تفكيك الفكر المتطرف ومواجهته لم يعد مقصوراً على مناقشات فكرية هنا وهناك، ولكنه يمر بمراحل تبدأ من التنشئة إلى مرحلة تأهيل المتطرف، وبدأ تزايد على برامج إعادة تأهيل المتطرفين فى السجون، خوفاً من أن تصبح السجون ملاذاً يتيح للمتطرف نشر أفكاره، كما أنه عند إطلاق سراح بعض المتطرفين المسجونين يستلزم فك ارتباطهم بالتطرف، فضلاً عن أن السجن قد يكون بيئة ملائمة لإحداث تغيير إيجابى، لا سيما بعد أن أصبح السجين المتطرف معزولاً عن جماعته وتنظيمه.
المخاطر الكامنة للمتطرفين المسجونين تظل قائمة ما لم تتكاتف الجهود لإعداد برامج تضمن إنقاذهم، ومن هنا أخذ موضوع تأهيل المتطرفين فى مصر اهتمام مركز المسبار للدراسات والبحوث، فأصدر كتاباً مهماً بعنوان: (تأهيل المتطرفين فى مصر: النماذج والتحديات)، كتب دراساته وبحوثه عدد من الباحثين والأكاديميين المهتمين بالظاهرة.عرضت دراسة افتتاحية الكتاب للخطوط العامة لاستراتيجيات مكافحة الإرهاب، مع التركيز على المسارات «الاستباقية» و«المتوازية مع الحدث الإرهابى»، ثم المواجهات، وأعادت النظر فى فاعلى الإرهاب والموقوفين، فقيَّمت بعض البرامج، وطرحت سيناريوهات أوضاعهم بعد المحاكمة، وسبل دمجهم فى المجتمع، وحددت أزمات التطبيق، وتحدّيات برامج المكافحة.
كما تناول الكتاب سردية «إعادة إدماج عناصر التنظيمات الإرهابية فى الحالة المصرية»، انطلاقاً من تقويم مفهوم الاندماج نفسه من زاوية دراسات الأمن الفكرى، وأسباب وصول المتطرف لمرحلة الاندماج، ومحاولة إعادة إدماج التائبين، والعقبات التى تواجه استراتيجيات الدمج، وربط نجاحها بالطريقة التى انتهى بها الفعل الإرهابى، عبر واحدة من المسارات الثلاثة: الهزيمة نتيجة الضغط، التفكك، إغراء الاندماج داخل النظام السياسى.
وقد لاحظ الكتاب فى أحد فصوله أن برامج الدمج يجب أن تأخذ فى الاعتبار الخصوصية المجتمعية والتاريخية للمستهدفين (يعنينا هنا مصر)، والتركيز على الرعاية الاجتماعية اللازمة لعمليات الدمج والتأهيل، وتتبع مراحل التجنيد؛ بدءاً من فكّ ارتباط المتطرف بجماعته؛ وإيجاد الحاضنة البديلة؛ وإعادة بناء الثقة فى المجتمع، لكسر جدران العزلة الشعورية التى استثمرت فيها التنظيمات المتطرفة.
ومن أهم ما احتوى عليه الكتاب تلكم الدراسة التى قيَّمت التجربة المصرية فى دمج المتطرفين؛ عبر تشريح منهج تحفيز العقل المتطرف، وبحث نمط التدين الصراعى؛ الذى يتبنى الرؤية الأحادية، ويعتمد الوثوقية الإقصائية، والتعبد بمفاهيم التقية والسرية واليأس والعنف، وتقديس الخطوات نحو العزلة الشعورية، التى يحميها بالمبالغة فى الدفاعات النفسية، كالإنكار والتبرير والتهويل والإزاحة، واستدعاء الكراهية والمحنة والمظلومية والاضطهاد.
وأبرزت هذه الدراسة استراتيجيات تفكيك التطرف المفرط فى بيئة السجون، التى يحذر من إمكانية تحولها إلى محضن تجنيد، ما لم تؤخذ خطوات التأهيل الإيجابى عبر برامج يعمل عليها المتخصصون فى علم النفس والاجتماع والتربية، مع دور المؤسسات الدينية، من خلال نشر وتدريس ثقافة الخلاف الدينى والتنوع المذهبى والفكرى.ووضع الكتاب فى أحد فصوله تجربة اندماج الجماعة الإسلامية المصرية، بالتركيز على جانب المراجعات التى انطلقت عام 1997، وأفضت إلى تجربة مصرية حاولت الدول المجاورة استنساخها فى مكافحة التطرف، وهنا تأتى وثيقة مهمة عبارة عن شهادتين: الأولى للقيادى البارز فى تجربة المراجعات، الكاتب الكبير الدكتور ناجح إبراهيم، والثانية للقيادى السابق نبيل نعيم.
ولم يغفل العمل إلقاء الضوء على بعض التجارب الدولية فى برامج فكّ الارتباط ورعاية السجون التى اهتمت بها الحالة المصرية، فمر على نماذج مختلفة، سواء على المستوى العربى كالحالة السعودية، أو على المستوى الدولى، كالحالة الأمريكية والدنماركية والألمانية، كما لم يغفل الكتاب وجود دراسة عن العلاقة بين المرأة والتنظيمات الإرهابية، لبيان مدى تأثير وتأثر النوع الاجتماعى بالظاهرة الإرهابية.
فات الكتاب تسليط الضوء على مراجعة حقيقية وتأهيل ذاتى، هذه المراجعة ربما تُعد -فى تقديرى- أقوى وأهم المراجعات الفكرية لمجموعة من الإخوان داخل السجون المصرية، وهى المراجعات التى قادها الباحث الإخوانى «عمرو عبدالحافظ» فى سجن الفيوم بمصر، وانتهى هو ومجموعته إلى بيان فساد منهج جماعة الإخوان ومؤسسها حسن البنا، وفق منطلقات علمية غير هشة قائمة على الإقناع، اعتمد فيها عمرو وإخوانه على طرح غاية فى الموضوعية والعمق والترتيب والتأثير والحجة، ويمكن الانتفاع بهذه التجربة، وإدراك أسباب تكون معينة لتصميم برامج فى إعادة تأهيل المتطرف، وحاولت جماعة الإخوان بذل جهود مضنية لوأد أو وقف أو تعطيل شيوع هذه المراجعات التى صدرت فى ثلاثة كتب.وفى النهاية هو جهد كبير جداً من مركز المسبار للدراسات والبحوث بالإمارات.