تقديم
يواصل مركز المسبار للدراسات والبحوث تفصيل مسارات التخلّص من التطرف، وتخليق اتجاهٍ معاكس لاتّجاه التجنيد، فيأتي هذا الكتاب الموسوم بـــ: «تقييم برامج نزع الراديكالية وإزالة التّطرف: المبادرات الأهليّة والرسميّة» (الكتاب الثامن والثمانون بعد المئة، أغسطس (آب) 2022)، لاستكشاف حزمة نماذج وتجارب لدول عربية وأوروبية وآسيوية ومنظّمات أهليّة لبنانيّة وأميركيّة، صممت برامج خاصة لنزع التّطرف، واستعانت بخبراء من تخصّصات عدّة، وبشهادات وتجارب متطرفين سابقين تعافوا من الإرهاب، وساهم بعضهم في تصميم برامج خاصة لنزع التّطرف، ومكافحة الراديكالية.
يكمل الكتاب دراسة برامج مكافحة التّطرف، وتقييم دور التائبين في خلق فهم دقيق لشخصيات المتطرّفين، ويحفّز بناء نُهجٍ دقيقة لمعالجة الأسباب الكامنة، وتأمين قنوات حوارٍ نفسية وفكرية، كما يتناول تقييمًا للبرامج المتباينة لدى بعض الدول، التي اختلطت، بين تجارب تبنّتها أجهزة ردعية؛ ورسمتها، وأخرى اشتركت فيها مرجعيّات نفسية ودينية، وثالثة دخل فيها التّحفيز والتّرغيب، من حيث العناصر؛ أما من جهة الآماد فانقسمت إلى استراتيجيّة دائمة، وأخرى اتصفت بالوقتيّة، ومتابعة الخطر الراهن، لتحيّيده.
بدأ الكتاب، بدراسةٍ وضّحت الإطار المفاهيمي لممارسات نزع التطرف، لخّصت فيه أبرز استراتيجيات إعادة التأهيل، وعرضت الدروس المستفادة من برامج وممارسات نزع التّطرف، مع التركيز على مسألة المقاتلين الأجانب المُلِحّة، وطرق التّعامل معهم، وقيّمت مبدأ إعادة الإدماج نفسه، وتبيين مخاطر انتكاس التائبين من التّطرف والراديكالية، بناءً على دراسات إحصائية، أكّدت أن العودة إلى التطرف واردة، لكنها مرتبطة بالبرامج نفسها، وارتباطها بالرّكائز النفسيّة والاجتماعيّة، وإدراك العمق المجتمعي، ومساهمة فريق مُتخصّص في إعادة التأهيل الدّيني في عمليّات الإدماج، فنجاح البرامج يبدأ من لحظة الإعداد لها، بجرد الظّروف التي تكون المجتمعات بموجبها مستعدّة لقبول «السابقين»، والجهود المتطلّبة منهم. وزعمت الدّراسة أن المرونة القضائيّة مهمة، لاستيعاب حلٍّ يمكن أن يُحاكي «العدالة الانتقالية» لتلافي التعقيدات القانونية! كما زعمت أن استخدام ألفاظ تنفي الوصمة عن «المتطرف السابق» يسهم في تقبل المجتمع له، لتسكينه في خانة طبيعية، فالاستراتيجيات يجب أن تصمم خصيصًا لاحتياجات المجتمع ووجهات نظره، وقدرته على استيعاب العائدين أو نبذهم.
في أنموذجٍ حديث، لصناعة مشاريع مرتبطة بالمجتمع، ووقايته من معزّزات الراديكالية والتطرف، اختبرت دراسة صناعة الرّواية المضادة لكسر الهُويّة الإعلامية التي ترسخها المنظّمات المتطرّفة، فأخذت مكافحة داعش أنموذجًا، وتفحّصت نماذج في جملة من البلدان، منها: جمهورية ترينيداد وتوباغو (Republic of Trinidad and Tobago). بينما سردت دراسة سيرة (270) منشقًّا وعائدًا وسجينًا، انتموا سابقًا لداعش، فحدّدت المسارات التي اتّبعوها لدخول التنظيم والخروج منه. وبعد ذلك ناقشت استراتيجية ونتائج مشروع الوقاية من التّطرف على الإنترنت، بنشر مقاطع فيديو لرواية مضادّة تظهر أعضاء في داعش، يتحدّثون صراحة ضدّ التنظيم على الفيسبوك ومنصات التواصل الاجتماعي الأخرى.
بحثت دراسة ميدانية في جدوى تعاون التائبين عن التّطرف والإرهاب، والمتراجعين عنه، ودور منظّمات المجتمع المدني، فقيّمت دور مؤسسة «آباء من أجل السلام» (Parents for Peace)، الأهلية، التي انطلقت فكرتها من أُسر متطرفين «سابقين»؛ أرادوا تعزيز الوقاية من التّطرف. بدأت الدّراسة بتقييم فكرة انخراط متورطين سابقين في جهود مكافحة فعلٍ وفكرٍ اعتنقوه سابقًا، ورصدت المحاذير الأوليّة المفترضة، ثم توقفت عند المكاسب الكبيرة، والمصداقيّة التي تكتسبها جهودهم، خصوصًا عند الحوار مع إرهابيين ومتطرفين حاليين مُدانين. على الرّغم من تأكيدها «أن بعض المتطرّفين السّابقين المنخرطين، لم يُظهروا مؤشّرات على الخروج من الراديكالية، على الرغم من ادّعائهم أنهم لا يرون اللجوء إلى العنف أمرًا مبررًا». تميّزت مؤسسة «آباء من أجل السلام» بتقديم تعريف واسع للتّطرف يشمل عناصر تورطت في أيديولوجية يمينية تفوّقية، وأخرى ارتبطت بتنظيم داعش. تعمل المؤسسة مع أجهزة قوى إنفاذ القانون الأميركية، في عدد من السجون منذ عام 2016، وطوّرت بروتوكولات للتّدخل، تشمل السّجن، وفضاء الحياة العامة، وبعض التّصرّفات التي تزيد من فرص، نزع التّطرف عن الأفراد المدانين الراغبين.
أما البرامج الحكوميّة، المباشرة، التي توظف متدرّبين مباشرين، شاركوا في تأهيل الإرهابيين، ومساعدتهم للخروج من التطرف، فتبرز التّجربة الإندونيسيّة في مقدمة المحاولات المميّزة، لذا فصّلت دراسة في صفات المدرّبين المشاركين في هذه البرامج. وخلال تفصيلها، تطرقت إلى تقييم نزع التطرفيّة ذاته، والفرق بينه وبين فكّ الارتباط، من حيث التفريق بين تغيير منظومة الإيمان بالتّطرف، وتغيير السلوك العلني، بالاستجابة للمغريات أو المناصحة، مبيّنة نظريات علم النفس الاجتماعي التّطبيقي، حول تغيير الهوية بسبب فترة الامتثال الذرائعي؛ المدفوع بالثواب والعقاب، والانتباه للتّنافر المعرفي؛ وتحفيز التبرير المنطقي، وصولاً إلى الحوار الداخلي المحفّز لقبول معتقدات جديدة. لذا حرص النموذج الإندونيسي على توفير عُدَّة دينية، تُحفّز التّحول الأيديولوجي. خلصت الدراسة إلى أهمية المراجعة الأيديولوجيّة، واقترحت أن يُقدّم لحوار المتطرفين أشخاص قادرون على إظهار النزاهة، وكسب ثقة الجناة، والتواضع، والاعتدال، والأصالة الدينية، وتقدير الإنسانية، واتساع الحيلة، وفهم اللغة العربية، والنأي عن الدخول في وعود للمتطرفين.
تُسلّط دراسة الضوء على ظاهرة التّطرّف المرتبط بداعش في الهند، مع التركيز على الجهود الاستباقية. فتطرّقت إلى حالة ولاية ماهاراشترا (Maharashtra)، التي بدأت منذ عام 2016، برنامجًا لنزع التّطرف، باتباع نهجٍ مرنٍ يتكون من برامج صغيرة تستهدف الأفراد والمجتمعات، نجحت عبره في إعادة إدماج (114) رجلاً وست نساء. وانتهت الدّراسة إلى تقديم عدد من المقترحات أهمها: الاعتماد على الأصالة التقليدية للإسلام التقليدي الهندي، لمواجهة النّزعات التّطرّفية الوافدة، المرتبطة بالتوظيف السّياسي.
في الدول العربية، يبرز الأنموذج المصري في نزع التّطرف، فتناولته دراسة تَتَبّعت فيه مراجعات الجماعة الإسلامية وبرامج مواجهة تطرف جماعة الإخوان وداعش، وركّزت على التحولات في الاستراتيجية المصرية في مكافحة الإرهاب، وظروفها. قيّمت الدراسة حالة المراجعات الإسلامويّة وجديّتها، ونجاحها الإجرائي، وحاولت الإجابة عن الأسئلة التي أبرزتها عودة تائبين إلى العنف بعد ثورة 30 يونيو (حزيران)، التي أسقطت حكم جماعة الإخوان. نَبّهت الدّراسة إلى أنّ تجربة المراجعات نبعت من أهمية تفكيك الأفكار المغلوطة المفخخة التي ترسّخت لدى الإرهابيين حول قضايا العنف والتكفير، في التسعينيات من القرن المنصرم، بيد أن المبادرات الجديدة مرتبطة بتحديات أمنيّة وضرورات عملياتيّة، تأثرت المرحلة الأولى منها بتجربة المناصحة الدّينيّة التي تقودها التّجربة السّعوديّة، فانبرى رجال الدين المصريون في تعرية الأفكار؛ أما المرحلة الثانية فهي التقييمات الأمنيّة، أما المرحلة الثالثة فتستجيب للتقييم النفسي الذي يفرضه الأطباء النّفسيون. نبّهت الدّارسة إلى أن البرنامج المصري لنزع التّطرف، قيد التّشكل، وسيكون في داخله مبادرات فرديّة وجماعيّة متنوّعة، تمثّل أرضيّةً مفيدةً للتجارب العربية الرسمية والأهلية.
مثّلت ظاهرة العائدين من داعش مسألةً جوهريةً في تونس، لذا قيّمت دراسة جاهزيّة مؤسسات الدّولة المتمثّلة في اللّجنة الوطنيّة لمكافحة الإرهاب، والمؤسّسات الأمنيّة والقضائيّة، بالإضافة إلى وزارة الشؤون الدّينيّة، وعرضت «مبادرة تواصل» للحماية والوقاية من التّطرف في السّجون، كما ركّزت على التعامل مع الوضعيّات الخاصّة، للأطفال واليافعين، خصوصًا المحتجزين إلى الآن في مخيمي الهول والروج شمال شرق سوريا. اقترحت الدّراسة فهم تنوّع الأدوار والدّوافع المختلفة في مجموعة العائدين (المحتملة) من بؤر التّوتر باعتبارها شرطًا أساسيًا لتقدير التّحدّيات والمخاطر التي قد يمثّلونها.
مثَّل برنامج «مصالحة» المغربي، أحد أهم البرامج المختصّة في نزع الّتطرف على المستوى الأفريقي، لذا شرحت دراسة السّياقات والعوامل التي دفعت إلى تبنّيه؛ خصوصًا تدبير ظاهرة العائدين من مناطق الصراع في سوريا والعراق. وبوصف البرنامج امتداداً لفك الارتباط الأمني داخل السجون، تعمل فيه مجموعة من المؤسسات، تشترك فيه الرابطة المحمدية للعلماء، ومؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء، وغيرهما. تحلَّل الدراسة محاور وتقنيات الاشتغال من خلال شروط الإفادة والفاعلين والموارد المرصودة، وتقيِّم البرنامج ونتائج إعادة إدماج المُستفيدين، الذين تصنّفهم اجتماعيًا ومهنيًا وتعليميًا. لاحظت الدّراسة أنّ (1531) متطرفًا، لم يكن من بينهم سوى أربعة أئمة! لتؤكد أنّ الثّقافة الدّينية الوافدة؛ أقوى من المكتسبة تقليديًا. تتأسس الدّراسة منهجيًا على توظيف البيانات والمُعطيات الإحصائيّة الرسميّة، فترصد أعداد المُستفيدين من البرامج والحاصلين على العفو الملكي في المغرب ومُعدلات الارتداد والنكوص. كما تُناقش التقارير السّنوية الصادرة عن المندوبيّة العامّة لإدارة السّجون والبرلمان، وكذلك البلاغات والمصادر المفتوحة والقوانين.
احتوى الكتاب على شهادة كتبها أحد أبرز المؤثّرين سابقًا في صناعة مشهد «التّطرف» في المغرب والسّجون المغربيّة، قبل أن يُعلن تراجعه، ويخرج من السّجن. قدّم فيها تقييمًا للمراجعات الفرديّة والجماعية الأخرى.
تلقي دراسة ميدانيّة الضوء على فرضيّة تأثير النّظام الأبوي في النساء ودفعهن للتّطرف، وذلك عبر إجراء مقابلات واستبيانات للمدانين مع التّركيز على النساء، في سجني روميّة وبربر الخازن في لبنان. قسّمت الدّراسة النساء إلى ثلاث مجموعات: الدّاعمات بشكل كامل للأفكار والمعتقدات التّطرّفيّة؛ والدّاعمات للمتطرّفين بسبب الرّوابط العائلية دون دعم للأفكار؛ وضحايا المجاميع التّطرّفيّة. نقضت الدّراسة حصر دوافع التّطرف في الفقر والتّدين، وذكرت نماذج لنجاح تجارب إعادة التّأهيل، والآليات التي اتّبعتها لتحقيق هذه النّتائج الإيجابيّة مع تقديم مقترحات.
وفي الحالة اليمنيّة تطرّقت دراسة إلى التّحدّيات التي تحول دون التّنفيذ الأمثل لعملية إدماج الجماعات المسلحة في اليمن بعد الصراع؛ مستشهدة بالحالة الكولومبية والبنود والآليات الواضحة التي وردت في اتّفاقية السّلام، التي أنهت خمسين عامًا من الصّراع، مقابل خلو بعض اتفاقيات السّلام اليمنيّة السّبع منها، وعدم وجود رؤية وقدرة لتنفيذها في الاتّفاقيات التي ذكرت في دراستها، عبر قراءة لهذه الاتّفاقيات منذ اتفاقية الوحدة عام 1990، وصولاً لإعلان نقل السّلطة في أبريل (نيسان) 2022، وأخيراً التّحدّيات التي تواجهها عمليّة إدماج الجماعات المسلّحة في اليمن.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب والعاملين على خروجه للنور، ويخصّ بالتّقدير الزّميلة مها غازي، التي عملت على تنسيق العدد، والشّكر موصول لزملائها الباحثين، ونأمل أن يسدّ هذا الكتاب، ثغرةً في المكتبة العربيّة.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
أغسطس (آب) 2022