تقديم
يواصل مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «التصوّف الجزائري: تاريخه وأثره السياسي في الجوار» (الكتاب الرابع والتسعون بعد المئة، فبراير (شباط) 2023) الاهتمام بالحالة الدينية في الجزائر، ويتقصى أثرها على المدى الأفريقي والأوروبي، فيدرس تاريخ وراهن الطرق الصوفية الجزائرية، وتفاعلها السياسي، وعودة الدولة والمجتمع إليها، ضمن مساعي إعادة بناء الهوية المتجاوزة للعنف، والمستفيدة من عناصر القوة الناعمة.
يتناول الكتاب تاريخ التصوف في الجزائر فيركز على الطرق الجزائرية المحلية مثل: الطريقة العلاوية؛ شاذلية المنشأ؛ والحضرات البلقايدية، والرحمانية، مؤكدًا أصالة الطريقة التيجانية في عين ماضي والأغواط، ومنبهًا لقوّتها التأثيرية الروحية في أفريقيا، ساحلها وغربها، ويقارن أثرها السياسي؛ ويقاربه بالتأثير على ليبيا والسودان وتشاد، مارًا على انفعال الساحل الأفريقي بالطرق الجزائرية خاصةً مالي والسنغال ونيجيريا، ولا يفلت بحث تأثير الحركات الإسلاموية وتأثرها بهذه التفاعلات وجذور إقصائها للتصوف باسم الإصلاحوية حينًا وباسم الحداثات الطارئة حينًا آخر.
بدأ الكتاب برصد مسيرة تدبير الدين في الدولة الجزائرية، وتعقب الحزم التي انتهت بتقدير رسمي لأهمية الثقل التاريخي للتديّن التقليدي الجزائري، والمساعي لتوظيفه في معركة صدّ التيارات الإسلاموية الواردة من الأفكار الدخيلة على الجزائر من حركية إسلاموية أو تشدد نصّي؛ فرصد الباحث الجزائري يحيى بوزيدي جذور استبعاد التصوف؛ الذي توافقت عليه التيارات الحداثوية والإسلاموية قُبيل الاستقلال، وبعده، ولم تتصالح الدولة مع أهميته إلا بعد الأزمة الأمنية في التسعينيات من القرن المنصرم.
أما الباحث الجزائري فيصل ازدارن فاهتمّ بتنظيم الدولة الجزائرية للملتقى الأول للطرق الصوفية عام 1991، ووثّق اهتمام الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة بالزوايا؛ مستشهدًا بزياراته لزاوية الأزهرية في ولاية الجلفة في أكتوبر (تشرين الأول) 2003، ثم حلّ زائرًا على زاوية الهامل التابعة للرحمانية، التي تُعدّ مقرًا لضريحي محمد بن بلقاسم، وابنته لالة زينب، وخاطب عام 2006 مؤتمر الطريقة التيجانية، وفي زيارته لمدينة قمار بولاية الوادي عام 2008 وصف التدين الروحي بقارب النجاة، وأعاد الاعتبار للطريقة العلاوية في ذكراها المئوية، في مدينة مستغانم عام 2009، وشارك عام 2018 في افتتاح الزاوية البلقايدية، التي ساهمت في حملاته الانتخابية وباركته زوايا الجنوب في ولاية أدرار (زاوية الشيخ محمد بلكبير). راهن الباحث على أهمية تفعيل مقترحات لـ«رص الصف الوطني والحفاظ على الذاكرة الجمعية والهوية الثقافية والدينية للمجتمع».
أما الباحثة الجزائرية مليكة عقون فتطرّقت إلى تقسيمات، تجعل الطريقة العلاوية؛ أنموذجًا للتصوّف الحضري، الواقع بين اليمين المحافظ الممثل بالطرق الريفية واليسار الذي تمثله جمعية العلماء المسلمين، وذلك بعد أن ركّزت على قراءة ذكيّة للصراع بين الجمعية والطرق، التي تواءمت مع الإدارة الفرنسية وقاومتها على حدٍّ سواء، وصولًا إلى درسها جذور الصراع بين الجبهة الإسلامية للإنقاذ والطرق الصوفية في العشرية الدموية. عرضت الباحثة التجليات النسائية في الطرق الصوفية، فبحثت في رمزيّة حضور القديسات مثل الزاهدة لالا تيفلانت، أو حارسة تلمسان لالة ستي الجيلاني، وسيدة مغنية «لالة مغنية» الراقدة على الحدود المغربية، و«لالة فاطمة نسومر» التي لقبها المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون (Louis Massignon) (1883-1962) بــ«جان دارك جرجرة»، وأمّ الصحراء «لالة زينب القاسمية» التي تولت المشيخة؛ وأدارت الزاوية وأقامت على زاوية الهامل على خطى القاسمي. واستغربت الباحثة عدم اهتمام البحوث الأكاديمية العربية بدورهن، في ظل كثافة الترجمات الفرنسية والإنجليزية التي تقصّت سيرتهن، ولا تناولهن الإعلام!
غياب الأثر الإعلامي، أثبتته دراسة الباحثة الجزائرية فضيلة تومي، التي رصدت البرامج التلفزيونية الجزائرية، على غرار برنامج «بعيون جزائرية» الذي تناول الزوايا والطرق الصوفية الجزائرية والظواهر المرتبطة بها، بعدما أصبح عدد منها «محجًا للسياسيين والوزراء والإعلاميين». لاحظت الباحثة أن محتوى هذه البرامج نمطي، ولم ينجح في إيصال رسالة تدل على الهوية الدينية الجزائرية وتقاليدها. اقترحت الباحثة الاستعانة بوسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن الطرق الصوفية، والمبادرات المنتظمة المرتبطة بها، المؤثرة في المجالين الأفريقي والعربي. يُلاحظ أن التميّز الدرامي المتوقع في تناول التصوّف الجزائري، كان يمكنه الرهان على فرادة الحضور النسائي من جهة، وأعمال أحمد العلاوي من جهة أخرى.
فعناصر «التراث الصوفي في الجزائر» وأعمال أحمد بن مصطفى العلاوي»، لهما سهم في إحياء قيمة السلم في الجزائر بعد العشرية الدموية، لذا ناقشت دراسة الباحث منتصر حمادة؛ تفصيلًا أعمال العلاوي ومؤلفاته مثل «المنح القدوسية» والفوائد الغيثية»، و«المرشد المعين على الضروري من علوم الدين»؛ إضافةً لمبادراته، الموروثة، التي رسخها خليفته «خالد بن تونس»؛ منذ توليه مشيخة الطريقة سنة 1975، فاهتم بالآخر؛ سواء في تعزيزه لقيمة الإرث الأمازيغي في مجموعة نشاطات؛ أو الانخراط في الحوار بين الأديان في مبادرات ميدانية؛ وتشير دراسات لاحقة إلى زيارته، لمنطقة تبحرين في 1980 ورعايته للقاءات «رباط السلام»؛ التي اختارت نصوصًا من القرآن والإنجيل، بحثًا عن الأفق المشترك. واستمرت مبادراته حتى إنه عقد في 2014 المؤتمر الدولي للأنوثة. ويعزى له تبنيه الحداثة الدينية، واجتهد في تقديم وثيقة للسلم، وسوّق لرسائل شيخه العلاوي التي أدت؛ بعد جهود من الدولة، إلى اعتماد يوم 16 مايو (أيار) يومًا عالميًا للعيش معًا بسلام.
كانت مبادرات التسامح محط دراسة الباحث الجزائري سعيدي ياسين، وعلى رأسها تبني قيم السلم والانفتاح على الأديان، بعد أن أقامت الجزائر مراسم خاصة في مدينة وهران في 18 ديسمبر (كانون الأول) 2018 لتطويب (19) راهبًا قضوا بالجزائر خلال فترة العشرية السوداء، بحضور ممثل البابوية وأكثر من (1200) شخص من مختلف المحافل. فيسرد الباحث المبادرات الحكومية حول العيش المشترك وعلاقتها بالطريقة العلاوية ومؤسسها الذي ينسب الباحث إلى المستشرق الفرنسي أوغسطين برك (Augustin Berque)؛ وصفه بــ«الصوفي الحداثي».
قدم الباحث الجزائري محمد السعيد بن غنيمة، دراسة حالة إحصائية، عن دور الطريقتين التيجانية والقادرية والطرق المتفرعة عنهما، داخل الجزائر وخارجها. لقد تفرعت القادرية إلى ما يزيد على ثلاثين طريقة؛ وتنوعت زوايا التيجانية، واتسع امتدادها وتأثيرها الاجتماعي والسياسي منذ ثورة محمد الكبير التيجاني على العثمانيين عام 1804؛ واستمراها في التطور خاصةً في عهد الحاج التماسيني؛ وقد راعى الأخير فهم المجتمع معوّلًا على ما يسميه «اللويحة والمسيحة والسبيحة».
أما الطريقة القادرية بمشيختها في ولاية ورقلة بالجنوب، فتعقِد مؤتمرًا سنويًا؛ وتنتشر أنشطتها في موريتانيا والمغرب ونيجيريا، وبقيت الجزائر من معاقل القادرية في أفريقيا، يُحفظ لها أن الشيخ المغيلي التلمساني؛ هو رأس سلسلة سند أغلب القادرية في جنوب الصحراء، تمامًا كما يحفظ لها أن الشيخ التيجاني وُلِد فيها. ينبه الباحث إلى أن الباعث على الالتفات للأثر التيجاني، ظهر في عهد الشاذلي بن جديد عام 1983، حينما وافق على نقل جثمان حفيد مؤسس الطريقة التيجانية الشيخ محمد الحبيب، المدفون في السنغال منذ عام 1950 إلى مسقط رأسه في عين ماضي؛ وهال السياسيين حضورُ الآلاف المؤلفة من وجهاء أفريقيا لمراسم إعادة الدفن. لفت الباحث إلى أن السنغال ظلت تتواصل مع مقر التيجانية في الجزائر، إلى يوم الناس هذا، وآخرها التشاور بين الرئيس ماكي سال؛ والشيخ علي بلعربي التيجاني.
درس الباحث الجزائري بوحنية قوي، الطرق الصوفية التي ينضوي تحت لوائها أكثر من (300) مليون مريد في أفريقيا، كاشفًا عن ارتباطها بالبيئات المحلية. ألقت الدراسة الضوء على دور «الدبلوماسية الروحية» في تدبير الشأن الديني في المغرب العربي وأفريقيا، وقيَّمت نتائجها على المستويين الاجتماعي والسياسي.
يُلاحظ في مجمل الدراسات عن التصوف السياسي؛ أنّ تقييم الأثر السياسي للحركات الصوفية يمكن تلخيصه في جذرين: الأول مبني على تفاعل الطرق ومجتمعها مع معضلتي الوجود التركي والفرنسي في الحالة الجزائرية، والثاني مبني على الموقف من دولة الاستقلال والنخبة المتحالفة لتحقيقها، وكلاهما جذران اختزاليان، توظفهما القراءات الأيديولوجية؛ في التخوين والتخوين المضاد. فالمتاح ملاحظته هو اتساع التجارب حسب اختلاف البيئات؛ التي تمدد فيها التصوف الجزائري، لحسابات سياسية ارتبطت بالمجتمعات الأفريقية التي أتاحت له التمدد فيها.
وفي سبيل تقييم الأثر الخارجي، بحث الكتاب في تأثير التصوف الجزائري في جنوب الصحراء والساحل الأفريقي. كان التصوّف في فترات زمنية واسعة، مسلكًا فرديًا، كما هو الحال في ليبيا، التي لم يستقر التصوف الطرقي فيها إلا بعد القرن التاسع الهجري، ولكن آثار أبي مدين، وعبدالسلام بن بشيش وأبي الحسن الشاذلي لما تنظمت، انسلكت الجموع في طرقهم، فظهرت فيها مراكز للطريقة العلاوية الجزائرية، والطريقة الزروقية، والطريقة العروسية السلامية، والعيسوية. أما الطريقة السنوسية التي درسها الباحث عماد الدين بحر الدين، فكانت من أنفاس أحمد بن إدريس، وقيل: إنها سمحت لأتباعها بالدخول في أكثر من طريقة صوفية، وامتد وجودها إلى الجنوب الليبي ووصل إلى شمال تشاد إثر الهروب من الدولة العثمانية، وارتبط اسمها بحركات عمر المختار، كما ربطت الطرق في الجزائر بعبدالقادر الجزائري.
قدَّم الباحث مادي إبراهيم كانتي في دراسته عن التصوّف في مالي، بحثًا لأثر الحركات القتالية والإمبراطوريات التاريخية في راهن التطرّفات الإرهابية!
ومثله، حاولت دراسة الباحث السوداني محمد ضياء الدين أحمداي، تقصي الأثر السياسي للطريقة التيجانية، وقارنها في بلد منشئها والسودان، زاعمًا أن التصوف التيجاني «لا يشكل عنصرًا منافسًا أو مشاكسًا للسلطة السياسية؛ كونه يستهدف الفرد لا الجماعة ولا يدعو للصدام والثورة». بينما اختبر الباحث السوداني محمد خليفة صديق، علاقة التصوف بحكم الحركات الإسلاموية، ممثلةً بحكم الجبهة الإسلاموية التي حكمت في عهد البشير على ثلاثة وجوه، أوضحها العشرية الأولى قبل المفاصلة بين حزبيها، فشرحت الدراسة اتجاهات تفتيت البيوت الصوفية، ومحاربة زعاماتها التقليدية، وإنشاء مؤسسات جامعة تهدف لكسر مركزية الطرق وتحويلها لسلطة «دولة الحركة»، شارحًا مجلس «الذكر والذاكرين» ودوره في سحب البساط من تحت أقدام «التصوف المعارض» للحركة الإسلامية.
قدم الباحث المصري خالد محمد عبده في الدراسة الأخيرة، الخيط الناظم الذي أسس فكرة تحويل التصوّف الفردي إلى تصوف طرقي، عبر «مفهوم التربية بالاصطلاح»، عند ابن عجيبة وتلميذه أحمد زروق، وتناولت الدراسة تحقيق رسالة جواب قاضي الجماعة الكومي البكي؛ حول مسألة المعرفة الإنسانية.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب والعاملين على خروجه للنور، والشكر موصول للزميل بوحنية قوي، الذي نسق العدد وزملائه، ونأمل أن يسد هذا الكتاب، ثغرة في المكتبة العربية.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
فبراير (شباط) 2023