تعد التعددية الإثنية إحدى أهم سمات الدولة الأفريقية، وتتعدد مظاهر ذلك التنوع سواء على المستوى القبائلي، الديني، وأيضا اللغوي، فالقارة الأفريقية تحتوي على (33%) من إجمالي لغات العالم[1]، كما تتنوع الأديان بين السماوية والتقليدية، إلا أن فشل النظام السياسي في إدارة وضبط هذا التنوع بما يتوافق مع خدمة المصالح الوطنية، أدى لتحوله إلى مهدد لتماسك واستقرار بنية الدولة، ليصبح هناك تلازم بين ثنائيتي الصدام القبلي والدولة الأفريقية.
أولا: جذور الصدامات القبلية وأسباب تفاقمها
ترجع جذور الصدام القبلي في أفريقيا لفترة الاستعمار الذي كان له دور رئيس في نثر بذور القبلية بعد أن شكل دولاً دون مراعاة للتركيبة العرقية، وذلك وفقًا لمخرجات مؤتمر برلين (1884 – 1885) الذي عمل على تشتيت كل قبيلة في دول مختلفة، حرصًا على أن تتألف الدول الأفريقية المحررة من قبائل مختلفة ذات عداء تاريخي ممتد[2]، وبالتوازي مع ذلك سلم الاستعمار السلطة للقبائل ذات الأقلية، مما ساهم في تأجيج الصراع الداخلي على السلطة؛ اعتراضًا على الإجحاف بحق القبائل الكبرى في المشاركة بالحكم، وبرغم أن غالبية الصدامات القبلية تقترن بخلافات سياسية، فإن الاختلافات الدينية كانت أيضا سببًا في العديد من الصراعات كما حدث في أزمة بيافرا بنيجيريا عام 1960، الأمر الذي يلقي بتداعياته على أمن واستقرار الدول[3].
خريطة توضح توزيع القبائل في قارة أفريقيا
المصدر: موقع معرفة، https://cutt.us/GTAfI
مما سبق يمكن إبراز أسباب تفاقم حدة الصراع الإثني في الدول الأفريقية على النحو التالي:
- سلطوية النظام الحاكم: تتسم الأنظمة الحاكمة في غالبية الدول الأفريقية بالسلطوية والاستبدادية، وفي الوقت ذاته يقوم الحاكم بخدمة مصالح القبيلة التي ينتمي إليها دون النظر لغيرها، الأمر الذي يؤدي لإشعال مشاعر الغضب إزاء السلطة الحاكمة، من ثم تبدأ المواجهات الدامية بين الأنصار والمعارضين، فكل منهما يسعى إما للحفاظ على مكتسبات قبيلته، أو السعي لتحقيق المساواة والحصول على حقوق مناظرة لما اكتسبته القبيلة الحاكمة، وتصبح الدولة حينذاك أمام سيناريوهين: فإما إراقة دماء الكثير من المعارضين بجانب عدد كبير من الاعتقالات السياسية، أو إزاحة النظام الحاكم سواء بتمرد أو انقلاب أو اغتيال سياسي، وفي كلتا الحالتين تمضي الدولة في دائرة مغلقة من الصراع القبلي؛ نتيجة عدم وجود إطار قانوني ودستوري يحقق المساواة بين كافة مكونات الدولة.
- المركزية وتهميش الأقاليم الحدودية: تحظى العاصمة والأقاليم المركزية باهتمام كبير من حيث تفعيل الخطط التنموية، والاهتمام بالقطاعات التعليمية، والصحية، وكذلك توافر فرص العمل، وفي المقابل تعاني الأقاليم الحدودية من تهميش بالغ في مختلف القطاعات، الأمر الذي أدى لاتساع الفجوة بين أقاليم المركز والحدود، لذا أصبح هناك حالة من الاستياء العام، والغضب الشعبي إزاء النظام الحاكم والقبائل المنوط بها الممارسة السياسية، وبرغم اتجاه بعض الدول الأفريقية لاستيراد تجارب تنموية تستهدف إحداث الدمج المجتمعي، فإن القائمين على تنفيذ تلك التجارب تبنوا السياسات الاستعمارية نفسها القائمة على العنف والإكراه والتمييز، لينتهي الأمر بفشل تجارب الدمج المستوردة وارتفاع معدلات العنف الناجمة عن الصدامات القبلية.
- حظر المشاركة السياسية وانتشار الفساد: سعت الأنظمة الحاكمة إلى ترسيخ جذورها في السلطة عبر فرض سياسة الحزب الحاكم الواحد، مما أطاح بأحقية الفصائل الأخرى في المشاركة السياسية كالمعارضة ومنظمات المجتمع المدني والنقابات العمالية[4]، الأمر الذي أدى لتآكل شرعية تلك الأنظمة بفعل ممارسات العنف والقمع وحظر تمثيل مكونات المجتمع سياسيًا. بالتوازي صار الفساد السمة الرئيسة لمؤسسات الدولة المختلفة، مما ألقى بتداعياته على القطاع الاقتصادي، لتعجز الدول عن توفير الاحتياجات الأساسية لمواطنيها، فتتصاعد المطالب الشعبية المنادية بإزاحة النظام الحاكم نتيجة لاستشراء الفساد.
- الخلط المؤسسي: عبر إعطاء السلطة التنفيذية وعلى رأسها الحاكم أهمية كبرى، وترسيخ مبدأ “اتفاق رأي الحاكم” أي عدم أحقية الاعتراض على القرارات السياسية التي تتخذها السلطة التنفيذية، الأمر الذي يؤدي إلى حالة من الخلط المؤسسي بغية إضعاف المؤسسات التشريعية والقضائية وعدم قيامها بوظائفها الدستورية، لتصبح السلطة التنفيذية وعلى رأسها الحاكم المنوط بها التشريع والتنفيذ ومحاسبة المعارضين له[5].
- اختفاء مظاهر الديمقراطية: حيث إن التغييرات السياسية التي تشهدها الدول الأفريقية لا تتم بشكل ديمقراطي، لكن دائما ما تحدث بعد أعمال عنف سواء انقلاب أو اغتيال أو حرب أهلية، مما يعزز بدوره من موجة الصدامات القبلية داخل الدولة بغية التغيير المؤسسي.
وهناك أنماط عدة للصراع الإثني نذكر أبرزها كالتالي:
- الصراع الإثني التقليدي: تنتهج القبائل هذا النمط من الصراع باعتباره صورة من صور التمرد على النظام الحاكم في محاولة منهم لإحداث تغيير، والضغط على السلطات لتحقيق المساواة العادلة فيما يتعلق بحق المشاركة السياسية في الحكم، وعدم اقتصارها على قبيلة دون أخرى، وكذلك المساواة في توزيع الثروات، لا سيما إذا كانت القبيلة الحاكمة تشكل أقلية، وتختزل موارد الدولة لصالحها دون غيرها كما حدث في رواندا وكوت ديفوار وأنجولا وبوروندي، ومع ذلك فإن هذا النمط من الصراع لم يحقق المرجو منه في كثير من الأحيان، بل ساهم في مزيد العنف وازدياد حدة المواجهات الدموية[6].
- الصراع الإثني الخاضع للمصلحة: ظهر هذا النمط بفعل العولمة، ويتم خلاله تأجيج الخلافات وتعزيز الصدامات بين القبائل المختلفة بواسطة نخب محلية وإقليمية، مقابل الحصول على مكتسبات مادية وجني أرباح خيالية على خلفية أعمال النهب والسرقة للموارد، كالماس والعاج، نتيجة للانفلات الأمني الذي تشهده البلاد، وانشغال الأجهزة الأمنية في مواجهة المحتجين، كما يحدث في إقليم شرق الكونغو الديمقراطية، حيث كشفت تقارير استخباراتية عن اتفاق بين نخب سياسية وتنظيم داعش المتمركز بالإقليم الشرقي، يفي بقيام داعش باستقطاب مواطني الإقليم، وتأجيج مشاعر الغضب ضد النظام السياسي، ودفعهم لمواجهات مع الأجهزة الأمنية، مقابل تسهيل النخب مهمة استنزاف داعش للموارد الطبيعية وبيعها، وحصول هؤلاء على حصتهم من الأرباح، ويعد هذا النمط الأكثر شيوعًا.
ثانيا: التنظيمات الإرهابية واستغلال التصدع القبلي
تشهد الدول الأفريقية، وتحديدًا منطقة الساحل والصحراء، مشهدًا أمنيًا بالغ التعقيد، فوفقًا لتقرير مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2021 يعتبر إقليم الساحل والصحراء ضمن أكثر المناطق عنفًا في العالم، حيث شكلت الوفيات بالإقليم نسبة (35%) من إجمالي حالات الوفاة الناجمة عن العمليات الإرهابية في العالم، الأمر الذي يعكس ترديًا بالغًا للأوضاع الأمنية[7].
ويمكن الجزم بأن المحفز الرئيس وراء توغل التنظيمات الإرهابية وانتشارها بضراوة داخل الدول الأفريقية، منبثق بالأساس من حالة التشظي القبلي، الذي هيأ المناخ لتحول تلك الدول إلى بيئات حاضنة للإرهاب، فالصراع على الموارد الطبيعية وتصاعد المواجهات بين القبائل المختلفة، يرجع بالأساس لحرمان ممنهج لبعض القبائل من الحصول على حصتهم من الموارد، وأيضا حرمانهم من المشاركة السياسية، وأن يصبح لهم دور على الصعيد المالي والاقتصادي، كما يلعب البعد الديني دورًا أيضا في الصدامات القبلية؛ فعلى سبيل المثال أدت المواجهات الدامية بين الرعاة ذوي الغالبية المسلمة والمزارعين ذوي الغالبية المسيحية في منطقة الحزام الأوسط بنيجيريا، إلى تحولها عام 2018 لمركز للصراع.
ومما يعزز من دموية تلك الصراعات؛ حالة الانفلات الأمني التي تواجهها البلاد، الناتجة عن سيولة انتشار الأسلحة الخفيفة، فوفقًا لتقارير صادرة عن جهات أمنية كينية يوجد ما يزيد عن (600) ألف قطعة سلاح غير مرخص بالبلاد، الأمر الذي عزز من انتشار العنف المسلح، مما أدى إلى عجز المؤسسات الأمنية عن احتواء الأوضاع، لذا نجد تكراراً لسيناريوهات الانقلابات العسكرية، كما حدث في دول كغانا ونيجيريا وأفريقيا الوسطى ومالي، فالنزاعات المحلية والصدامات القبلية تزداد بشكل واضح في ظل وجود حكومات مركزية هشة، غير قادرة على صهر مكونات المجتمع، ناهيك عن ضعف المؤسسات وانعدام عدالة التوزيع، الأمر الذي يؤدي لتطور المنافسة على الموارد، وتحولها لصراعات وصولًا لحروب أهلية دامية[8].
كل ما سبق كان بمثابة عوامل ناجعة هيأت إقليم الساحل والصحراء لتحوله إلى بيئة خصبة محتضنة لأشرس التنظيمات الإرهابية، مستغلة تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب ضعف الدول وهشاشة الأنظمة السياسية، فعلى سبيل المثال نجح تنظيم داعش في موزمبيق وكينيا والكونغو الديمقراطية في استقطاب قوى محلية وإقناعهم بمبايعته، مما منحه طابعًا محليًا ساهم في انجذاب آلاف من المهمشين لصفوفه، وكذلك حركة شباب المجاهدين التي نجحت في استغلال الأقاليم الحدودية الصومالية الكينية المهمشة، ونجحت في استقطاب مواطنيها وتحويلها لمعسكرات للتدريب.
من جهة أخرى، عزز الانسحاب الغربي والأميركي التدريجي من ترسيخ جذور التنظيمات الإرهابية، التي عمدت نحو استغلال الفراغ الغربي وتعزيز هجماتها الإرهابية. لذا يمكن إجمال كيفية استغلال التنظيمات الإرهابية لأوضاع الدول الأفريقية المضنية لتعزيز وجودها، وذلك على النحو التالي:
- استغلال انعدام المساواة: من حيث التوزيع الأمثل للموارد والمنعكس في خطط التنمية التي اقتصرت على الأقاليم المركزية دون غيرها، وكذلك محدودية فرص العمل التي تم ادخارها لأفراد القبيلة المهيمنة سياسيًا، ناهيك عن العجز عن توفير الاحتياجات الأساسية البسيطة. من جهة أخرى هناك انعدام للمساواة على المستوى الإنساني، من حيث توفير السكن والمستشفيات، وأيضا انعدام للمساواة الثقافية فيما يتعلق بإتاحة التعليم لكافة المواطنين، وأخيرًا انعدام للمساواة السياسية من حيث إتاحة الفرصة لمشاركة كافة الفصائل السياسية، لذا تصبح التنظيمات الإرهابية بما تقدمه من مغريات، الملاذ الآمن للفصائل المحلية المعارضة، حيث تنجح التنظيمات في استقطابها عبر استغلال مظلوميتهم، واستغلال الفراغ الحكومي وضمهم لصفوف التنظيم.
- خطاب دعائي مرن: تحرص التنظيمات الإرهابية على صوغ خطاب دعائي يتماشى مع طبيعة الهدف الذي يرغبون في استقطابه، فعلى سبيل المثال تبنت بوكو حرام خطابًا دينيًا متمردًا على الثقافة الغربية وعلى الوجود الفرنسي، مما ساهم في جذب عدد كبير من الأنصار المسلمين، وأثار الفتنة الدينية بين مكونات المجتمع النيجيري، والتي كانت أبرز تداعياتها تحول منطقة الحزام الأوسط بنيجيريا عام 2018 إلى مركز للصراع، على خلفية الصدامات بين رعاة مسلمين ومزارعين مسيحيين. وفي مالي حرص داعش على أن يكون خطابه منصبًا على الظلم والفقر الذي تسبب به النظام الحاكم، والدعوة للانضمام إليه بغية الخلاص من الفقر المدقع، وترغيب المواطنين بتوفير وتسهيل سبل الحياة الهنيئة، والتعامل مع التنظيم باعتباره البديل الأمثل للدولة.
- فساد النخب: يعتبر فساد النخب بغالبية الدول الأفريقية ضمن الوسائل التي استغلتها التنظيمات الإرهابية لترسيخ وجودها، فبعض النخب السياسية اتجهت نحو توظيف التصدع المجتمعي لصالحها، فحالة الانفلات الأمني الناجمة عن الصدام القبلي تدفعهم للتنسيق مع بعض التنظيمات الإرهابية، عن طريق نثر بذور الصراع بين القبائل، وتعزيز توتر الأجواء الأمنية وانشغال الأجهزة الشرطية، لتنفيذ عمليات نهب وسرقة للموارد، مقابل الحصول على أرباح جراء بيع تلك المسروقات.
- هشاشة الأمن الحدودي: تتسم الحدود بين الدول الأفريقية بالهشاشة والضعف، الأمر الذي جعل منها مرتعًا للتنظيمات الإرهابية من جهة، وممراً للتغلغل داخل الدول من جهة أخرى؛ فعلى سبيل المثال أدى ضعف الأمن الحدودي بين الصومال وكينيا إلى اختراق عناصر من حركة شباب المجاهدين الحدود الكينية، ليعلن التنظيم مسؤوليته عن تنفيذ العديد من العمليات الإرهابية، وبالرغم من الإجراءات الاحترازية والتنسيق الأمني الكيني مع دول الجوار، إلى جانب استيراد تجارب أمنية غربية لمواجهة التنظيمات الإرهابية، فإن ذلك لم يكن كافيا لردع الإرهاب، وعزز من تفاقم الأوضاع حالة التصدع القبلي المستمرة التي أدت لظهور جماعات انفصالية، كمجلس ممباسا الجمهوري الذي طالب بانفصال إقليم الساحل ذي الأغلبية المسلمة. من جهة أخرى أدت هشاشة الأمن الحدودي إلى سهولة اختراق الدول الواقعة حول حوض بحيرة تشاد، من قبل مجموعات إرهابية كداعش وبوكو حرام ونصرة الإسلام[9].
ثالثا: تداعيات التشرذم وآليات المواجهة
تعتبر الصراعات القبلية والتنظيمات الإرهابية المصدرين الرئيسين للتهديدات الأمنية داخل الدول الأفريقية، وأسبابًا رئيسة وراء ما تكبدته القارة من خسائر بشرية ومادية، نظرًا لتداعياتهما الخطيرة التي يمكن إبرازها على النحو التالي:
- ارتفاع معدلات الخسائر البشرية: شهدت الدول الأفريقية تزايدًا ملحوظًا في أعداد الوفيات، فوفقًا لتقرير مؤشر الإرهاب العالمي تبلغ الوفيات بمنطقة الساحل والصحراء (35%) من إجمالي الوفيات الناتجة عن عمليات إرهابية في العالم خلال عام 2021، مقارنة بـ(1%) خلال عام 2007، لتشهد بذلك العمليات الإرهابية زيادة بمعدل عشرة أضعاف خلال الفترة من (2007 – 2021)، فيما تصدرت بوركينا فاسو ومالي والنيجر قائمة الدول الأعلى في معدلات الوفاة الناجمة عن العمليات الإرهابية والصراعات الداخلية خلال العام ذاته، ووفقًا للتقرير شهدت أعداد الضحايا والوفيات زيادة بنسبة (100%) خلال عام 2021 مقارنة بـ(20) حالة عام 2007، أي (من 20 – 2000) كما سجلت مالي أعلى نسبة لإجمالي عدد الهجمات الإرهابية بزيادة قدرها (56%)[10].
المصدر: تقرير مؤشر الإرهاب العالمي
- تصاعد معدلات اللجوء والنزوح: أدت الصراعات القبلية وتصاعد الهجمات الإرهابية إلى ارتفاع أعداد اللاجئين والنازحين بدول القارة، حيث قدرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أعداد اللاجئين بإقليم الساحل والصحراء خلال عام 2020 بنحو (4.5) ملايين لاجئ بزيادة قدرها (3%) عن عام 2019 الذي بلغت فيه الأعداد (4.377) ملايين لاجئ، ليضم بذلك الإقليم قرابة (20%) من إجمالي عدد اللاجئين بالعالم، بينما تستضيف ثلاث دول إجمالي ثلثي عدد لاجئي الإقليم، وهي: أوغندا والسودان وإثيوبيا، ووفقا للمفوضية ارتفع عدد اللاجئين بمنطقة غرب ووسط القارة خلال عام 2020 بأكثر من (12%)[11].
- تغذية مشاعر الغضب إزاء الحكام: تُحول الصراعات القبلية الدول إلى بيئات حاضنة للتنظيمات الإرهابية، التي تنجح في ترسيخ جذورها واستقطاب المواطنين لصفوفها عبر توفير سبل الحياة الأساسية، وإشعال مشاعر الغضب بين القبائل إزاء الأنظمة الحاكمة، الأمر الذي يؤدي لإحراج الحكومات وتصاعد اللامصداقية من قبل المواطنين تجاه حكوماتهم، ليتهدد بذلك السلم المجتمعي، وتمضي الأجهزة الأمنية في دائرة مغلقة بين مواجهات محلية بين القبائل المختلفة من جهة، ومواجهة العمليات التي تشنها التنظيمات الإرهابية من جهة أخرى.
- خسائر على المستوى الاقتصادي: فوفقًا لمؤشر الإرهاب العالمي تعرضت الدول الأفريقية لأزمات اقتصادية بالغة الخطورة منذ عام 2020، نتيجة لتداعيات انتشار وباء كورونا، إلى جانب استمرار الصراعات الداخلية بالتزامن مع توالي الهجمات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى تكبد الدول خسائر تجاوزت (13) مليار دولار، ناهيك عن توجيه الدول نسبة كبيرة من موازنتها لقطاعات الأمن والدفاع والصحة لمواجهة التهديدات المستمرة[12]، مما أثر على قدرة القطاع الاقتصادي وقلص معدلات التنمية لأدنى حد، الأمر الذي ساهم في تغذية مشاعر الغضب والتمرد إزاء الأنظمة الحاكمة. يستدل على ذلك من الاحتجاجات التي نشبت في مالي يونيو (حزيران) الماضي ضد السلطة العسكرية احتجاجًا على عجز القائمين على الحكم عن تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين.
مما سبق نصبح بصدد تساؤل حول آليات الخروج من المأزق، فالأوضاع الأمنية الأفريقية تتسم بالتشابك والتعقيد؛ نظرًا لتعدد الجهات الفاعلة المؤثرة على المشهد العام، لذا فإن إجراء أي إصلاحات داخل المنظومة الأمنية لا بد وأن يتم بموجب مستويين رئيسين:
فداخليًا؛ نجد أنه لا ينبغي أن تظل المقاربة الأمنية مقتصرة على جانب المواجهة الأمنية فقط، لكن لا بد أن تجمع أبعاداً عدة، أبرزها التنموية والاجتماعية والثقافية، لا سيما وأن تجاهل تلك الأبعاد يعد المحفز الرئيس للصدام المجتمعي، فعلى صعيد الإصلاح الأمني لا بد من إحداث تغيير هيكلي في سلوك وبنية المؤسسات الأمنية، بحيث يتم تعزيز المهنية وإخضاعها للرقابة القضائية، والعمل على احترام حقوق الإنسان، وحرية التعبير عن الرأي في ظل سياق قانوني ودستوري، وكذلك ترسيخ مبدأ حماية الوطن لا القبيلة، في محاولة لإعادة ثقة المواطنين تدريجيًا في مؤسسات الدولة، من أجل تهدئة حدة الصراع والانتقال لمرحلة الاستقرار بشكل مرحلي، فالإصلاح الأمني من شأنه تحفيز مُضي الدولة نحو الانتقال من الحكم الاستبدادي إلى الحكم الديمقراطي الرشيد.
وبالتوازي مع الإصلاح الأمني لا بد من القيام بإصلاح اقتصادي وتنموي؛ فالإصلاح الأمني لا يكفي وحده لإعادة الاستقرار، لكن لا بد من ضمان قدرة الدولة على تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين، والقضاء على أي ثغرة يمكن استغلالها من قبل التنظيمات الإرهابية للنخر في مفاصل الدولة الأفريقية، من جهة أخرى ينبغي وضع خطط تنموية شاملة، بحيث لا تقتصر على أقاليم دون غيرها، إلى جانب تحقيق التوزيع العادل للفرص، والعمل على استغلال رأس المال البشري.
وإقليميًا؛ نجد أنه برغم بذل الاتحاد الأفريقي جهوداً مضنية لمكافحة الإرهاب، فإن تلك الجهود لم تحقق الهدف المرجو، نتيجة لوجود عدة معرقلات قانونية ومؤسسية، أدت إلى ضعف التنسيق بين الدول الأعضاء، وتراجع التزام الدول غير المتضررة من آثار الهجمات الإرهابية، إلى جانب تفضيل التدابير المحلية على حساب الالتفاف حول تدابير جماعية وقائية. من جهة أخرى فإن تعدد المبادرات المطروحة من قبل فواعل إقليمية ودولية، يعتبر ضمن عقبات جهود المكافحة نظرًا لتصادم المصالح الدولية، لذا صار لزامًا على الاتحاد الأفريقي وضع أطر قانونية ودستورية ملزمة للدول الأعضاء، من حيث استيفاء كل عضو دفع حصته بالاتحاد.
من جهة أخرى، لا بد أن يتبنى الاتحاد توثيق العلاقات السياسية والدبلوماسية بين دول القارة، وطرح الخلافات الممتدة جانبًا لحين الانتهاء من توغل التنظيمات الجهادية، ولا بد من تفعيل أداة لجنة “سيسا” المنبثقة عن مجلس السلم والأمن الأفريقي، المعنية بتسهيل تبادل المعلومات بين أجهزة المخابرات. من جهة أخرى لا بد من تولي بعض دول القارة دورًا قياديًا كمصر في الشمال وجنوب أفريقيا جنوبًا؛ نظرًا لما تمتلكه الدولتان من ثقل سياسي واقتصادي وخبرة في مواجهة التنظيمات الإرهابية.
مجمل القول: لا يمكن حل المعضلة الأمنية أفريقيًا إلا إذا تم ضبط التعددية العرقية وتأطيرها بشكل قانوني ودستوري، لتتحول إلى أداة للسلم المجتمعي لا العكس، ولن نحظى بهذا المستوى إلا في ظل مؤسسات ديمقراطية تؤمن بثقافة الاعتراف بالتمايز العرقي والثقافي والديني، وتعتنق مبدأ المواطنة والانتماء القومي بعيدًا عن الانتماء القبلي والإثني.
[1]– Why does Africa have so many languages? ,The Christian science Monitor, 21/4/2015, available at: https://cutt.us/BJTl8
[2]– Elizabeth Schmidt ,CONFLICT IN AFRICA: The Historical Roots of Current Problems, Historians, 26/7/2016, available at: https://cutt.us/QSQY5
[3]– Adaobi Tricia Nwaubani ,Remembering Nigeria’s Biafra war that many prefer to forget,BBC,15/1/2020, available at: https://cutt.us/JZzWv
[4]– Margaret Monyani, One Party State: Is It Good or Bad for Governance?, E-International Relations, 25/5/2018, available at: https://cutt.us/S22ge
[5]– عبدالكريم هشام، تأثير التعددية الإثنية وأزمات الهوية على الاستقرار السياسي في أفريقيا، مجلة قضايا معرفية، مجلد2، عدد يونيو (حزيران) 2022، متاح على: https://cutt.us/4NVXl
[6]– د. حمدي عبدالرحمن، الصراعات العرقية والسياسية في أفريقيا… الأسباب والأنماط وآفاق المستقبل، مجلة قراءات أفريقية، العدد الأول، أكتوبر (تشرين الأول) 2004، متاح على: https://cutt.us/9zuPn
[7]– global terrorism index, available at: https://reliefweb.int/report/world/global-terrorism-index-2022
[8]– نهال أحمد السيد، الصدامات القبلية وتأثيرها على مكافحة الإرهاب في كينيا، مركز المسبار للبحوث والدراسات، 16 أغسطس (آب) 2022، متاح على: https://cutt.us/YDqSZ
[9]– المرجع السابق.
[10]– Global Terrorism Index 2022, https://cutt.us/mEQGK
[11]– د. أيمن زهري، تداعيات الصراعات والنزاعات المسلحة في أفريقيا على زيادة أعداد اللاجئين والنازحين، موقع مجلس الوزراء المصري ـ مركز دعم واتخاذ القرار، 14 سبتمبر (أيلول) 2021، متاح على: https://cutt.us/KujD6
[12]– أزمة الإرهـاب في أفريقيـا.. خطر متزايد، مركز دعم واتخاذ القرار المصري، 12 مايو (أيار) 2022، متاح على: https://cutt.us/QjfGT