تقديم
يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «الإسلام في الجامعات الأوروبية: المساقات – الفرص – الثغرات» (الكتاب الثاني والتسعون بعد المئة، ديسمبر (كانون الأول) 2022) تدريس الإسلام في عدد من الجامعات الأوروبية والأميركية، فيركز على برامج تدريسه في جامعات ألمانيا والنمسا والدنمارك والسويد والنرويج وبلجيكا وبريطانيا وفرنسا والأميركتين.
يهدف الكتاب إلى بناء قاعدة معرفية حول الدراسات الإسلامية المعاصرة وبناء مناهجها في الأكاديميات والمعاهد الأوروبية والأميركية، ويضيء على مسارات وبرامج تدريس الإسلام ومساقات التعايش والتفاهم والأديان المقارنة، والتحديات التي تواجهها، والنقاشات الدائرة حولها، وتأثير الدوافع والأهداف في خلق الاختلافات المنهجية والمخرجات التربوية المتباينة.
تكاثرت فرضيات التأريخ لولادة الدراسات الإسلامية في المجالين الأوروبي والأميركي، واستعجل أغلبها تعميم نظريات مثل «موت الاستشراق» الذي استمر لمدة قرنين وانقضى في السبعينيات من القرن العشرين، مما أدى إلى استقلال الدراسات الإسلامية؛ وهي نظريّة لا تفارق «نظريات التفسير السياسي» التي ربطتها بتفاقم ظاهرة العنف الديني، وإرهاب ما بعد ثورة الخميني 1979، والتحولات في السياسة الدولية بعد هجمات 2001 الإرهابية، مما ساهم في ولادة مسارات بناء خطاب الإسلام المحلي المتعايش مع قيم مجتمعه وحدوده الوطنية؛ والذي يؤهّل منهجه الأئمة الأوروبيين والأميركيين لحماية الأمن الروحي لمسلمي بلادهم. وكلها نظريّات وجيهة، ولكنّ تعميمها يحتاج إلى نظر. لذا اختار الكتاب دراسة كل سياق على حدة، متتبعًا مساراته، ومساقات جامعاته، وتحقيبه التاريخي، مع استحضار شهاداتٍ لأبرز الباحثين المؤثرين في خلق هذه السياقات.
فشرحت الدراسة الأولى التجربة الألمانية في تدريس الإسلام ومناهجه، وتاريخه في أربع جامعات رئيسة: «جامعة توبنغن» (University of Tübingen)، و«جامعة مونستر» (University of Münster)، و«جامعة أوسنابروك» (Osnabrück University)، و«جامعة غوته-فرانكفورت» (Goethe University Frankfurt). ظهرت الدراسات الإسلامية في هذه الجامعات ضمن مساقات، وضعت في كليات العلوم الدينية اللاهوتية المسيحية، أو أقسام اللغات الساميّة، وتوافق التحوّل فيها مع نهاية السبعينيات وفي الثمانينيات على مراحل، ترافقت الأولى في منح إذن تدريس الدين مع اشتراط الاعتراف المسبق من السلطة بالجمعية الفيدرالية صاحبة طلب التدريس؛ وكانت المنح بالأمر الواقع؛ أما المرحلة الثانية فبعد عام 2000، إذ أصبح التدريس يُهتم به على الصعيد الاتحادي، وبدأت المرحلة الثالثة بعد تأسيس المؤتمر الإسلامي عام 2006، وانفتح على إثره معهد لدراسات الفقه الإسلامي في الجامعات العمومية عام 2011، حين برزت الحاجة لإسلام ألماني متحرر من النفوذ والتمويل الخارجي. وكانت أغلب المساقات، غارقة في ما سُمي باللاهوت الإسلامي (Islamic Theology/ Islamische Theologie) الذي على تشابه مسماه مع «اللاهوت المسيحي»، إلا أنّ تدقيق تعريبه، يظهر مزيجًا من علم الكلام والفقه الإسلاميين اللذين تكثف ظهورهما في إطار محاولة مواجهة التطرف والأفكار المنحرفة. تتبعت الدراسة المساقات بالشرح، وتوصيف المواد الدراسية، والأطر المنهجية والمراجع الأساسية لها.
أما في النمسا التي رصدتها الباحثة النمساوية تمارا نيللي فرويدنشوب (Tamara Nili–Freudenschuß)، فتميّزت بتجربةٍ تاريخيّة سياسية صنعت خصوصيتها؛ إذ بدأت الدراسة بالجذور منذ ضم البوسنة والهرسك إلى «الإمبراطورية النمساوية- المجرية»، فصدرت قوانين الاعتراف بالإسلام ديانة للمواطنين منذ عام 1912. رصدت الباحثة تطور التعليم الديني للمسلمين في النمسا؛ إذ تمكَّن الطلبة المسلمون من تعلّم أصول الإسلام منذ عام 1982 في المؤسسات النمساوية الممولة من الدولة، وأنشئ لاحقًا مركز التدريب على التعليم الإسلامي، وأسست عام 1998 الأكاديمية التربوية الدينية الإسلامية، وأُقيم معهد التعليم الديني الإسلامي في فيينا بالتعاون مع أساتذة منتدبين من جامعة الأزهر. تناولت الدراسة برنامجًا للدراسات الجامعية في اللاهوت الإسلامي في جامعة إنسبروك (University of Innsbruck)، وبرنامج الماجستير في معهد اللاهوت الإسلامي والتعليم الديني، وبرنامجًا تدريبيًا في «جامعة فيينا» (University of Vienna) أُرسي في كلية الفلسفة والعلوم التربوية عام 2006، ولاحقًا أُدمج في قسم الدراسات اللاهوتية الذي تأسس عام 2017، ليعتبر جزءًا من كلية الفيلولوجيا والدراسات الثقافية، يدرس فيه الآن (112) طالبًا، سيكونون مؤهلين لتدريس الإسلام بالألمانية، فيقاربون السياق الاجتماعي النمساوي، ويعملون في الحقول المجتمعية والرعاية الدينية. وهو هدف قريب لمخرجات برنامج البكالوريوس الذي يستهدف «التدريب العلمي وتعليم اللاهوتيين والعاملين في الرعاية الأبرشية والموجِّهين للمجتمعات الإسلامية في النمسا». إلى جانب البرامج، نقلت الدراسة سجالات حوت نقد فرضيات حضور المسلمين في الخطاب المسلم كتلةً متجانسة، مقابل أهمية حضورهم مكونًا مندمجًا في المجتمع النمساوي.
أما تدريس الإسلام وبرامجه في الدنمارك، فدُرِس باستقراء التاريخ بين الدنمارك والدول الإسلامية، منذ القرن السابع عشر الميلادي، الذي شهد حروبًا وحوارات، وشدًا وجذبًا؛ أضفى الاستشراق عليه جانبًا علميًا، ولكنّ حضور المهاجرين المسلمين في سبعينيات القرن الماضي، استدعى إعادة الجدل حول دمج الخطاب الديني الإسلامي ضمن أطر الدولة. تناولت الدراسة تدريس الإسلام في ثلاث جامعات دنماركية: «جامعة كوبنهاغن» (University of Copenhagen)، و«جامعة جنوب الدنمارك» (University of Southern Denmark)، و«جامعة آرهوس» (Aarhus University). وركّزت على برامج دراسات الشرق الأوسط، ودراسات الثقافات العابرة، ضمن كليات اللاهوت ومراكز دراسات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وضمن مشاريع دراسات حول «الغموض والدّقة في القرآن» (Ambiguity and Precision in the Quran)، ومشروع «القرآن الأوروبي» (The European Qur‘an). تطرقت الدراسة إلى السجالات الأكاديمية في جامعة كوبنهاغن حول برنامج ماجستير الدراسات الإسلامية، فقد أُنقذ حينما أُعيد تقديمه ضمن «برنامج الجذور الدينية لأوروبا» (Religious Roots of Europe). وفي جامعة جنوب الدنمارك توسعت الدراسة في رصد مركز الشرق الأوسط الحديث والدراسات الإسلامية، وهيكل برنامجه للماجستير الذي يقارب الأديان الإبراهيمية وكتبها المقدسة والعلاقات بينها. أما جامعة جنوب الدنمارك، ففي وحدة الدراسات الإسلامية المعاصرة، تم تناول مشروع الذات المسلمة، ومشاريع عن التقاليد الإسلامية في القطب الشمالي، والحداثة الإسلامية. وفي جامعة آرهوس ركّز برنامج ماجستير الدراسات العربية والإسلامية على «اللغة العربية للأغراض الأكاديمية» (Arabic for Scientific Purposes) و«النظرية والمنهج» (Theory and Method). تضمنت الدراسة توثيقًا للسجالات حول جدوى تدريس الإسلام في الجامعات الدنماركية، فتأرجح السّجال بين الصّراع والتّعايش والجندر والحقوق، وقضايا الإسلام المعيش.
وناقش أستاذ أصول الدين والفلسفة الإسلامية في قسم اللاهوت بجامعة أوبسالا (Uppsala University) السويدية، محمد فضل هاشمي (Mohammad Fazlhashemi) تطوّر دراسات الإسلام في الجامعات السويدية. ففي الثمانينيات أُطلق في جامعة لوند (Lund University) منصب الأستاذية الأول في علم الإسلام في السويد، وشكّل ذلك نقلة نوعيّة في دراسة الإسلام. قدمت الدراسة طروحات تدريس الإسلام ضمن مسارات مختلفة منها: ظهور الإسلام السياسي، ولكنها أبرزت الاهتمام بهجرة عدد كبير من المسلمين، مما شكل دافعًا آخر في السياق الأكاديمي. تناولت الدراسة برامج تدريس الإسلام في جامعة أوبسالا على مختلف المستويات الجامعية ومن ضمنها الدراسات العليا، وركّزت على ما يسمى «علم اللاهوت الإسلامي الجامعي» (Islamic University Theology) الذي يقترح الباحث ترجمته بـــ«علم الكلام الجامعي»، ويربطه بتطور علم اللاهوت البروتستانتي، ويشير إلى نظرية عالِم اللاهوت النرويجي أودبيورن ليرفيك (Oddbjorn Leirvik) عن إمكانية أن ينهل علم اللاهوت الإسلامي من الحداثة والإرث الداخلي لبناء علم كلام جديد، ينتقل من الفقه إلى الأخلاق، ومن التفسير إلى التأويل.
ركّزت المحاضرة في كلية اللاهوت في جامعة أوسلو (University of Oslo) نورا إيغين (Nora Eggen)، على تاريخ تدريس الإسلام في النرويج، ودور المستشرقين الذين انشغلوا بالعربية منذ القرن التاسع عشر الميلادي، وعبرهم دخلت الدراسات الإسلامية ودراسات القرآن إلى المعاهد والجامعات، إذ عُيِّنَ فيلهلم شينشكه (Wilhelm Schencke) (1869-1946) أول أستاذ نرويجي لتاريخ الأديان دَرَّسَ موضوعات مختلفة في الدراسات الإسلامية إضافة إلى اللغة العربية. راهنًا، يجري تدريس الإسلام في كلية العلوم الإنسانية بجامعة أوسلو، وكلية اللاهوت في جامعة بيرغن (University of Bergen). وعبر مركز دراسات إسلامية شرق أوسطية، تُدرس جامعة أوسلو «اللاهوت العملي» (Practical Theology)، وتسعى لتخريج «أئمة» كالقساوسة، وتُقدم الإسلام ضمن ماجستير الجذور الدينية لأوروبا، باعتباره مكونًا أساسيًا وليس طارئًا، وهي تتعاون مع جامعة أوبسالا، ساعيةً لإنشاء شبكة إسكندنافية أكثر اتساعًا. تجادل الدراسة بأن الظروف السياسية كشفت عن الحاجة إلى «قادة دينيين مسلمين»، وقد دفع الضغط إلى استعجال تكديرهم، مما أدى إلى التماهي بين وظيفة ودوري الإمام المسلم والكاهن أو القِّس المسيحي، فبعد أن أُعدت برامج التعليم المستمر في 2007 لتعليم القادة الدينيين غير النرويجيين على المبادئ والقيم القانونية للمجتمع، أَطلقت كلية اللاهوت برنامج ماجستير جديدًا عام 2019 عن القيادة والأخلاق والاستشارة، ومقررًا عن خدمات الإمامة الإسلامية.
تناولت الباحثة اللبنانية ميراي عيسى (Mireille Issa)، الدراسات الإسلامية في الجامعات البلجيكية، فعرضت برامج تدريس الإسلام في عدد من الجامعات الرئيسة. الأولى هي «جامعة لييج» (Université de Liège) التي منحت شهادةً بين جامعية عن الإسلام في أوروبا، تقدمها كلية الفلسفة والعلوم الاجتماعية، ومركز التعليم المستمر في العلوم الإنسانية والاجتماعية، باللغة الفرنسية، وفي الجامعة حزمة مساقات عن الفن والتاريخ الإسلامي واللغة العربية ولهجاتها العامية، وهي تستضيف أقسامًا للدراسات المملوكية، وتشترك مع «جامعة بروكسل الحرة» (Université libre de Bruxelles) في برامج الإسلام في أوروبا، بمراحلها التاريخية ووحداتها الراهنة عن السياسة والدين والإسلام والنسوية والقانون والمسلم، والدين والمجتمع. أما «جامعة لوفان الكاثوليكية» (Université catholique de Louvain)، فتمنح شهادة تربوية في التعليم الديني للإسلام، بالشراكة مع المجلس التنفيذي لمسلمي بلجيكا، وبدعم من المعهد الجامعي للتعليم المستمر. تقدم الجامعة مقاربة سوسيو أنثروبولوجية للإسلام، وتغطي علم الأصول، والمداخل التفسيرية للقرآن، والتعددية، وتستخرج من السيرة النبوية العناصر الأخلاقية، وتحولات الحداثة، وتجعل الحلقات الدراسية عن الاندماج. بينما تطرح «جامعة سان لويس» (Université Saint–Louis) تدريس الإسلام في محوري الدراسات اللاهوتية أو العلوم الإنسانية، أما «جامعة بروكسل الحرة»، فتصرفه إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية، وتتعاون مع الجامعات الأخرى، بالتركيز على مفاهيم تسوية التطرف الديني، وتعزيز «العيش معًا».
في السياق البريطاني تناولت دراسة المحاضر في كرسي الشيخ زايد للدراسات الإسلامية في كلية اللاهوت في جامعة كامبريدج (University of Cambridge) تيم ونتر (Tim winter) تاريخ الدراسات العربية والإسلامية في «كلية اللاهوت في جامعة كامبريدج»؛ الذي يعود إلى أواخر القرن الثالث عشر، فتعرض مراحل تطوره مع الحفاظ على دراسة اللاهوت والدراسات الدينية، والتركيز المستمر على دراسة العهد الجديد وفلسفة الدين. عرض الباحث المواد التي يتم تدريسها في الكلية، واتخاذها لقرار تدريس الإسلام عام 1995، وما رافقه من تكثيف للدروس لتشمل اللغة العربية، بعد تأسيس كرسي المغفور له صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان عام 1997. تطرقت الدراسة إلى مناهج الدراسات الإسلامية في الكلية، التي تمنح البكالوريوس في هذا التخصص، كما شرحت كيف «أثمرت مبادرة الشيخ زايد في جامعة كامبريدج بطرق عدة واضحة: في البحوث، والعلاقات العلمية بين الأديان، وبناء المؤسسات، والتعليم في الدراسات العليا والجامعية».
وفي إطار موازٍ، عرضت دراسة الباحثة والأكاديمية المصرية هالة ثابت المقصود بالدراسات الإسلامية في المجال الدولي، وما اعتمدت عليه من مناهج واتجاهات بحثية تأثرت بالظروف الدولية عبر الفترات التاريخية المختلفة. فاستهدفت التعرف على تأثير هذه الاتجاهات فيما طرحته المجلات الدولية من موضوعات، من خلال رصد نشأة نموذجين منها: (Journal of Islamic Studies) البريطانية، ومجلة (Studia Islamica) الصادرة عن دار بريل للنشر (Brill Publishers). ومن خلال تتبع أعدادهما منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، تتعرف الدراسة على ما طُرِح من موضوعات، وعلى توجههما، والدور الذي لعبتاه في دراسة الإسلام، ونقد الأطروحات الاستشراقية، وطرحهما العديد من التحديات التي تواجه المجتمعات الإسلامية. مع ملاحظة سيادة نفس إسلاموي على طبقات من الأبحاث المنشورة فيهما، يعزز عداء الغرب.
ومع بروز الحاجة الفرنسية الرسمية الملحة لبناء «إسلام فرنسي»، بدءًا من الفضاء العام وصولًا إلى الجامعات والمعاهد، تطرقت دراسة الباحثيْن الفرنسيين جان-جاك تيبون (Jean–Jacques Thibon)، وفرانسيسكو شيابوتي (Francesco Chiabotti) إلى «علم دراسة الإسلام» (Islamologie) بوصفه فرعًا معرفيًا وأكاديميًا في الجامعات والمعاهد الفرنسية، فرصدت المساقات وأضاءت على السجالات التاريخية والمعاصرة حول جدوى وأهمية تخصيص أقسام جامعية في هذا الحقل المعرفي. يأتي ذلك في إطار النقاش الأكاديمي والرسمي، منذ عام 2016، حول «الإسلام الفرنسي» إثر الأحداث الإرهابية الدامية التي تعرضت لها باريس عام 2015؛ فبرزت أهمية تدريس الإسلام في حقول متعددة التخصصات تدعمه المؤسسات الجامعية أولاً، ومراكز تكوين الأئمة ثانيًا.
قدم الباحث والأكاديمي التونسي محمد الحدّاد، شهادته حول تدريس الإسلام في الجامعات الفرنسية ومراحل نموه ومناهجه من الفيلولوجيا إلى الإسلاميات التطبيقية، فناقش الدّور الفرنسي في تطوير الدراسات حول الإسلام وموقعها في المعارف الحديثة. وشرح معنى ومنهج الفيلولوجيا، واللبس حول تعريفه وأهدافه، منطلقًا منه لمناقشة منهج محمد أركون (1928-2010) في الإسلاميات التطبيقية، والانقسام حول تقييم أعماله بين من عدّه «صدىً» لثقافة الاستشراق والأنثروبولوجيا التطبيقية، ومن وجد فيه باعثًا لتجديد الإسلام ومناهجه. شدّدت الدراسة على أن أركون في منهجه لم يعمل على الثنائيات التقليدية، مثل الأصالة والمعاصرة أو الإسلام والغرب، بل من خلال ثنائية الأنسنة والمركزية؛ فهذه الثنائية هي التي فتحت، منذ القرن السادس عشر، باب التنافس بين تيار يؤمن بإمكانية معرفة كونية موضوعية لكل المسائل، تعتمد على العلم، وتيار يؤمن بأن كل معرفة لا بدّ أن تكون ذاتية مركزية، تنظر إلى الآخر من منظور الذات. وعليه، ينبغي استيعاب كل التطورات التي حصلت في تمثل الإسلام في الغرب، منذ القرن السادس عشر إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة، بعيدًا عن النظرة الاختزالية التي انتشرت مع كتاب إدوارد سعيد (1935-2003) «الاستشراق» (Orientalism) الصادر عام 1978.
ثمة بُعد آخر يوضح المشهد العام للدراسات الإسلامية في الغرب، قدمه الباحث الأميركي جوزف براودي (Joseph Braude)، فحلَّل في دراسته مقرّرات عامة عن الإسلام والمسلمين في ثلاث جامعات أميركية: «جامعة جنوب كارولينا» (University of South Carolina)، و«جامعة تكساس» (University of Texas) وفرع جامعة نيويورك (New York University) في العاصمة البريطانية لندن. لاحظ الباحث أوجه التشابه والاختلاف، بين المقررات الدراسية في حالة الجامعات الثلاث موضع البحث، بغية معرفة تأثير الثقافة المحيطة والأعراف الاجتماعية في أماكن التعليم على اختيار المواد وما يُركز عليه، وكذلك تأثير الخلفيات الشخصية والاهتمامات الأكاديمية على انحيازات الأكاديميين وروايتهم، أو ما يمكن تسميته «الانحياز المعرفي»، الذي يؤدي إلى تشويه وأحكام غير دقيقة، وهو ما عنت به الدراسة بشكل خاص عبر نماذج عدة تم ذكرها، لكشف «الجهود الإسلاموية للسيطرة على تعليم الإسلام في الولايات المتحدة، وما ترقى إليه لنشر المعرفة السياسية، والتي تخدم في هذه الحالة حركة توسعية غير وطنية» ولوحظ أن أدبيات سيد قطب وطارق رمضان تُدرس جنبًا إلى جنب مع كتب فاطمة المرنيسي، وتسود في المساقات رؤية ومسار لا يخلو من الأدلجة، كما يجزم الباحث.
قدم الباحث الأرجنتيني وأستاذ العهد الجديد بجامعة البلمند، دانيال ألبرتو عيوش (Daniel Alberto Ayuch) دراسة انقسمت إلى محورين: الأول: حول الجالية المسلمة المحلية في الأرجنتين بأولوياتها ومساهمتها التعليمية، والثاني: خُصص لدراسات الإسلام والعالم العربي في نظام التعليم العالي الأرجنتيني، فاختار «جامعة سلفادور» (Universidad del Salvador)، و«جامعة الثالث من فبراير الوطنية» (Universidad Nacional deTres de Febrero) و«جامعة سان مارتن الوطنية» (Universidad Nacional de San Martín) و«جامعة قرطبة الوطنية» (Universidad Nacional de Córdoba)، و«جامعة روزاريو الوطنية» (Univesidad Nacional de Rosario).
أما عميد كلية الدراسات العليا والبحث العلمي في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية في أبوظبي، رضوان السيد، رائد مشاريع إعادة بناء الدراسات الإسلامية، فاختصّ دراسة العدد بتوثيق تجربته وشهادته لإعادة بناء الدراسات الإسلامية، فبعد أن جاب في تأملات الاستشراق الألماني، ومدارسه؛ اختبر فرضية ولادة الدراسات الإسلامية على أنقاض «موت الاستشراق»، التي وازنها بروز كتب «المراجعين الجدد» من بينهم: باتريشيا كرون (Patricia Crone) (1945-2015) وجون وانسبرو (John Wansbrough) (1928-2002) اللذان أعادا نغمة الشك في أصول الإسلام، مبينًا أنّ دورهما وإدوارد سعيد تلاقى بعد 2001، فقد تكسرت كلاسيكيات الاستشراق الجديدة بمعاول: ثورة المراجعين الجدد، والتصادم بين الإرهابيين والغرب، وتوالدت الدراسات عن العنف في الإسلام، وتطورت المناهج في ضوء «نقد النص». توقفت الشهادة طويلاً عند خطابات «ما بعد الاستشراق»، بدءًا بنزعة البحث عن الأصول السريانية والعبرية في النصّ القرآني أو تخيّل شواهد «أبيونية» (Ebionites) في الإسلام المبكِّر، مرورًا بتأمل الدراسات القرآنية الجديدة، وصولاً إلى تتبع تأثير الحرب الباردة على الدراسات الإسلامية؛ إذ دفعت بعض الباحثين للتنقيب في أصول الإسلام وصلته بالقوميات والدول. يرى رضوان السيد أن حذر المراجعين الجدد من «الاستشراق» دفعهم لاستخدام تسميات «الدراسات الإسلامية أو العربية» أو «دراسات الشرق الأوسط»، والسبب أنّه ما عاد هناك مبرر معقول لإفراد الإسلام بالاستشراق، وبدلاً من دراسته مع الأديان الأخرى، خصص بقسم الدراسات الإسلامية، ملاحظًا العودة اللافتة للدراسات القرآنية بالجامعات الغربية في أنساقها ضمن كتب الكلاسيكيات. يعقد الباحث نقاشًا عن تحويل الشريعة إلى قوانين، مقرًا بأنّ «قضيتي تطبيق الشريعة، وإقامة الدولة، شديدتا الخطورة لأنهما تفترضان تسييسًا كاملاً للإسلام، وتفترضان واجباتٍ دينية يكون على المسلمين القيام بها». ويختم رضوان السيد جازمًا بأنّ إبقاء الدراسات الإسلامية بمعزل عن دراسات الأديان والحضارات الأخرى، قد يؤدي إلى عزل خمس البشرية عن التفاعل الصحيّ معها.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب، والعاملين على خروجه للنور، والشكر موصول للزميلة ريتا فرج، التي نسقت العدد، ونأمل أن يسد هذا الكتاب، ثغرة في المكتبة العربية.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
ديسمبر (كانون الأول) 2022