تقديم
يواصل مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «برامج تأهيل وفكّ ارتباط المتطرفين بالعنف: النماذج والمناهج» (الكتاب السادس والتسعون بعد المئة، أبريل (نيسان) 2023) دراسة برامج «نزع الراديكالية» (Deradicalisation) و«فكّ الارتباط» (Disengagement)، فيركّز على برامج تأهيل المتطرفين (Rehabilitation)، وتدريب المُدرِّبين، في مختلف الدول، عبر مقارنة مجموعة من برامج نزع التطرف، ومتابعة أنماط تأهيل ومساعدة المتطرفين على تأمين مسارات العودة عن التطرف، وتحفيز اندماجهم في المجتمعات. فيبدأ بتحرير المفاهيم، وسبرها، ويرصد الدراسات السابقة، ثم يطوِّف في مختلف النماذج في دول العالم المتلظية بنيران تطرف المحليين أو العائدين من بؤر النزاعات؛ بدايةً من الولايات المتحدة وكندا إلى فرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا، وصولاً إلى كينيا والباكستان. استندت معظم البرامج المبحوثة على عناصر المناهج المتباينة؛ والمدارس النفسية والاجتماعية والأيديولوجيّة المتعددة، بالإضافة إلى المكوّنات العملانية في بناء البرامج استنادًا إلى الظروف المحلية الغالبة، والأحداث السياسية المؤثرة.
قدَّمت فاتحة الدراسات، وصفًا للأبحاث الحيّة التي تناولت برامج فكّ الارتباط ونزع التطرف، فنوّهت فيها الباحثة البرتغالية كاتيا دي كارفالو (Cátia de Carvalho) بالخلط المريع في الأدبيّات والمفاهيم، فلاحَظَت أنه غالبًا ما استُخدم مصطلحا «نزع التطرّف» و«فكّ الارتباط»، كأنهما مترادفان في الأدبيات العلمية، مما أحدث التباسًا في اللغة الإنجليزية ثم انسرب مضاعفًا إلى اللغات الأخرى؛ كما نلاحظ في العربية التي يضطرب فيها استخدام ألفاظ التعصّب والتشدد والتطرف والإرهاب والراديكالية والأصولية والإسلاموية والجهادوية وغيرها. تُمايز الباحثة بين جملة من المصطلحات موِضَّحةً أن نزع التطرّف أو فكّ الارتباط قد يحدث على مستوى الفرد أو الجماعة، ثم تعرض أبرز الاستراتيجيات المُصَمَّمة لنزع التطرف أو فك الارتباط؛ وتقيِّم افتقارها إلى الإطار النظري، ساعيةً لتطويره عبر مناقشة الملاحظات التي تَتَبَعَّت أماكن التأهيل، وشخوص القائمين عليه؛ وأفكار مُروِّجيه، وحتى أنواع الجهات الحكومية الداعمة له مثل الوزارات الأمنيّة أو الدوائر شبه المستقلة والجهات غير الحكومية. وتضع الباحثة رجال الدين، وصنّاع سردية الاعتدال في خانة «الميسرين»، جنبًا إلى جنب مع علماء النفس والأطباء النفسيين، داعيةً إلى توسيع دائرة التواصل بين الأكاديميين وصنّاع البرامج في الجهات المسؤولة داخل الدول.
بينما استظهرت الباحثة الألمانية نينا كايساهيجه (Nina Käsehage) أهمية المعرفة الدينية في تصميم وتنفيذ برامج فكّ الارتباط بالتطرف، انطلاقًا من فكرة الحوار مع المتطرفين؛ منافحةً عن خطاب «فصل الدِّين عن العنف» ومتبنيةً التفريق بين «التَّدين والدِّين»، لتصل إلى أن الغاية ليست تحطيم تَديّن المتطرّفين الراديكاليين أو وجوب ابتعادهم عن عقيدتهم، وإنما كشف سوء تفسيرهم العنيف للدِّين، حسب تصورها. ثم تشير إلى برامج يقودها ممثلون دينيون يؤمنون بالتعايش السلمي الخالي من التمييز، فتلفت إلى تجارب منع الإسلام السياسي والعنصرية؛ عبر تعزيز مفاهيم الحوار في «المدن القوية» و«الآمنة» وتمتين التحالفات بينها.
يتم صياغة البرامج لتأهيل المتطرفين بعد القبض عليهم داخل البلد المعني، أو وضعهم في الرقابة القانونية، ولكنّ إيدو ليفي (Ido Levy) سعى إلى دراسة تحديات تأهيل المتطرفين الذين استُعيدوا من مناطق النزاع التي كانت تتحكم فيها داعش. ويلاحِظ أنّ معظم الدول الأوروبية وأستراليا لا تزال متردّدة في «الاستعادة»؛ لأنّ معظم العائدين سيخرجون للقاء المجتمع في النهاية، وربما لا يتأثرون ببرامج التأهيل ما لم تكن قويّة، لذا فإنّ بعض الدول اعتمد سياسة «إبعاد» المتطرفين المقبوض عليهم (هولندا). يؤكد الباحث أهمية التعامل مع الأطفال الذين لُقّنوا أيديولوجية داعش بالتركيز على إعادة تعليمهم، وإمكانية الوصول إلى طرق للتعامل مع صدماتهم، ويشير إلى الحاجة لبرامج تستوعب هذه المؤشرات في استراتيجيات التأهيل. ويقدِّر، أنه ربما يشعر الأفراد المرتبطون بداعش، الذين يسعون للعودة إلى الوطن بخيبة أملٍ حقيقية في التنظيم، ولكن الأيديولوجية الإرهابية قد تظلّ قويّةً في أرواحهم وعقولهم. وتشير الدراسة إلى الجدل المحيّر بشأن أولوية تركيز برامج نزع التطرّف؛ هل تكون على الحدّ من السلوك العنيف فحسب، أم يجب أن تستهدف تغيير نظرة المرء إلى العالم أيضًا!
فصّل الباحث توماس دورنون (Thomas Dournon)، البعد السياسي لبرامج نزع التطرّف الفرنسية مُفسرًا التّباين الكبير، في رؤى البرامج والنظريات التي تغذي فهم السلطات الفرنسية العامة، وتحدد النهج الذي تسلكه حيال مسألة التطرف. فيشير إلى خمسة مناهج: الأول المنهج الثقافي الذي تبناه الكاتب الفرنسي جيل كيبيل (Gilles Kepel) وتلاميذه من أمثال هوغو ميشرون (Hugo Micheron)؛ يركّز على التنشئة الاجتماعية، والمنهج الثاني الذي يعتقد بوجود تطويق وانعزال معرفي يؤدي إلى نظرية السّيطرة على العقل، طرحته دنيا بوزار (Dounia Bouzar)؛ أما النهج التقليدي فيعتمد على فكرة تمايز الأجيال بالنسبة للمهاجرين، فالجيلان الثاني والثالث يرغبان في اتّباع دِين أكثر امتلاءً بالهوية التمايزية، قارنها أوليفييه روا (Olivier Roy) بتطرّف شريحة من الشباب الألماني اليساري؛ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وهم الذين نظموا أنفسهم في معارضة جيل آبائهم، المشتبه بأنهم كانوا على علاقة بنظام الرايخ الثالث. أما المنهج الرابع فهو منهج الأقلوية السياسية الذي يُلغي أهمية العامل الدِّيني في عملية التطرّف، مما يجعل التطرّف الإسلاموي مماثلًا للحركة الانفصالية واليسار المتطرّف. أما المنهج الخامس فهو نموذج التهجين (Paradigm of Hybridization)، الذي تفضّله الدوائر الأمنية، بحيث إنه يقارب المنظمات الإرهابية بوصفها هياكل متعدّدة تقوم على القوّة والعنف. ويمكن، وفقًا لعالم الجريمة الفرنسي آلان باور (Alain Bauer)، أن تتبنّى هذه المنظمات أساليب عمل من ثلاثة أنواع: إجرامية، أو إرهابية، أو متشدّدة سياسيًا. ويمكن أن توجد هذه الأساليب معًا داخل الهيكل نفسه. وفي الساحة الفرنسية تجارب مبنية على قياسات كثيرة، ومحددات متعددة، ومنها تجربة مركز الوقاية والاندماج والمواطنة (CPIC) المقام في مدينة بونتورني (Pontourny). وقد أنشئ في إطار خطة العمل المعنية بمكافحة التطرف والإرهاب لسنة 2016، وكان من المقرّر في ذلك الوقت توسيعها لتشمل مختلف مناطق الأراضي الوطنية سنة 2017. إذ قدّم البرنامج المعمول به في (25) مكانًا الدعم لفرد واحد فقط، وحُكم عليه لاحقًا بالسجن بضعة أيام لارتكابه جريمة تقع تحت طائلة القانون. وكان العدد الأقصى للمستفيدين من المركز تسعة أفراد في مقابل (27) موظفًا بموازنة تبلغ (2.5) مليون يورو.
ناقش علي نور حسن حاج (Alinur Hassan Haji) «الاستراتيجية الوطنية الكينية في مكافحة التطرف العنيف» (National Strategy to Counter Violent Extremism) لا سيما الجزء المتعلق بفض الالتزام وإعادة الإدماج؛ إذ أطلقت حكومة كينيا عام 2015 برنامج عفو عن الأفراد، شمل -على نحو خاص- الشباب الكينيين ممن التحقوا بـ«حركة الشباب» في الصومال، لا سيما في المناطق المتوترة مثل: مقاطعات غاريسا (Garissa) ووجير (Wajir) ومانديرا (Mandera) التي توجد فيها غالبية صومالية ومسلمة، والمقاطعات ذات الغالبية المسلمة في «مومباسا» و«كوالي» (Kwale) و«لامو» (Lamu) و«إيزيولو» (Isiolo) و«مارسابيت» (Marsabit) وإلى حد ما «كيليفي» (Kilifi) والمدن الرئيسة والبلدات على غرار «نيروبي» (Nairobi). أظهر «برنامج العفو وإعادة الإدماج» تأثيرًا كميَّا، بالإضافة إلى مواجهته تركيبة متنوعة من التحدّيات مثل عدم وجود قانون للعفو، وانتشار حالات القتل خارج نطاق القضاء، مع غياب المشاركة الكافية للمجتمعات المحلية، وضعف نظام العدالة الجنائية. تضمنت الدراسة شهادات من مفتشين في سجن «شيمو لا تيوا» (Shimo La Tewa) حيث يحتجز مجرمين مدانين وموقوفين، يأتي معظمهم من منطقة الساحل، بمن في ذلك الجناة من الإرهابيين وممارسي «التطرف العنيف».
تطرق الباحث والمحاضر في جامعة العلوم القانونية والسياسية في بماكو، مادي كانتي، إلى استراتيجية مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل وبحيرة تشاد، وركّز على برامج إعادة الإدماج فيهما. اتخذت دول الساحل خطوات عدة للتعامل مع التنظيمات الإرهابية، ولكنها فشلت بشكل عام في تطوير استراتيجيتها للتعامل مع الجماعات الإرهابية في المنطقة؛ لتَرَدّد عدد من قادة منطقة الساحل في إدراك التهديد المتنامي لها.
عَرَضَت تهمينا أسلام رانجها (Tehmina Aslam Ranjha) برامج باكستان في نزع الراديكالية؛ فرصدت حالتي اليافعين في سارغودها وجانغ بولاية البنجاب؛ وقدَّرت أنَّ تبنِّي الراديكالية ونزعها يعتمدان على الروابط الأسرية والاجتماعية، مع إدراك لدور المواد المبثوثة في شبكة الإنترنت. لقد نفّذت الحكومة المحلية برامجها في تأهيل المتطرفين السابقين في إقليمي البنجاب وخيبر (Khyber) وبختونخوا (Pakhtunkhwa). بدأ الأول عام 2010 بالشراكة مع «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» (United Nations Development Programme) و«مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة». بينما أُطلِق برنامج حكومة البنجاب سنة 2015، بالإضافة إلى ستة برامج أخرى. تناولت الدراسة حالتي جماعة «عسكر جانغفي»، التي يتهمها تقرير «إدارة مكافحة الإرهاب» في البنجاب، بتجنيد صبية من المدارس الدّينية في المدينة، باستمالتهم عبر المال والحوافز الأخرى لكي ينضموا إلى صفوفها. والحالة الثانية في سارغودها، تبيّن أن تنظيم «تحريكي طالبان باكستان» (Tehreek–e–Taliban Pakistan) ينشط في مجال تجنيد الفتيان أيضًا؛ ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة «إكسبرس تريبيون» (Express Tribune)، فإنه يستخدم منصات التواصل الاجتماعي في الوصول إلى الأطفال والمراهقين. فكشف تحقيق أُجري مع مراهقين من منطقة سارغودها اختاروا طواعية إجراء مقابلات، أنَّ ما يربو على (80%) منهم كانوا دون سن (20) سنة وقت انتمائهم إلى منظمات متطرفة. ويبدو أن العامل الرئيس الذي يسهم في تطرفهم، مرده تأثير عمليات ديناميكية في الأسرة، وتحديدًا الميل الأسري نحو طائفة معيّنة وعوامل جدلية أخرى تبنتها الباحثة.
ناقشت الباحثة البريطانية جوليا روشينكو (Julia Rushchenko) دور الدراسات الجندرية في تفسير انخراط النساء في التطرف وبرامج تأهيلهن، فتناولت دمج منظور الجندر في رصد برامج إعادة التأهيل، وركّزت على تقييم كل برنامج وعلاقته بالجندر، وقدّمت تقييمًا شاملًا للأدلة البحثية المنشورة بشأن الاحتياجات والتحدّيات التي تراعي الجندر، ومقياس معدّل الحضور أو الإنجاز أو المشاركة وكيف يمكن تفسيره من منظور الجندر. تنتهي الدراسة بتوصيات لدمج منظور الجندر في بناء قدرات مقدِّمي الخدمات وعلماء الدِّين؛ والأنشطة الهادفة إلى فهم الاحتياجات النفسية والاجتماعية للعائدين القائمة على الجندر ومعالجتها؛ وبرامج التمكين الاجتماعي الاقتصادي للمرأة؛ وإقامة الحوار بشأن عدم المساواة بين الجنسين وتأثيره المحتمل على إعادة الإدماج.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب والعاملين على خروجه للنور، والشكر موصول للزميلة مها غازي التي نسقت العدد، ولزملائها الكرام، ونأمل أن يسد هذا الكتاب، ثغرة في المكتبة العربية.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
أبريل (نيسان) 2023