يعرض كتاب المسبار الشهري «الإسلام في فرنسا: الإخوان، الإرهاب، المعالجة» (الكتاب الرابع والأربعون بعد المئة، ديسمبر(كانون الأول) 2018) لأبرز وجهات النظر والأفكار والمعالجات حول مشروع تنظيم «الإسلام الفرنسي» خصوصاً بعد هجمات باريس الدامية عام 2015، والتي فجرت الهواجس العامة والرسمية من تنامي ارتدادات الإرهاب والقلق المتصاعد على «قيم الجمهورية».
حلَّلت الدراسات الدوافع الأكثر عمقاً لفهم المحاولات والمبادرات الفرنسية لإدماج الجاليات المسلمة في مجالها وبيئتها الفرنسية، مبينةً أن «العلمانية الصلبة» لا تشكل وحدها القاعدة لانطلاق الميول «المعادية» لدى بعض المسلمين بسبب ما يتخذه الدين من أولوية في منظومتهم الإيمانية، إذ عملت جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة «الإخوان المسلمين» على بناء «عمقها» التنظيمي والمؤسساتي في فرنسا منذ سنوات طويلة، وهي تحاول استثمار «المظلومية الهوياتية» والدينية في «تمكين» وجودها داخل العقول، فتستند هي وحركات سلفية أخرى لاستراتيجيات في «الأسلمة السرية». ولعل «الباعث الأصولي الإسلاموي» يشكل العامل الأشد خطورة على القيم والمبادئ الفرنسية، ليس بسبب طابعه التخريبي للهويات والاعتدال والتكيف الجماعي فحسب، وإنما لمنزعه الإرهابي، وقد سعى الكتاب إلى دراسة الكيفية التي عملت بها فرنسا لمواجهة الإرهاب.
الإخوان في فرنسا.. رؤية مستقبلية للاستراتيجيات
يرى ماهر فرغلي -باحث مصري متخصص في الحركات الإسلامية، أن معضلة فرنسا الآن مع جماعة الإخوان المسلمين تتمثل بعملية التثبيت والتموضع التي تمت لمنظمات وجمعيات إسلامية في دول القارة؛ ومع التغيرات والتحولات الجارية الآن، بدأت تعيد تشكيل ذاتها، وفي الوقت الذي تستقبل القارة العائدين من أماكن التوترات، وتستمر عمليات الذئاب المنفردة، هناك محاولات منظمة ومنسقة من الإسلام السياسي، وتحديداً (الإخوان) والمنظمات المتفرعة منه تحت مختلف الأسماء والواجهات، للاستمرار في هذا التموضع. حيث سمت مجموعة من العوامل تساعد هذه المنظمات على تعزيز قوتها، أهمها تلك الخبرة الفائقة التي كسبتها تيارات الإسلام السياسي في استغلال ما في الغرب من قيم الحضارة الحديثة مثل، الديمقراطية، وحرية التعبير، وحقوق الإنسان، وحرية العبادة، وتغيير الدين والمعتقد، والاعتراف بتعددية الثقافات، وغيرها من التسهيلات، وكذلك بيروقراطية إجراءات الغربيين الإدارية والقضائية، مما سمح بتمرير الإخوان بأشكال جديدة. ويخلص في دراسته إلى أننا الآن في المرحلة الأخطر وهي تحول الإخوان إلى تيار عام، وانفصال جميع المؤسسات الإخوانية العاملة عن العمود التنظيمي للجماعة، لتعمل من خلال (5) محاور، الأول: وهو المدخل الأيديولوجي، والثاني: عن طريق المستقلين، والثالث: عن طريق الدوائر الاقتصادية، والرابع: عن طريق شبكة الجمعيات والمساجد، والأخير: عن طريق قطاع متخصص في التواصل مع التنظيم العالمي.
تنظيمات الإخوان والجماعات الجهادية في فرنسا
درس جاسم محمد، الباحث العراقي في قضايا الإرهاب، تنظيمات الإخوان والجماعات الجهادية في فرنسا، ويشير إلى أن أوروبا تمثل الحاضنة والملاذ الآمن للجماعات المتطرفة، ولجماعة الإخوان المسلمين التي نجحت في تأسيس شبكة علاقات من جنسيات مختلفة، تداخلت فيها المصاهرات السياسية بالعلاقات الشخصية، وجمعتها الخطط والأهداف، وامتدت نشاطاتها في أوروبا عبر مؤسسات ومراكز كثيرة، وحصلت على الدعم من الدول الداعمة للجماعات المتطرفة، والتنظيم الدولي للإخوان. ويرى أن الساحة الفرنسية شهدت ثلاثة أطراف فاعلة على صعيد تنظيم الإسلام السني غير الرسمي منذ الستينيات وحتى الوقت الراهن، أولها دول المنبع الرئيسة للجاليات المهاجرة وهي: تركيا، والجزائر، والمغرب، في ضوء أن (80%) من مسلمي فرنسا البالغ عددهم حوالى (5) ملايين نسمة ذوي أصول مغاربية، فضلاً عما يقرب من نصف مليون تركي تتولى الحكومة التركية إدارة شؤونهم. واستعرض الباحث الهجرات العربية الإسلامية إلى فرنسا التي انطلقت منذ بداية القرن العشرين منحصرة في بضعة آلاف من الجزائريين، ولكن الهجرة المكثفة بدأت في عقدي الخمسينيات والستينيات عقب استقلال دول المغرب العربي، فيما أطلق عليها الهجرة الاقتصادية. واستعرض الباحث في دراسته أهم المنظمات الجهادية والإخوانية العاملة في أوروبا، مركزا فيها على فرنسا، ومبرزا لأهم القيادات الجهادية، متناولا طبيعة الإجراءات التي تناولتها السلطات الفرنسية ضد تلك الجماعات، ومنها كان التعاون الأمني بين فرنسا وسوريا والعراق، خصوصا التعامل الفرنسي مع عودة المقاتلين. ويخلص الباحث إلى أن تصنيف العناصر الخطرة حسب خطورتها، يوفر الكثير من الجهود والتكاليف لأجهزة الاستخبارات، والتصنيف الدقيق، يعني تحديد مصادر التهديدات. وإن ما تحتاجه أجهزة الاستخبارات الفرنسية والأوروبية هو عدم المبالغة بحجم التهديدات، أو المبالغة بالتعامل مع الأحداث، على مستوى العمليات الميدانية أو الإعلامية. ويضيف أن ما تحتاجه فرنسا هو إيجاد برامج خاصة في محاربة التطرف تحديدا لتلك الجماعات التي تدعو إلى عدم الاندماج الاجتماعي، وإلى رفض التعايش السلمي، ورفض البرامج الحكومية. تبقى الجماعات المتطرفة التي عادت من القتال بصفوف تنظيم داعش، هي الأخرى التي تحتاج الكثير من الجهود والتطبيقات والبرامج في مجالات نزع أيديولوجية التطرف. ويرى أن مقولة: «لا يوجد أمن مطلق» هي السائدة في مشهد الأمن في فرنسا، وهذا يعني أن حالة التأهب وإعلان التحذيرات سوف تبقى مستمرة.
اليمين المتطرف والإخوان في فرنسا: التأثيرات المحتملة
يقول أبوالفضل الإسناوي -باحث متخصص في الحركات الإسلامية وشؤون الشمال المغربي-: إن ترويج أحزاب اليمين المتطرف لأفكارها المناهضة للإسلام، لجذب أنصار في الداخل الفرنسي، ومطالبتها بحظر المنظمات الإسلامية، سيكون له تأثيرات محتملة على وجود جماعة الإخوان، كما أن ثمة تحديات وجودية، وعقبات تواجهها جماعة الإخوان المسلمين في فرنسا بعد صعود اليمين المتطرف في بعض الدول الأوروبية، قد تؤدي إلى انحسارها، وتجفيف منابع تمويل مؤسساتها في تلك الدولة، خصوصاً وأن تيار اليمين المتطرف، المعادي لها، أصبح فاعلاً سياسياً واجتماعياً مؤثراً في الداخل الأوروبي. يستعرض الباحث جماعة الإخوان في خطاب اليمين المتطرف، وأنماط تهديد اليمين المتطرف الفرنسي للإخوان. ويرصد الباحث أربعة أنماط محتملة لتهديد اليمين المتطرف لجماعة الإخوان في فرنسا، قد يكون لجوء اليمين المتطرف إلى استخدم بعض هذه الأنماط المباشرة أو غير المباشرة من التهديدات، انطلاقاً من إدراكه للمخاطر التي تشكلها جماعة الإخوان على الهوية الفرنسية والأمن الأوروبي، وذلك على النحو التالي: تعزيز العلاقات مع اليمين المتطرف في مختلف دول أوروبا لمحاصرة جماعة الإخوان، تهديد القدرات المالية للجماعة ومراقبة مصادر تمويلها، دعم منظمات وجماعات داخلية ووسائل إعلام متنوعة لصد الجماعة، الانقسامات بين تيارات الإسلام السياسي في فرنسا والاستقطاب داخل الإخوان. كما يحدد الباحث شكل التأثيرات المحتملة لسياسات اليمين المتطرف على جماعة الإخوان المسلمين في فرنسا، على مستويين: الأول: في المدى القريب، وهو يعني حدوث تغيير في هياكل المؤسسات ذات العلاقة بالجماعة، وانخفاض حجم التمويل المحلي والخارجي القادم من الدول الداعمة لها. أما الثاني: فهو يرتبط بوصول اليمين المتطرف للسلطة في فرنسا، ويعني حل اتحاد المنظمات الإسلامية، وطرد عناصر جماعة الإخوان من فرنسا. ويخلص الباحث إلى أن اليمين المتطرف جعل الرأي العام الوطني أكثر انخراطاً في قضية بقاء جماعة الإخوان، وعلاقتها بالإرهاب. ويرى أنه إذا استمر اليمين المتطرف في الصعود بين جماهيره، وتمكن من الوصول إلى السلطة في أكثر من بلد أوروبي، فسيكون ذلك بمثابة تهديد قوي لاستمرار بقاء جماعة الإخوان في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية.
الإخوان المسلمون واستراتيجية الأسلمة السرية في فرنسا
استعرض فريد خان، –باحث جزائري في الشؤون العربية والدولية- استراتيجية الإخوان المسلمين في الأسلمة السرية في فرنسا، حيث يسعى التنظيم إلى أن يصبح قوة ضغط حقيقية باستخدام مفاهيم أيديولوجية، قادرة على التأثير في السياسات العامة، هذا الهدف تتشارك في تحقيقه جميع أطراف التنظيم الإخواني العالمي، من خلال ما يسمى بــ«التمكين» لإخضاع العالم لـ«أحكام الشريعة»، لكن استراتيجية «التمكين» في العالم الغربي لا يمكن السعي وراءها قبل مرحلة «التوطين». وهو هدف التنظيم الإخواني في العالم الغربي وفي فرنسا، خصوصاً، لاعتبارهم تلك البلدان ليست «دار إسلام» فهي «دار حرب» حسب أيديولوجيتهم العقدية العدائية، والغاية من استراتيجية «التوطين» هي صناعة «الكتلة المسلمة»، أو أسلمة الكتل وتوحيدها خلف مطالب الإخوان ومشروعهم. لذلك بات استغلال الجامعة «أسلمة الجامعات في فرنسا» في نشر التطرف من التحديات الرئيسة التي تواجهها فرنسا، وعلى الرغم من إطلاق حكومات فرنسا خطة لمكافحة الإرهاب، فإنه ليس هناك استراتيجية واضحة للحد من تنامي التطرف بين الطبقة الوسطى وطلاب الجامعات. يسلط الضوء على اتحاد المنظمات الإسلامية المثير للجدل في فرنسا، ومحاولات أسلمة الكتل الطلابية، حيث قادت هذه المنظمة أنشطة الوعظ الإسلامي والتلقين في مجتمع الطلاب، وتحاول عبره تشكيل نخبة من شأنها -في وقت لاحق- أن تستخدم لنقل الأفكار في مجالات صنع القرار والسيطرة على الأقسام الأربعة للمسلمين في فرنسا. هذه الأقسام كما يراها الباحث هي: المسلمون القادمون من الدول العربية لمواصلة دراستهم أو البحث عن عمل أو أمن؛ معظمهم يعرفون اللغة العربية والإسلام. المسلمون من الدول غير العربية: الأتراك والأفارقة والآسيويون، ليس لديهم معرفة كافية باللغة العربية. المسلمون من أصل أوروبي أو فرنسي، هؤلاء اعتنقوا الإسلام بعد أن عرفوه ودرسوه. ومع ذلك، فإن معرفتهم باللغة العربية لا تكاد تذكر، ولا تزال معرفتهم بالإسلام ضعيفة. أطفال من عائلات مسلمة ولدت ونشأت في المجتمع الفرنسي. يشير الباحث إلى أن تغيير اسم اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا إلى «مسلمي فرنسا» يهدف أولاً إلى منح نوع من الحصانة، ويرى أنه لا يمكن لأي اسم جديد للاتحاد أن يخفي أهداف وانتماء اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا إلى الإخوان. إن وجود الإخوان المسلمين في فرنسا وتوسع نفوذهم، ما كان ليكون لو أن الحكومات الفرنسية فهمت أن هذا التنظيم ليس دينياً روحياً، بل هو صاحب مشروع سياسي شمولي، وهو مصدر الإسلام السياسي الذي فرّخ التطرف.
السلفيون في فرنسا… الأيديولوجيا والفضاء الافتراضي
يستعرض عزيز أحلوي -أستاذ باحث في علم الاجتماع، جامعة محمد الخامس الرباط، المغرب- أهم الهيئات الدينية بفرنسا لينتقل بعد ذلك لتحليل كيف تمكنت السلفية من بناء ذاتها على حساب عجز هذه الهيئات عن تأطير كل مسلمي فرنسا. سنة 1983 وأمام بروز الحاجة الملحة لتنظيم الممارسة الدينية للمسلمين، تأسس اتحاد التنظيمات الإسلامية بفرنسا (UOIF) والقريب من الإخوان المسلمين، بحيث كان تأثيره قوياً لبناء الدعوة من الخارج، حيث استطاع -إلى حد بعيد- لعب دور المُحاور الرسمي للحكومة الفرنسية وتمثيل الإسلام وشعائره. لكن هذه الهيئة سرعان ما فقدت مصداقية تمثيلية كل المسلمين بسبب صعود نجم التيار السلفي. يستعرض التيارات السلفية في فرنسا في قراءته لكتاب برنارد روجيه، “ما السلفية؟” الذي يقسمها إلى (3) أنواع: النشيطة، الإصلاحية، الجهادية. ويتناول المرجعيات الفكرية وتطبيقاتها في الفضاء العام. ويشير إلى ما كتبه باتريك هايني في كتابه “إسلام السوق” أن قوانين السوق خلخلت وتجاوزت احتكار الحركات الإسلاموية التقليدية وحرسها القديم لتمثيلية الإسلام. حيث ظهر جيل جديد خاب أمله في الخطاب الإسلاموي الكلاسيكي، فتوجه نحو السوق لإثبات ذاته. ويعرفون بالمقاولين السلفيين.
ويختتم الباحث دراسته بأن التيار السلفي لا يشكل بالتأكيد الغلبة العددية لمسلمي فرنسا، لكنه يشكل تياراً محكم التنظيم، موسوماً بمرجعية فكرية سلفية منسجمة تماماً مع مشروعه المجتمعي، يشتغل مناضلو السلفية وشيوخها معا بأدوات ذات فاعلية عالية وسريعة المردود: سوق الحلال، التربية، الدعوة جهاراً، الالتزام بالمظاهر والملابس السلفية التي تحمل خطاب ودلالات الانتماء، الالتزام بالمنهج السلفي، اللعب على ورقة الأخلاق في كل مناحي الحياة، وإعطاء المثال للشباب المتعاطفين بأن منهج حياة آخر ممكن، بل ضروري للإخلاص للقضية السلفية. لعبت المقاولة ذات الهوية الدينية والمنافسة على أسس ليبرالية دوراً مهماً في فرض نموذج جديد من الاقتصاد المُعولم. انضاف الإعلام الملتزم بنصرة القضية السلفية إلى تقوية تياراتها، بينما تكلف الشيوخ ومن خلالهم الدول المحتضنة للسلفية العالمية بالدعم اللامشروط للفاعلين في حقل الصراع الإثني والديني بفرنسا. وأخيراً، يبدو للباحث أن منحى السلفية يتقوى يوما بعد يوم، وكل جيل يضفي مزيداً من القيمة على سابقه. وأن أغلب الشباب اليوم في الأحياء الهامشية يشيدون بالنقاء الفكري والاستقامة الأخلاقية والالتزام بالدعوة الذي يميز مناضلي السلفية في الميدان، والذين يمارسون سياسة القرب من المسلمين المحتاجين للمساندة والتضامن، وهم بذلك يُعرضون عن السباق نحو مناصب الانتخابات والمكاسب السياسية، مما يزيد ثقة الشباب في التيار السلفي ومبادئه وأهدافه ذات البعد العالمي.
الوجود الإسلامي والحركي الديني في فرنسا
يقدم طارق زياد وهبي -باحث في العلاقات الدولية (الأورو متوسطية) ومشاريع التنمية المستدامة لدى الملتقى الأورو متوسطي- نبذات تاريخية عن الوجود الإسلامي، والحركي الديني في فرنسا. ويرى أن العلاقة الواضحة بدأت في القرن التاسع عشر مع ضم الجزائر إلى الديار الفرنسية، وكانت الجزائر تشكل النواة المهمة من المسلمين الفرنسيين الجدد الذين انضووا تحت الجمهورية الثالثة الفرنسية التي بدأت بعصر المستعمرات. ويشير إلى أنه في بداية القرن العشرين، لم يكن الإسلام موجوداً على الأراضي الفرنسية- الأوروبية. قبل الحرب العالمية الأولى وفقاً لبعض الإحصاءات كان هناك ما يعادل (4000) إلى (5000) جزائري. كان الإسلام وقتها حدثاً مرتبطاً بالمستعمرات، وأن الإسلام على الصعيد السياسي الفرنسي بدأ يظهر عندما بدأت الحرب في أفغانستان، وأصبح الجيل الثاني من المهاجرين وبالتحديد من المغرب العربي الذين تجنسوا وأصبحوا فرنسيين، وبعض الفرنسيين الذين اعتنقوا الإسلام بالذهاب إلى أفغانستان تحت شعار «الجهاد في سبيل الإسلام» يتناول الباحث أهم التجمعات الإسلامية في فرنسا، نشأتها وحضورها، والأهداف والأنشطة التي تبنتها، ثم يعرج إلى تنظيم الإسلام وكيف أصبح رسميا، حيث بدأ الاعتراف الرسمي بالإسلام في فرنسا كردة فعل على الموجة الإسلامية التي انطلقت مع المجاهدين المسلمين من الذين يحملون الجنسيات الأوروبية إلى أفغانستان. يستعرض الباحث بعض الجهود الفرنسية الفاشلة والناجحة على حد سواء التي بذلتها الحكومات من أجل إنشاء نوع من مجلس تمثيلي للمسلمين. يرى الباحث أن المسلمين في فرنسا يعبرون عن رغبة قوية في ممارسة حقوقهم، ويدعون إلى مجتمع قادر على ضمان احترام حقوق الفرد. إن الإسلام هو البعد الأساسي لهويتهم الثقافية والاجتماعية والرمزية الوحيدة، التي يمكن أن يعلنوها بشكل محدد ضد «المولود في فرنسا». المسلمون الفرنسيون -بغض النظر عن العلاقة مع وطنهم الأم- هم مصنفون في فرنسا وبانتظام على الفور على أنهم مواطنون درجة ثانية بسبب الانتماء الديني، ويشتبه النقص في ولائهم لفرنسا، ونظرية هنتنغتون تعم بقوة الإدراك في الرأي العام من حتمية الصراع بين الحضارات، وهذا يشكل نوعاً من عدم الثقة في المكونات البشرية للجمهورية. لقد كان الطريق صعباً وشاقاً للوصول إلى ما وصل إليه اليوم المسلمون الفرنسيون، ويظل على الأجيال القادمة أن تؤكد أنها قادرة ليس فقط على التأقلم، ولكن على استنباط بعض المسلكيات الاجتماعية من صلب الدين دون أن تتناقض مع العلمانية.
مواجهة الإرهاب في فرنسا.. التأثير في حيادية الدولة
ركزت دراسة أحمد الشوربجي -باحث مصري في شؤون الحركات الإسلامية- على كيفية مواجهة الظاهرة الإرهابية في «فرنسا»، ويلقي الضوء على المواجهة القانونية لهذه الظاهرة وأثرها في القيم المجتمعية الفرنسية المستقرة، وذلك من خلال ثلاثة محاور رئيسة يدرجها على النحو التالي: المسلمون في فرنسا.. التعايش والمشكلة، ملامح قيم المجتمع الفرنسي، المواجهة القانونية وأثرها على قيم المجتمع الفرنسي. يتتبع الباحث المراحل المختلفة لمواجهة الظاهرة الإرهابية في فرنسا من الناحية القانونية. ويرى أنه قد تراجع مستوى الحريات بشكل كبير أمام مطرقة الإرهاب وسندان المواجهة، مشيرا إلى أن فرنسا تفرض حالة الطوارئ لأطول فترة في تاريخها كله، وأن المشكلة تكمن في تحول العديد من بنود هذا القانون الاستثنائي لقانون دائم، ولعل كلمات المحكمة المسؤولة عن مراقبة مدى دستورية القوانين واتفاقها مع الحريات العامة في فرنسا «مجلس الدولة» تُعد شيئًا كاشفًا عن حجم هذا التحول والتغير الذي طرأ على دولة الحريات الكبرى إذ تقول: «إن نصوص هذا المشروع ليس لها سابقة فعلية في تشريعنا، كما لا يوجد لها نظير في تشريعات الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، خصوصاً وأنها تفرض عقوبات جنائية، منها ما هو سالب للحرية، بسبب التواصل بصورة معتادة مع مواقع الإرهابيين، والاطلاع على الرسائل، التي تحرض على الإرهاب، بينما لم يرتكب الشخص المعنوي، أو لم يشرع في ارتكاب أي تصرف يفترض معه استجابة لهذا التحريض، أو على أقل تقدير يمكن أن يستميل إليه. ولقد قدر مجلس الدولة، أن مشروع هذا القانون يمكن أن يمس حرية الاتصال، التي يكفلها، ويقوم على صيانتها المجلس الدستوري، وكذلك المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، ولا يوجد ثمة ضرورة فعلية لمثل هذا التعدي على حرية الاتصال، ومن ثم فلا يوجد ثمة تناسب بين هذا التعدي وغاية مكافحة الإرهاب». يخلص الباحث إلى أن إنشاء مثل هذا التجريم الجديد لا يعطي -بدوره- للقضاة ولا أعضاء الضبط القضائي، الوسائل التي تقي من ارتكاب تعديات جسيمة على الأشخاص، والأموال. وهكذا تفرض مواجهة الإرهاب تغول الدولة وانتقالها من الحيادية التامة تجاه الأديان إلى القيام بغلق المساجد وترحيل الأئمة، ووضع العديدين تحت المراقبة والتفتيش، والتنصت، وفض المراسلات الإلكترونية، واختراق هذه الاتصالات، أو حفظها بغير سبب سوى الشك في تصرفات الأشخاص، ويختتم دراسته بتساؤل عما إذا سقطت أسطورة الحريات والعلمانية المحايدة تجاه الأديان أمام مواجهة الإرهاب.
في قابلية الفكر الفرنسي للسجال الأصولي
ينبه الباحث والأكاديمي المغربي، محمد الهاشمي، في دراسته، إلى الشروط التاريخية شبه اللاواعية أو على الأقل المنسية للفكر الفرنسي، التي تجعله مدفوعا إلى خوض السجال الأصولي، بل وطلبه بمنطق التشابه والاختلاف كطرف متقاطب معه. وذلك بفعل توترات سابقة على ظهور الأصولية الإسلامية نفسها، وعن حضورها داخل السياق الفرنسي. فكما لو أن هذا الفكر، يستمر في إشاعة الإجابات الماضوية نفسها عن أسئلة مختلفة ينتجها راهنه المعاصر، الأمر الذي يجعل الأصولي بروحه الماضوية الراسخة، يسبح في عنصره المناسب، وهو يناوش ويواجه غريماً يحمل رائحة تذكره بالمواجهة الصليبية، التي يراها مستمرة عبر العصور، وإن في صور مختلفة. كما يرى الباحث أن هناك استعداداً عميقاً في الفكر الفرنسي لكي يدخل في مواجهة مفتوحة، بل وعنيفة مع الأصولية الإسلامية، لأنه هو نفسه غارق في أصولية غير معترف بها، تتمثل في الطابع المذهبي للعقل الجمهوري، والنزعة الخصامية للعلمانية الفرنسية، التي تحمل في طياتها هواجس دينية، تبرر المواجهة والحروب الممكنة، مع كل كافر بالمبادئ الجمهورية. هذا على خلاف ما يدعى في الثقافة الأنجلو-سكسونية بالعقل العمومي الذي تخلص من هذا التشنج المذهبي، مما جعل مواجهته للأصولية تأخذ شاكلة مغايرة تماماً. ويخلص إلى أن البحث عن هذه الأصولية الدفينة في الفكر الفرنسي، غير كافٍ لكي نتوجس بأن معركة شارلمان وأبطال أنشودة رولان لا تزال تغذي المخيال الفرنسي، الذي لم يتخلص بعد -في رأيه- من تاريخه الاستعماري المقدس، مما يجعله يتعامل مع كل غريب عنه، بمنطق الأنشودة نفسه: ادخلوا في مذهبنا لتكونوا آمنين، وهي نفسها الجملة التي يرتد صداها من كل الأصوليات الجهادية الإسلامية: ادخلوا ديننا لكي تكونوا آمنين. إنها المحلية الكونية التي تمثل تناقضا داخليا للثقافتين معا، التي لا يمكن مواجهتها إلا بالقبول الكامل لمطلب النسبية، لكن هذا يستدعي مراجعة قاسية للأسس الفلسفية والدينية للتوجهين معا. وهو ما لا يبدو في الأفق أي استعداد له.
صناعة «الإسلام الفرنسي»: المسار والعراقيل
يقول منتصر حمادة -باحث مغربي متخصص في العلوم الإنسانية-: إن مشروع تنظيم «الإسلام الفرنسي» يعود إلى عقدين على الأقل، ومن فرط المبادرات المعتمدة من طرف الدولة الفرنسية، عبر بوابة وزارة الداخلية أو بوابة القصر الرئاسي نفسه، يتناول زمنياً المستجدات المرتبطة بالموضوع، انطلاقاً من منعطف اعتداءات شارلي إيبدو التي عصفت بفرنسا في 7 يناير (كانون الثاني) 2015، حتى أحدث المبادرات في هذا السياق، ومنعطف ماكرون السياسي، والإحالة على مشروع الخبير الفرنسي من أصل تونسي حكيم القروي، والمحسوب أو المقرب من القصر الرئاسي آنذاك. كما يعرج إلى التقارير التي ساهمت في صناعة الإسلاموفوبيا، ويقدم وقفات نقدية لها. ويرى الباحث أن سعي المسؤولين الفرنسيين إلى «صناعة إسلام فرنسي» على مقاس مبادئ الجمهورية الأمريكية، بما يقتضي البحث عن «مسلمين مثاليين (متميزين)» لمواجهة الانحرافات التي تطال تديّن مُسلمي القارة بشكل عام، ومُسلمي فرنسا بشكل خاص، أخذاً بعين الاعتبار أن فرنسا تضم أكبر عدد من المسلمين في أوروبا الغربية، ليس بالأمر الهين، ولن يتم بين ليلة وضحاها، لأننا لا نتحدث عن ظاهرة مجتمعية أحادية التفاعلات، وإنما نتحدث عن ملف مركب ومتعدد الفاعلين والمؤثرين، من الداخل والخارج، ولا يمكن اختزال تدبيره في شق مالي أو إداري أو ديني، من فرط تعقيداته، ولو أن توقفنا عن الشق الديني مثلاً، هناك توجه فرنسي لتأهيل وتكوين الأئمة المسلمين بما يوافق الثقافات الأوروبية ومقتضى ثقافات المهاجرين والمواطنين المسلمين، مما يتطلب تجاوز الرهان المؤقت والسائد اليوم، على تأهيل الأئمة في بعض دول الأصل، كما هو جارٍ به العمل مع تأهيل أئمة فرنسا في المغرب، قصد الانتقال إلى مرحلة تأهيل الأئمة داخل الرقعة الأوروبية.
هذا عن الشق الخاص بتأهيل الأئمة ضمن ملفات أخرى، لا نشك أنه سيتم تسليط الضوء عليها على الأمدين القريب والمتوسط، بل نذهب إلى أن التحديات التي تطال المسلمين والفرنسيين في الساحة الفرنسية، ذات الصلة بالحضور الإسلامي، معرضة لمزيد من التطورات والمنعرجات، من فرط التساهل في فتح أبواب العمل الإسلامي لمشاريع إسلامية لا علاقة لها بتديّن عامة وخاصة الجالية المسلمة، طالما لم يقتنع صناع القرار والمتتبعون والحكماء في الساحة هناك، من شتى المرجعيات، بأن الجمهورية -بتعبير أحد الباحثين- مطالبة بأن تفقه جيداً أن «الإسلام ليس حركة إسلامية، وأن نبي مسلمي فرنسا (أو «إسلامات فرنسا»)، لا يحمل اسم حسن البنا أو سيد قطب»، وأن المساجد أماكن للعبادة وليست مقرات للأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية الحركية، وهذا ما نعاينه منذ عقود في المجال التداولي الأوروبي من فرط هذه الممارسات.
محمد أركون ونقد الأصولية الإسلامية: الأنموذج الفرنسي
درس نبيل فازيو -أستاذ في جامعة الحسن الثاني بالمغرب- كيف يُمكنُ للمشاريع الفكرية التي أنتجها الفكر العربي المعاصر أن تفيدنا، اليوم، في فهم انبعاث الحركات الأصولية ومواجهتها؟ تسعى الدراسة التي قدمها إلى إظهار مدى أهمية مثل تلك المشاريع ودورها في مواجهة الحركات الأصولية المتطرفة التي جثمت بطيفها على الإسلام ديناً، ومجتمعاً، وثقافةً. يتخذ الباحث من محمد أركون، كما من مشروعه في نقد العقل الإسلامي، موضوعاً لهذه الدراسة؛ فإضافة إلى أنه من أكثر المفكرين إقداماً على مواجهة الإسلام الحركي وتعرية خلفياته الأيديولوجية وفقره المعرفي، فإنه يعتبر سليل الثقافة الفرنسية التي ظلت تنهل كثيراً من عناصر رؤيتها إلى العالم من العقل الوضعي الذي لم يكن عديم الصلة بظهور الحركات الأصولية في العالم الإسلامي. لذلك وجد الباحث أن أعمال أركون تمثل خير مدخل إلى فهم التداخل بين الحركي والمعرفي في الأصوليات الإسلامية، لأنه يكشف عن مقدار الحاجة إلى بلورة معرفة عميقة بالإسلام وتاريخه، باعتبارها خطوة لا بد منها في طريق الواجهة الدوغمائية التي يرسي عليها الموقف الأصولي دعائمه. وأنه للتفكير في مقاربة أركون لعلاقة الإسلام بالأصوليات المعاصرة مقدمات لا بد من الانتباه إليها؛ يأتي على رأسها إيمانه بضرورة تجاوز العقل الوضعي الغربي، والنظر إلى الموقف الأصولي باعتباره، في جانبٍ من جوانبه، ردَّ فعلٍ على هذا العقل وتمركزاته الكبرى التي أبعدت الدين عن مدارات الفهم والتفهم. لا يعني هذا، ودرءاً لكلِّ سوء فهم، أنَّ هذه الحركات كانت مجرد رد فعل، لأن في ذلك تسليماً، ضمنياً، بدور الضحية التي تجيد أداءه في مشهد الثقافة الإسلامية اليوم، طالما أنها تتجذر في تاريخ من التشكلات الفكرية والرمزية التي صنعت المخيال الجمعي للمسلمين. من هنا كانت الحاجة إلى المعرفة الحديثة ومناهجها النقدية، لأن من شأن الاعتداد بها أن يفيدنا في خلخلة البنى الدوغمائية التي يقوم عليها التصور الأصولي للإسلام ديناً وتراثاً، بما يقتضيه ذلك من تبرم من العقل الوضعي ورؤيته الضيقة إلى الإسلام. يمثل مشروع الإسلاميات التطبيقية أنموذجاً لجهد فكري حاول إنجاز مثل هذا النقد المزدوج، وقد انتهى إلى وضع برنامج عملٍ لا يزال الباحثون مطالبين بإنجاز كثير من عناصره، وهذا يعني أن مواجهة الأصولية ليست تمثل -في حد ذاتها- برنامجاً فكرياً يحتاج إلى تضافر جهود باحثين ينتمون إلى مختلف المجالات ذات الصلة بالدين ودراسته، من أجل بلورة فهم معقول للدين والتراث يتحقق خارج مدارات الدوغمائيات الأصولية المتحدرة من الدين والتراث نفسيهما.
تقرير: صناعة الإسلاموية
قدم الباحث والأكاديمي، والمترجم اللبناني جورج كتورة قراءة في تقرير صناعة الإسلاموية، الذي جاء في (614) صفحة، وأعده حكيم القروي -وهو أستاذ خريج معهد المعلمين العالي، درس في جامعة ليون وكان مستشاراً في رئاسة الحكومة الفرنسية، ومستشاراً في بنك روتشلد، وله مؤسسته الخاصة لتقديم النصائح الاستراتيجية- ونشره معهد مونتاني عام 2018. يقول كتورة: لم تكن الدراسة مخصصة عن الإسلام، بل عن الإسلاموية، والتي يجد فيها الباحث تعريفاً لها في الغلاف الأخير، بأنها عبارة عن أيديولوجيا معاصرة، قوية، غير معروفة جيداً في الغرب، وهي تهدف لخلق مشروع شامل يعتبر الدين إطار حياة ومشروعاً يصلح للفرد وللمجتمع. الدراسة تطمح لإبراز معالم هذا المشروع وامتداداته في فرنسا وفي أوروبا. ووصف ديناميته انطلاقاً من كون الإسلاموية رؤية للعالم، والكشف عن أماكن وجودها وعن مصادرها. تحاول الدراسة من بدايتها أن توضح أن هذا التعبير (أي الإسلاموية) تعبير مصدره غربي، وهذا ما لا يقبله لا الإخوان المسلمون ولا الجهاديون. وإن تعددت أسباب وجود الإسلامويين من التهميش في أماكن وجودهم في الغرب، أو من جراء استعمارهم في بلدانهم الأصلية، فهم الآن موجودون ولهم أيديولوجيتهم الفقهية– السياسية القائلة بنقاء الإسلام، والعودة إلى الإسلام الأصيل. يرى الباحث أن هذا لا ينفي فكرة الإصلاح التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، والتي دعت لبناء إسلام متجدد، إصلاحي، كان له رواده الذين وعوا بشكل أو بآخر الحداثة ومتطلباتها. إلا أن هذا أيضاً كان وبعد السبعينيات من القرن الماضي سبباً لتجدد الفكر الإسلاموي وازدهار خطابه، بدءاً من الحركة الجهادية في أفغانستان وانتشار الوهابية. وقبل انتشارها في أرجاء العالم ظهرت الفكرة الإسلاموية في أوساط الإخوان المسلمين في مصر والسلفية في الخيلج وفي تركيا. ولاحقاً في أوساط الثورة الخمينية في إيران بعد عام 1979.