسيخ القيم الأمريكية وتعزيز الدور القيادي للولايات المتحدة على نطاق المعمورة. ولعل في هذا الاهتمام المتنامي، وذاك التركيز المتزايد على الدبلوماسية الشعبية ما يشي بأن السياسة الأمريكية الخارجية كانت تستخدم لمحاولة الحفاظ على الصورة العامة للقوة العظمى ولمركزها القيادي على حد سواء.
إن جميع مبادرات الدبلوماسية الشعبية، تجاه الشعوب العربية والإسلامية، في حقبة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر قد تم تصميمها خصيصاً لفرض القيم الأمريكية – كما تراها الولايات المتحدة – لا للترويج للحوار. وتشير الوثائق الرسمية أيضاً إلى أن التركيز الجديد على الدبلوماسية الشعبية جاء استجابة لمعطيات ونتائج استطلاع الرأي العام الذي أجراه مركز «بيو» للبحوث حيث أسفرت نتائج ذلك الاستطلاع عن وجود رفض شديد للقيادة والقيم الأمريكية من قبل المجتمع الدولي.
عطفاً على أن كيفية تفسير رسالة ما تكتسب أهمية الرسالة نفسها، فإن هذا الرفض واسع النطاق للقيادة والقيم الأمريكية كان مهماً لأبعد الحدود؛ إذ أنه ينطوي على الإشارة بالدليل والبرهان إلى أن برامج الدبلوماسية الشعبية في إطار الحرب العالمية على الإرهاب ربطت هذا الرفض بالعجز عن إقناع المستهدفين بالرسالة الموجهة إليهم وعن استمالتهم إليها وجمعت بين ذلك الرفض والعجز. والأنكى من ذلك أن تلك البرامج تم النظر إليها على نطاق واسع من قبل العالم الإسلامي باعتبارها محض دعاية موجهة بشكل صريح نحو الترويج للقيم الغربية والأمريكية والمزيد من الترسيخ للنموذج الإستعماري الأمريكي. وفي الواقع، هنالك درجة معينة من الإجماع والتراضي والتوافق في أوساط الخبراء والمسئولين بوزارة الخارجية الأمريكية على أن برامج الدبلوماسية الشعبية الأمريكية التي تم تبنيها بعد الحادي عشر من سبتمبر كانت بمثابة كارثة مكتملة الأركان. وإن جميع مبادرات الدبلوماسية الشعبية الرئيسية التي تم تبنيها اعتبارا من العام 2002 قد تلاشت وتوارت عن الوجود كلياً أو جزئياً بحلول العام 2005.
هكذا فإن الحرب العالمية على الإرهاب قد أسهمت في تغذية المفهوم الذي مفاده أن الولايات المتحدة إنما كانت تسعى إلى التلاعب بالعالمين العربي والإسلامي؛ كما أسهمت في تعميق الفجوة وتوسيع الهوة وتكريس المزيد من الإنقسام بين الغرب من جهة والعالمين العربي والإسلامي من جهة أخرى. وقد أفضت تلك الممارسات إلى ترسيخ مفهوم بأن القيم الإسلامية / العربية ليست هدفاً للإقصاء والمباعدة عن القيم الغربية فحسب وإنما أيضاً تحمل احتمال عدم الانسجام التناغم معها. ونتيجة لذلك كانت استجابة العرب والمسلمين المستهدفين هي المزيد من الترسيخ والتأصيل لقيمهم الخاصة بهم مع نبذ القيم الغربية في آن معاً باتخاذ ذلك سبيلاً لإعادة تأكيد خصوصيتهم وهويتهم غير الغربية.
لقد أثارت العديد من الأعمال الأمريكية في إطار الحرب العالمية على الإرهاب جملة من الاعتراضات والتساؤلات حول دورها كزعيم قائد للعالم في عهد إدارة بوش ولكن هل تغير أي شيء في عهد أوباما؟ على الرغم من أن خطاب الحرب العالمية على الإرهاب تم تفنيده ورفضه بقوة من قبل إدارة أوباما، فإن الأوضاع لم تشهد أي تغير ملحوظ حتى يوم الناس هذا على صعيد الواقع العملي. ولا مراء البتة في أن الحكومة الحالية تجد نفسها مكتوفة اليدين بفعل التغييرات التي أجرتها الإدارة السابقة في سياق حثيث جهودها للدفاع عن الأمن الوطني للولايات المتحدة من جهة مع السعي إلى الترويج للمزيد من الشفافية والاحترام لحقوق الإنسان من جهة أخرى. وعلى الرغم من سلامة مقصد الإدارة الحالية جاءت النتيجة على هيئة خطة تجاه الإرهاب، وهي خطة يكتنفها الغموض كما أنها من حيث الممارسة على أرض الواقع هي عبارة عن مواصلة لسياسة إدارة بوش حيال الحرب العالمية على الإرهاب وما صاحبها من انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان.
وعلى هذا فإن التوجيهات بعيدة المدى للسياسات الأمنية الدفاعية الفعلية للقوة العظمى الوحيدة تظل ملتبسة يكتنفها الغموض. لذا وعلى الرغم من أن هنالك تحولا في الخطاب البلاغي والعرض الخطابي للحرب العالمية ضد الإرهاب في عهد إدارة أوباما، فإن هنالك إشارة واضحة للاستمرار وعدم الإستمرار على حد سواء في محتوى الخطاب. فمن جهة، أسقطت الولايات المتحدة من حساباتها وخطاباتها مصطلح «الحرب ضد الإرهاب»، وتزعم أنها لم تعد في حالة حرب. ومن جهة أخرى فإن جون برينان مستشار أوباما الرئيسي في مكافحة الإرهاب يؤكد أيضاً أن الولايات المتحدة لا تزال في حرب مع القاعدة ومع «حلفائها المتطرفين الذين يتبنون العنف ويسعون إلى مواصلة تنفيذ الأجندة المميتة لتنظيم القاعدة»[32]. أما استخدام الطائرات بدون طيار في المناطق القبلية الحدودية في باكستان، فهو مثال صارخ آخر لكيفية استمرار الحرب العالمية ضد الإرهاب في التناقض مع القيم التي يزعم الغرب الحفاظ عليها. فقد ظل أوباما يصدر موافقته على تنفيذ عملية اغتيال واحدة على الأقل كل أربعة أيام باستخدام الغارات التي تشنها الطائرات بدون طيار، حيث دأب على ذلك منذ توليه مقاليد الحكم[33].
على الرغم من أنه يصعب جداً أن يتم على وجه الدقة والضبط تحديد عدد المدنيين الذين لقوا حتفهم بالفعل في الغارات التي تشنها الطائرات بدون طيار في المنطقة؛ فإن بعض التقديرات تشير إلى وجود حوالى 50 ضحية من المدنيين الأبرياء مقابل كل إرهابي من القاعدة أو أحد فروعها ممن يقتلون في غارة تشنها طائرات بدون طيار[34]. ويمكن أن يتطرق الشك إلى هذه الأرقام، وتكون محل اعتراض، وأن بعض الدراسات تشير إلى عدد أقل بكثير، فهي ما فتئت تمثل حالة كاشفة. فعلى سبيل المثال وعطفاً على أن خمسة عشر محاولة تمت لقتل بيت الله محسود، وهو زعيم من طالبان كان يتخذ من باكستان مقراً له، وحتى عند الاستناد على معدلات الموت في أوساط المدنيين وفقاً للتقديرات الأكثر تحفظاً، فإن المرء لا يسعه إلا أن يتخيل مئات الأبرياء الذين دفعوا حياتهم ثمناً جراء هذه السياسة الرعناء.
بيد أنه على الرغم من ارتفاع وتيرة الالتزام الأمريكي تجاه الحد من عدد الضحايا المدنيين وعلى الرغم من خطابها الاعتذاري فيما يتعلق بالأضرار المصاحبة الناجمة عما تقدم، فإنه لم يطرأ أي تغيير واضح للعيان أو يشار إليه بالبنان في هذه السياسة، أو من المتوقع في واقع الأمر، أن يحدث في المستقبل القريب كما يشير إلى ذلك بكل وضوح مقتل كل من إلياس الكشميري وأنور العولقي في الآونة الأخيرة. وفي واقع الحال، فإن القتل المتعمد لمفكر القاعدة والمواطن الأمريكي أنور العولقي يزيد من التناقضات التي تحملها الحرب العالمية على الإرهاب في طياتها.
إن من شأن اعتماد اغتيال العولقي، والموافقة على ذلك من قبل الحكومة الأمريكية، إلقاء الضوء على رغبة الولايات المتحدة في استخدام وسيلة القتل المعتمد من قبل الحكومة بدون محاكمة قضائية أو إجراءات قانونية مسبقة ضد مواطنيها الأمريكيين أنفسهم الأمر الذي يسهم أكثر فأكثر في تآكل القيم الغربية، تلك القيم التي يدعي الغرب الحفاظ عليها ويزعم الترويج لها. وهذا بدوره يعزز الشكوك حول قدرته على القيادة والزعامة ويقوض أركان ما أسماه «حرب الأفكار» التي يخوض غمارها بل ينسف مسوغاتها من أساسها ويعزز من تكريس الانقسام بين الغرب من جهة والعرب / المسلمين من جهة في إطار النظام العالمي.
دحر القاعدة!
لعل مما يؤسى له ويؤسف عليه أن الولايات المتحدة، على الرغم من مسئوليتها عن أسوأ انتهاكات حقوق الإنسان في العقد الماضي من الزمان، وعلى الرغم من معاناتها مما ترتب على ما تقدم من تآكل في موقفها في زعامة المجتمع الدولي وخصم من رصيدها القيادي، لم تتمكن من تحقيق هدفها الإسترتيجي المركزي المتمثل في دحر القاعدة وإلحاق الهزيمة بها. لا شك أن الحرب العالمية على الإرهاب حققت درجة من النجاح في الحرب ضد التنظيم. ففي غضون عام واحد، قتلت الولايات المتحدة عدداً من قادة القاعدة بمن فيهم ليس الشيخ بن لادن فحسب، وإنما أيضاً عطية عبد الرحمن وعبد الغني وأبوزيد العراقي وإلياس الكشميري والعولقي؛ كما أن الأوضاع في العراق شهدت تحسناً منذ عام 2006م على الرغم من أن الهجمات الإرهابية في المنطقة ما فتئت تشكل مشكلة خطيرة تقض المضاجع وتؤرق الأجفان.
لا مراء في أن معظم الحدود بين الدول وأنظمة النقل أصبحت أكثر أمناً وأماناً من أي وقت مضى. ففي الولايات المتحدة من المؤكد أن هنالك المزيد من التنسيق بين مختلف الوكالات مثل إدارات الشرطة ومطافئ الحريق أو بين مكتب التحقيقات الاتحادي ووكالة الاستخبارات المركزية. وهو صار تنسيقا أفضل مما كان عليه قبل عشر سنوات. وقد تم إجهاض العديد من المؤامرات الإرهابية كما تم إلقاء القبض على العديد من الإرهابيين ولقي عدد منهم حتفه.
مهما يكن من أمر فإن موت بن لادن لا يعني موت القاعدة – ذلك أن عشر سنوات وعدة مليارات من الدولارات في الولايات المتحدة وحلفائها لا تزال محتجزة جراء الخطر المحدق الماحق والتهديد الماثل الذي تمثله القاعدة والذي لا يزال حاضراً. إن بطاقة تقرير الذكرى السنوية العاشرة: حالة توصيات لجنة الحادي عشر من سبتمبر تقدم تقييماً مثيرا للانتباه عن نجاح الولايات المتحدة في الحرب ضد الإرهاب العابر للدول. وفقاً للتقرير المذكور، ما يزال الطيران الأمريكي يواجه مهددات أمنية خطيرة وحتى الوقت الحاضر يوجد لدى الدولة نظام معيب للكشف عن المتفجرات وهو نظام يشوبه القصور ويعتريه النقص «جاعلاً الولايات المتحدة ليست آمنةً كما يمكنها أن تكون أو كما ينبغي»[35]. فضلا عما تقدم، يورد المستند توجهات مثيرة للقلق مثل «الازدياد المضطرد في تجنيد المواطنين الأمريكيين والمقيمين بين ظهرانيهم في التنظيمات الإرهابية»، والتهديد المتزايد في الإرهاب الالكتروني / الإرهاب الذي يتخذ من الانترنت وسيلة له والأهم من ذلك كله الاستمرارية المتواصلة بلا انقطاع في فكر القاعدة.
والأسوأ مما تقدم أن تلك الصورة القاتمة لا تقتصر على الولايات المتحدة بمفردها، ولا تختص بها وحدها. يظل تنظيم القاعدة يمثل تهديداً ليس للولايات المتحدة فحسب، وإنما أيضاً لحلفائها كما يتضح من واقع تقرير الأوضاع والتوجهات للإرهاب في دول الاتحاد الأوروبي وهو التقرير الذي صدر مؤخراً ويعلن كيف أنه «بعد عشر سنوات من هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، ما يزال الإرهاب يمثل تهديداً خطيراً لدول الاتحاد الأوروبي ومواطنيها»[36]. ووفقاً لإدارة شرطة الاتحاد الأوروبي (يوروبول)، عانت تسع دول في أوروبا من الهجمات الإرهابية في العام 2010 وحده وذلك بما مقداره 249 حالة إرهابية في أوروبا، في حين أن عدد الأفراد الذين ألقي القبض عليهم للإعداد لهجمات إرهابية ارتفع إلى ما إجماليه 611 فرداً.
كذلك، فإن الجهاديين العائدين من مناطق الصراعات يظلون يمثلون خطراً محتملاً يهدد أوروبا وفقا لما ورد في المستند؛ ذلك أن المزيد من مواطني الاتحاد الأوروبي انخرطوا في الإرهاب والأنشطة ذات العلاقة به، وقد يزيد عددهم في الوقت الحالي عن عددهم في أي وقت مضى. كما أن الارتباطات بين الإرهابيين وأنشطة الجريمة المنظمة أصبحت في تزايد وكذا التعاون الدولي بين الإرهابيين والمجموعات المتطرفة؛ ناهيك عن أنه هنالك ازديادا واضحا في التطور والحرفية العالية فيما يتعلق باستخدام الانترنت في الأنشطة ذات العلاقة بالإرهاب.
في غضون ذلك لا زالت القاعدة والمجموعات الإرهابية الأخرى صامدة كما أن الغيمة السديمية للقاعدة تواصل انتشارها وتوسعها وتوسيع نطاق نفوذها العملي وتسعى باستمرار إلى تغيير جلدها لمجابهة الحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضد الإرهاب. ففي الآونة الأخيرة حققت القاعدة وفروعها حضوراً قوياً ليس في شبه الجزيرة العربية فحسب وإنما أيضاً في شمال أفريقيا وشرقها وجنوب آسيا وشمالي القوقاز.
ففي شمال أفريقيا ومنطقة الساحل، تظل القاعدة تمثل تهديداً ليس فقط للجزائر وموريتانيا، وإنما أيضاً وبصورة متزايدة لكل من فرنسا وإسبانيا. وفقاً لشرطة الاتحاد الأوروبي (يوروبول)، هنالك زيادة مخيفة في عدد الغربيين الذين يقعون تحت الأسر في يدي المجموعات الإرهابية ذات العلاقة بالقاعدة في الدول الأفريقية مثل مالي وموريتانيا والنيجر[37]. فقد أصبحت مجموعات مثل مجموعة «الشباب» تمثل تهديداً يزداد يوماً بعد يوم مع التطور الذي تشهده كفاءتها التشغيلية وقدرتها على شن الهجمات خارج الصومال والدول الأخرى في شرق أفريقيا بما في ذلك خليج عدن الإستراتيجي. وفي شبه جزيرة العرب وعلى الرغم من أن المملكة العربية ظلت تعمل على قمع القاعدة ، فإن تلك المجموعة الإرهابية ظلت تغير مواقعها وتبدل مقار انطلاق نشاطها متخذة من اليمن مقرا لها.
تراوحت في أفغانستان تكلفة الصراع بين 14 ألف و18 ألف ضحية من المدنيين الأبرياء في فترة السنوات الخمس المنصرمة وحدها وفقا لبعض التقديرات. وفي القوات الدولية، بلغت حصيلة الموتي ما يزيد على 2750 جندياً هالكاً. أيضاً تشهد أفغانستان ازدياداً مضطرداً في عدد المتطوعين الأجانب الذين يحاربون في صف القاعدة وطالبان. أما المتفجرات والعبوات الناسفة اليدوية المستخدمة في المنطقة، فقد أصبحت متطورة إلى حد بعيد من حيث التصميم والاستخدام وذلك على نحو يفوق ما كانت عليه قبل عشر سنوات. ويستخدم مجاهدو طالبان والمقاتلون «الإرهابيون»، في الوقت الحالي أساليب حرب العصابات المتطورة ولديهم مجموعة من المقاتلين المتدربين جيداً على هذا النوع من الحرب[38]. لقد تمكنت طالبان أيضاً من تطوير أساليبها في استخدام القنابل التفجيرية.
تتصف البيئة في أفغانستان بالفوضى السياسية الناجمة عن فقدان الحكومة المركزية، والانهيار الاقتصادي وعدم الاستقرار العرقي والتطرف الداخلي المتصاعد؛ فزادت ضغثا على إبالة بوجود العمل العسكري والوجود الأجنبي للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (ناتو) مما دفع بحالة الاستقرار ونقلها عبر الحدود إلى باكستان. إن ظهور مجموعات من قبيل جماعة طالبان البنجاب وحركة طالبان الباكستان وغيرها جاء نتاجاً مباشراً كرد فعل للشعب المحلي ضد الأعمال العسكرية الأمريكية في المنطقة. وقد أثبتت مجموعات مثل مجموعة طيبة وطالبان الباكستان أنها ذات حضور عالمي.
خلاصة القول، في هذا الصدد، أن الولايات المتحدة، بالتأكيد، حطمت الجزء المركزي لتنظيم القاعدة من خلال القتل أو الأسر لبعض قادتها المهمين، بيد أنها فشلت فشلا ذريعاً في تطويق التهديدات الإرهابية ولجمها بالكامل، من حيث الوصول الفعلي لبعض فروع القاعدة المحددة ومن حيث الحد من استمرارية التنظيم واتساع نطاق السمة المعينة أو البصمة المميزة التي يحملها فكر القاعدة. وفي الوقت نفسه فإن المجموعات الإرهابية تتغير من ناحية التركيب والجهاز القيادي[39]، فضلاً عن أن نطاق وصولها يصبح أكثر اتساعا ليصل إلى المزيد من بقاع العالم وقل مثل ذلك في ما يتعلق بسقف طموحاتها وتطلعاتها.
هنالك عدد متزايد من الإرهابيين الفرادى أو الخلايا الإرهابية الفردية والعديد من تلك الخلايا ذات منشأ محلي، وعلى الرغم من ضعف ارتباطها (أو عدم ارتباطها بالمرة) بتنظيم القاعدة أو فروعها فإنها تشارك القاعدة فكرها بقوة. وهذا التوجه من شأنه أن يتفاقم أكثر فأكثر ويستفحل أمره مع ازدياد التوتر والاحتقان السياسي والاجتماعي جراء الركود والكساد الاقتصادي مما يؤدي بدوره إلى تهيئة أحوال وظروف مثالية لازدياد عدد الأفراد الذين تحدوهم الرغبة في اللجوء إلى الإرهاب واتخاذه ملاذاً. وربما كان هذا هو السبب في عدم قدرة الحرب العالمية ضد الإرهاب على مواجهة الفكر الإرهابي الذي يحمل سمة تنظيم القاعدة.
لعل أحد الآثار الرئيسية للممارسات المتعلقة بالحرب العالمية ضد الإرهاب إنما يتمثل في أن تلك الممارسات جاءت صادمة ومصادمة لذات القيم التي يدعي الغرب أن يحملها ويحميها. ففي انتهاك حقوق الإنسان تحت شعار الحرب العالمية ضد الإرهاب وتحت ذريعة الدفاع عن الممارسات المناهضة للتحرر أسهمت الولايات المتحدة في تآكل العديد من القيم التي كانت ذات يوم من المسلّمات لدى المجتمع الدولي.
في الوقت نفسه فإن مكانة الولايات المتحدة قد تأثرت أيما تأثر جراء اللجوء إلى الخيار العسكري، والتصرف الأحادي / من جانب واحد والاستخفاف الصارخ بحقوق الإنسان، وكذا موقفها ودورها القيادي مما أدى بدوره إلى توليد قدر هائل من الحنق والغضب والاستياء في العالم الإسلامي. كما أن موقف الرئيس أوباما الأخير فيما يتعلق بالطلب الذي تقدم به الفلسطينيون في الأمم المتحدة لاستصدار الاعتراف بدولتهم قد أدى إلى تعزيز الرأي أكثر فأكثر في الشرق الأوسط والدول النامية بأن ما تقوله الولايات المتحدة يتعارض إلى حد بعيد مع ما تفعله.
لكي نكون متأكدين فإن محاربة الإرهاب تعد ضرورة لا مندوحة عنها. إلا أننا وبعد عشر سنوات من الحادي عشر من سبتمبر يجب علينا الشروع في سؤال أنفسنا عن وزن الحرب العالمية ضد الإرهاب. هل حقاً استفادت الولايات المتحدة، والمجتمع الدولي في واقع الأمر، من هذه الحرب؟ ما الذي ينبغي لنا تغييره من الآن فصاعداً؟ يجب أن يكون موت بن لادن بمثابة علامة فارقة وفاصلة لفترة من التفكير والتروي عن تداعيات الحرب العالمية على الإرهاب.
ربما تم تصوير موته كانتصار مؤزر للولايات المتحدة، إلا أن القاعدة ما تزال موجودة وفكرها ما يزال على الساحة بعد موت بن لادن. كما أن اختفاءه من ساحة الأحداث يطرح أسئلة رئيسية عن التداعيات ذات التأثير السلبي للحرب العالمية ضد الإرهاب – وهي تداعيات يفضي بعضها بالفعل إلى تغذية العنف الذي يتبناه من يشاركون القاعدة فكرها وأيديولجيتها.
[1] محامي دولي وأستاذ في العلاقات الدولية في جامعة (PUC) بميناس في البرازيل.
[2] يرجى الرجوع على سبيل المثال إلى خطاب جورج دبليو بوش الذي ألقاه عقب الحادي عشر من سبتمبر أو خطابه في البيت الأبيض بتاريخ 11 مارس 2002 أو خطابه عن العراق والذي ألقاه في سينسيناتي في يوم 9 أكتوبر 2002.
[3] «قياس النجاح والفشل في الإرهاب ومحاربة الإرهاب: معايير الحكومة الأمريكية للحرب العالمية ضد الإرهاب»
(Alex P. Schimid and Rashmi Singh) في (AlexP. Schimid andGarryNehindle (eds.) بعد الحرب على الإرهاب: الآفاق الإقليمية ومتعددة الجوانب حول استراتيجيات مكافحة الإرهاب، لندن: (RUSI)
[4] الحرب ضد الإرهاب وإطار القانون الادولي (Helen Duffy (2005))، كامبردج، مطبعة جامعة كامبردج ص 332
[5] إن انتشار استخدام مصطلح «تقنيات / أساليب الاستجواب المعززة (enhanced interrogation techniques)» لتعريف أساليب من قبيل الحرمان من النوم، والضغوط النفسية، والتجريد القسري من الملابس والضرب والتعذيب بالماء ونحو ذلك – والتي يمكن تصنيفها كذلك بأنها من ضروب التعذيب – يميط اللثام عن نقاش محدد جداً وينطوي على قضايا جدلية أخلاقية هو نقاش أجرته إدارة بوش.
[6] وزارة الدفاع الأمريكية: مذكرة قيادة القوات الأمريكية في الجنوب (USSOUTHCOM): أساليب التصدي للمقاومة، واشنطن وزارة الدفاع ص 87.
[7] ملفات غوانتنامو: حكايات 774 أسيرا في سجن غوانتنامو الأمريكي الخارج على القانون (Andy Worthington (2007))، لندن: مطبعة بلوتو صفحات 215 -243
[8] كونداليزا رايس، ملاحظات حول مغادرتها إلى أوروبا قاعدة أندروس للقوات الجوية 5 ديسمبر 2005 ص 1.
[9] تقرير الأمم المتحدة الفقرة 12 يمكن الاطلاع عليه على الرابط التالي:
http://www.unhcr.org/refworld/country,,HRC,,PRT,4562d8b62,3f8d4d144,0.html
تم الدخول إليه بتاريخ 22 أكتوبر 2011. وأيضا: الحرب ضد الإرهاب وإطار القانون الدولي (Helen Duffy (2005))، ص 355 -356.
[10] الحرب ضد الإرهاب وإطار القانون الدولي(Helen Duffy (2005))، ص 119.
[11] حقوق الإنسان وعدم التمييز في الحرب ضد الإرهاب، أوكسفورد: مطبعة جامعة أوكسفورد ص 122(Daniel Moeckli (2008)).
[12] الحرب ضد الإرهاب وإطار القانون الادولي (Helen Duffy (2005)) ص 119.
[13] حقوق الإنسان وعدم التمييز في «الحرب ضد الإرهاب’ (Daniel Moeckli (2008)).
[14] الحرب ضد الإرهاب وإطار القانون الادولي (Helen Duffy (2005))، ص 356.
[15] حقوق الإنسان وعدم التمييز في «الحرب ضد الإرهاب» (Daniel Moeckli (2008)) ص 115 و161.
[16] الاختصار باللغة الانجليزية برمز إلى الجيش الجمهوري الأيرلندي. أما المسار الساطع فهو مجموعة مسلحة متمردة مقرها في بيرو.
[17] حقوق الإنسان وعدم التمييز في «الحرب ضد الإرهاب» (Daniel Moeckli (2008)) ص 158 و161.
[18] سجلات المحاكمة والأوراق المصاحبة الخاصة بديفيد ماثيو هيكس، خليج غوانتنامو: مكاتب اللجان العسكرية، ص 3-5.
[19] حقوق الإنسان وعدم التمييز في «الحرب ضد الإرهاب» (Daniel Moeckli (2008)) ص 159.
[20] حقوق الإنسان وعدم التمييز في «الحرب ضد الإرهاب» (Daniel Moeckli (2008)) ص 139.
[21] الحرب ضد الإرهاب وإطار القانون الادولي (Helen Duffy (2005))، ص 355
[22] الإرهاب والإرهاب المضاد وقانون شن الحرب في المعهد العالمي لقانون حقوق الإنسان – الإرهاب والقانون الدولي: تحديات واستجابات. سانريمو المعهد العالمي للقانون الإنساني، ص 67 (Avril MacDonald (2003)).
[23] المفوضية السامية لحقوق الإنسان (2008) حقوق الإنسان والإرهاب والإرهاب المضاد. المفوض السامي لحقوق الإنسان، ورقة تقصي الإنسان – ورقة تقصي الحقائق رقم 32 ص 30-31.
[24] الجيش الأمريكي (1992م) الكتيب الميداني 34-52: الاستجواب لاستخلاص المعلومات الاستخباراتية، وزارة الجيش ص 7 و10.
[25] المصدر السابق ص 8.
[26] أنظر وزارة الدفاع الأمريكية (2003م) مذكرة سرية للمستشار العام بوزارة الدفاع، مذكرة لقائد القيادة الجنوبية للقوات الأمريكية: أساليب محاربة الإرهاب: وزير الدفاع.
[27] استفسار وزارة العدل بشأن التركيز على التعذيب بالماء’، ذي نيويورك تايمز، 23 فبراير 2008م (Scott Shane).
[28] جورج دبليو بوش الرئيس يناقش تشكيل لجان عسكرية لمحاكمة المتهمين المشتبه في ضلوعهم في أعمال إرهابية، تصريح صحفي من البيت الأبيض 6 سبتمبر 2006، ص 3.
[29] حرب الدعاية ضد الإرهاب: تحليل لحملة الدبلوماسية الشعبية «للقيم المشتركة» والتي أطلقتها الولايات المتحدة عقب الحادي عشر من سبتمبر 2001 مجلة أخلاقيات الاتصال الجماهيري (Journal of Mass Media Ethics 20(4))، 20 (4) ص 257 [Patrick Lee Plaisance (2009)).
[30] الدبلوماسية الشعبية الأمريكية كنشاط شبه تعليمي (Pseudo-Education): أداة تعتريها المشاكل للأمن الوطني والإرهاب المضاد، السياسة الدولية، (International Politics, 41(1)) ص 67 (Wayne Nelles(2004)).
[31] المصدر السابق ص 78.
[32] رفض مصطلحات «الجهاديين» و «الحرب ضد الإرهاب» يسحب النيران: «جدل وسجال»، الأمن الوطني اليوم، 5 أغسطس 2009 ص 1 (Anthony Kimery).
[33] عام واحد من الواحد: لقد أنجز أكثر مما يدعي منتقدوه، ولكن القادم أحلى، ذي إكونومست، 31 أكتوبر – 6 نوفمبر 2009، ص ب 68 (Lexington).
[34] الموت من الفضاء: نظرة عامة لحملة الغارات التي تشنها طائرات بدون طيار في باكستان، وكالة الاستخبارات المركزية – الجزء الثاني’، تيروريزم ميرور [Terrorism Monitor 7(30)(، ص 10-12 (Brian G. Williams (2009)).
[35] لجنة الحادي عشر من سبتمبر (2005) «التقرير النهائي حول توصيات لجنة الحادي عشر من سبتمبر»، واشنطن: اللجنة الوطنية حول الأعمال الإرهابية ضد الولايات المتحدة، ص 3 و7.
[36] شرطة الاتحاد الأوروبي (يوروبول) 2001، تقرير الأوضاع والتوجهات فيما يتعلق بالإرهاب’، لاهاي، مكتب الشرطة الأوروبية، ص 4.
[37] المصدر السابق ص 6.
[38] أنظر سيد شاهزاد (2011) داخل القاعدة وطالبان: ما وراء بن لادن والحادي عشر من سبتمبر، لندن: مطبعة بلوتو.
[39] شرطة الاتحاد الأوروبي (يوروبول) 2001، تقرير الأوضاع والتوجهات فيما يتعلق بالإرهاب، لاهاي، مكتب الشرطة الأوروبية، ص 6.