دبي
يتناول الكتاب مسارات الحكم في تونس، منذ عام 2011 حتى أواسط عام 2021، تاريخ حلّ البرلمان التونسي، وتقليص نفوذ «إخوان تونس» بعد عشريّة، ختمها فخامة الرئيس قيس سعيّد، بقرارات يوم 25 يوليو (تموز) 2021، التصحيحية التي جاءت على إثر تظاهرات حانقة طالبت بتنحي الحكومة وحل البرلمان. بالقدر الذي أزاحت فيه القرارات حركة النهضة؛ فإنّها طرحت أسئلة حول مستقبلها، وبعد تنامي الخلافات، والمناورات داخلها؛ تجمعت أسئلة متشابهة عن ظاهرة سقوط الإخوان، وخروج الشعوب ضد كل طبقات الحركات الإخوانية والإسلاموية، فبعد سقوطها من الحكم في مصر، والسودان، هل يعني انهيار أغلب أعمدتها في تونس نهاية تجربة الإسلام السياسي في الحكم بالدول العربية؟ هل أثبت الإسلامويون مرة أخرى أنهم غير قادرين على إدارة الدولة؟ وهل هذه النهاية، تقتضي استئناف مشاريع بديلة، أم إنها ستؤدي كما المعتاد إلى تحوّر، وتحايل على الواقع؟
يأتي هذا الكتاب الشهري الجديد تتمة لإصدارين سابقين نشرهما مركز المسبار بين عامي 2011 و2012، الأول: «الخارطة التونسية بعد الثورة: النهضة وأخواتها»، والثاني: «الخارطة التونسية بعد الثورة: السلفيون التقدميون، الشيعة». شارك في الكتاب باحثون وأكاديميون ومفكرون متخصصون في الشأن التونسي والحركات الإسلاموية. سعت الدراسات إلى مناقشة وتحليل تداعيات القرارات الرئاسية على حركة النهضة ضمن مقاربات عدة، فإلى جانب المقاربة التاريخية، التي ساعدت على فهم تشكل الإسلاموية التونسية والالتباس المرافق لمراحل التأسيس، والفصام الأيديولوجي بين الدعوي والسياسي، والعزلة عن المجتمع ومعاداة التحديث؛ أبانت المقاربة النقدية، المخاطر المترتبة على سعي «إخوان تونس» إلى أخونة المجتمع وفرض قوالب اجتماعية متطرفة وأدوات تمكين ونفوذ تهدد، ليس البنى الاجتماعية فحسب، وإنما مقدرات الدولة وهويتها الحداثية.
حدث 25 يوليو (تموز) في تونس: الطبيعة والآفاق
يرى محمد الحدّاد -أكاديمي وباحث تونسي، أستاذ كرسي اليونسكو للأديان المقارنة (تونس)- أنه من المهم إدراك الاختلاف بين الانتفاضة والثورة. تختلف الانتفاضة الاجتماعية عن الثورة بطابعها المطلبي، فهي لا تطرح فلسفة جديدة للحكم، وإنما تطلب من الحكم تحقيق مطالب معينة. حدث 17 ديسمبر (كانون الأول) 2010 كان مطالبة بتوفير العمل للعاطلين وضمان التنمية للجهات المحرومة. وحدث 14 يناير (كانون الثاني) 2011 كان مطالبة بالحرية والانعتاق من الحكم الفردي. تحقّق المطلب الثاني، وهو مطلب سياسي أساساً، ولم يتحقّق شيء من الأول، أي المطلب الاجتماعي. بل أصبح السياسي حائلاً دون تلبية المطلب الاجتماعي، لذلك أصبح 14 يناير (كانون الثاني) نقيض 17 ديسمبر (كانون الأول)، مع أنهما في الأصل متكاملان. مضيفًا أنه يمكن تقسيم الفترة التي عاشتها تونس منذ حدث 17 ديسمبر (كانون الأول)/ 14 يناير (كانون الثاني) إلى 25 يوليو (تموز) إلى مرحلتين: مرحلة انتقالية من 2011 إلى 2014 تميزت بالانهيار الاقتصادي والأمني مقابل ما شبّه على أنه نجاح سياسي تمثل في صياغة دستور 2014، وتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية. ثم مرحلة تجريبية كان يفترض خلالها تطبيق الدستور في ظلّ المنظومة السياسية الجديدة.
يورد الحداد أن الرئيس قيس سعيد مصرّ على أن لا يلتزم بفترة انتقالية لا محدودة ولا محدّدة. ولا يوجد في الفصل (80) من الدستور ما يفرض على الرئيس أن يتقيّد بأية فترة زمنية. وأشار إلى ما ردّده قيس سعيد أن الديمقراطية التمثيلية انتهت في العالم، لكن يرى الباحث في الواقع أنّ كل النظم الديمقراطية ما زالت تعتمد هذا النظام، بالرغم من أنه محلّ الكثير من الانتقادات من مثقفين وجمعيات مدنية. متسائلا: هل ينبغي أن يُنظَر خارج الغرب، إلى روسيا –مثلاً- حيث النظام ليس ديكتاتورياً كما في العهد الشيوعي، لكنه أيضاً ليس ديمقراطياً على الطريقة الغربية.
يضع الباحث ثلاثة عناصر قوة تستمدها أساساً حركة النهضة منها: العنصر الأول: توظيفها للدين واستعماله للتجييش في الأوساط الشعبية والريفية. لكن قيس سعيد بخطابه المحافظ والديني انتزع منها هذا السلاح. العنصر الثاني: استعمالها لأجهزة الدولة لاستقطاب الطامحين للمناصب، وتوفير الأموال وتوزيعها على الأنصار. لكن الكثير من أنصارها تخلوا عنها منذ 25 يوليو (تموز) 2021. العنصر الثالث من عناصر القوة لدى هذه الحركة؛ هي تنظيمها القوي وخبرتها العريقة في مواجهة الأزمات وارتباطاتها الخارجية الواسعة. لذلك لا يمكن الاستهانة بأمرها. ويشير إلى أن القوى الغربية، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لن تعارض قيس سعيّد ولن تسانده، وهي مصرة على تحديد سقف زمني للمرحلة الانتقالية وتوافر دستور وحكومة وبرلمان، دون المطالبة باستعادة حكومة المشيشي أو برلمان الغنوشي، ولا حتى المحافظة على دستور 2014. وبقاء هذه القوى على حياد يعني أيضاً عسر حصول تونس على مساعدات وقروض أجنبية ذات أهمية، في ظرف تمر فيه المالية العمومية بضغوط هائلة وغير مسبوقة، تجعلها في حاجة ماسة وسريعة إلى أموال كهذه.
إخوان تونس: نهاية التوافق السياسي وفتح ملفات المحاسبة
تناولت دراسة منذر بالضيافي -باحث تونسي في الحركات الإسلاموية- تداعيات قرارات يوم 25 يوليو (تموز) 2021؛ وموقف حركة النهضة منها، ومسار «إخوان تونس» بعد عام 2011، وتحديداً علاقتهم بالمجتمع والنخب، وتركز على تجربتهم في الحكم. فهل نجحوا في «الاندماج» المجتمعي والسياسي، أم إنهم بقوا «جماعة» أو «طائفة» مغلقة على نفسها؟
يخلص إلى أنه على الرغم من بعض مظاهر «الليونة» و«المناورة» التي تعامل بها الإسلامويون قبل وبعد وأثناء ممارسة الحكم، فإن أزمة الثقة لا تزال تميز علاقاتهم بالعديد من قوى المجتمع وخصوصاً النخب. مما يجعلهم مطالبين بتفنيد كل المخاوف عبر التعاطي بإيجابية وبتفاعل عقلاني مع المجتمع التونسي، من خلال الانتصار إلى «إسلام تونسي» يأخذ في المقام الأول خصوصية التجربة التحديثية التونسية، التي تعود إلى حركة الإصلاح في القرن التاسع عشر، وتعد دولة الاستقلال استمراراً لها. كذلك العمل من أجل التأسيس لتوافق بين هوية المجتمع وعلمانية الدولة، والابتعاد عن الأخطاء القاتلة التي طبعت تجارب حكم الإسلاموية، ولعل الضمانة في عدم الوقوع في مثل هذه التجارب، تكمن في كون المجتمع التونسي له من الحصانة ما يجعله قادراً على حماية مكاسبه، وهذا ما صدقته الوقائع القريبة من خلال انتفاضة غالبية التونسيين على حكم «الإخوان»، وعزلتهم مجتمعياً وسياسياً. كل تجارب مشاركة حركات الإسلام السياسي في الحكم، كانت فاشلة بما فيها تجربته في تونس، خلال العشرية الأخيرة. وعلى الرغم من الفرصة التاريخية التي منحت لهم في تونس، والتي كانت مهيأة للنجاح بحكم طبيعة المجتمع والدولة في تونس، الذي يتقبل الآخر وله إرث تحديثي، وثقافة الدولة المركزية متجذرة فضلاً عن طبقة وسطى كبيرة، لكن ثبت من خلال التجربة التونسية التي امتدت على عقد كامل –مثلما بينا في هذه الورقة- أن «الجماعة» تتصرف بمنطق «الطائفة» و«التمكين»، وليس بمنطق الحزب السياسي العصري، فرفضها المجتمع قبل أجهزة ومؤسسات الدولة، بعد أن خربت مسار «الانتقال الديمقراطي» الذي كان واعداً.
خارج الجماعة: دراسة في ظاهرة المنشقين عن حركة “النهضة”
تناولت دراسة منتصر حمادة -باحث مغربي متخصص في دراسات الإسلام السياسي- ظاهرة الانفصال أو الانشقاق عن المشروع لدى الأحزاب الإسلاموية، من خلال الاشتغال على الأنموذج التونسي المجسّد في حركة «النهضة»، تفرعت الدراسة على أربعة محاور: الأول مخصص لاستعراض السياق العام والخاص بالظاهرة، ثم محور مخصص للتوقف عند أنماط هذا الانشقاق، ومحور ثالث يروم التوقف عند بعض المفاتيح التي نزعم أنها تساعد في تفسير أسباب الظاهرة، أي أسباب الانفصال، وأخيراً، محور مخصص للتوقف عند آفاق الظاهرة، وهذا محور يطرق باب استشراف معالم مرحلة ما بعد الانشقاق، ويضعها في سيناريوهات مرحلة ما بعد انشقاقات 25 سبتمبر (أيلول) 2021، في أربعة اتجاهات على الأقل: أولا: أفق الحزب البديل: يُفيد هذا السيناريو بأننا إزاء تغييرات هامة وربما نوعية قد تطال حركة «النهضة» خلال السنوات القادمة، أخذاً بعين الاعتبار الوزن التنظيمي والرأسمال الرمزي للموجة الجديدة من الانشقاقات. ثانيًا: أفق امتصاص الانشقاقات: يُفيد السيناريو الثاني بأن لحركة «النهضة» القدرة على امتصاص التأثيرات السلبية لهذا الانشقاق التنظيمي الوازن، وذلك لعدة اعتبارات. ثالثًا: أفق الانشقاقات المزيفة: يُفيد السيناريو الثالث بأن هذه الاستقالة ليست انشقاقاً حقيقياً ووازناً، بقدر ما تشبه إعادة تجارب استقالات مزيفة جرت في فترات سابقة. رابعًا: أفق التصلب الإخواني: نأتي للسيناريو الرابع والأخير، وهو السيناريو الأكثر تشاؤماً، وأشارت إليه إحدى المتابعات الإعلامية، مفاده أن المنشقين الجدد عن حركة النهضة هم فصيل متشدد داخل الحركة، قد يؤسسون لحزب متكلس فكرياً وعقائدياً يتصادم مع دولته ونخبه.
يخلص الباحث إلى أن الوجه الآخر لهذه الانشقاقات يهم مستقبل الإسلاموية الإخوانية بالتحديد، سواء في تونس أو في المنطقة، ومفاده أننا إزاء انشقاقات واستقالات تساهم في نزع وهم هالة القداسة والمثالية عن التنظيمات الإسلاموية وتعرِّي حقيقتها.
مشروع تمكين حركة النهضة في تونس (1969-2021): الأهداف والتعثر
سعت دراسة أحمد نظيف -باحث تونسي متخصص في دراسات الإسلام السياسي- إلى الكشف عن تحولات مشروع التمكين الإسلاموي في تونس، بالتركيز على حركة النهضة التي كانت تعرف قبل عام 1989 بحركة الاتجاه الإسلامي، عبر رصد مشروع التمكين من داخل الدولة الذي سلكته الحركة بين أعوام (2011-2020)، والبحث في أسباب تعثره.
يرى الباحث أن «التمكين» في المشروع الإخواني يأخذ موقعاً تتويجياً في البعد الخلاصي لهذه السردية، ذلك أنه منتهى آمال وجهود عمل الجماعة، سواءً كان جزئياً، أو كلياً بكل ما يعنيه من سيطرة على السلطة والثروة والمجتمع. وفي هذا الشأن لا تختلف الجماعة كثيراً عن بقية التيارات الخلاصية يساراً ويميناً. وفي تونس لم يكن فرع الجماعة شاذاً عن القاعدة الإخوانية في سلوك مشروعه الخاص للتمكين، والذي شهد -بدوره- تحولات جذرية طبعتها التحولات التاريخية والسياسية التي عاشتها البلاد، منذ نشأة الإخوان نهاية الستينيات حتى اليوم. حيث انطلقت الجماعة في مسار طويل من محاولات تقويض الدولة القائمة وإعادة بنائه وفقاً لمشروعها الأيديولوجي، إلا أن تلك المحاولات فشلت جميعها، لينتهي التنظيم الإسلاموي إلى الشتات مع بداية التسعينيات. لكن مع عودتها إلى الفعل السياسي العلني والمباشر، في أعقاب سقوط نظام زين العابدين بن علي، سلكت الجماعة الإخوانية التونسية مسلكاً جديداً في تنفيذ مشروع التمكين، لا يقوم على تقويض الدولة وإعادة بنائها، بل على الدخول ضمن المصالح المشتركة للطبقات السائدة، ومحاولة الاستيلاء على الدولة من خلالها.
وقد دأبت في هذا الاتجاه على سلوك مسلكين هما: بناء حزام نخبوي نافذ، وبناء شبكات اقتصادية قوية. غير أن لحظة 25 يوليو (تموز) 2021، نسفت كل هذه الخطط، لتعيد قرارات الرئيس قيس سعيد، الجماعة إلى نقطة الصفر. ليفتح ذلك المجال أمام تحليلات تتوقع نهاية الإسلام السياسي في البلاد. لكن، ولئن شكلت 25 يوليو (تموز) ضربة قوية لحركة النهضة على المستوى السياسي، يمكن أن تعجل بتفككها التنظيمي، إلا أنها لا تعني أبداً تفكك قاعدتها الاجتماعية. أو أفولها كما ترجح تحليلات سياسية عدة، فنحن إزاء حركة نشأت وعاشت في قلب الأزمة، ولديها من المرونة والليونة والقدرة على التبرير ما يجعلها قادرة على التأقلم مع مصاعب المرحلة، وإعادة تشكيل نفسها في أشكال جديدة.
حركة النهضة والإرباك بين الحزب والجماعة
ناقش أسامة سليم -كاتب وصحفي تونسي- في دراسته جدلية أحزاب الإسلام السياسي عموماً وحركة النهضة خصوصاً، بالتركيز على الجماعة وخزّانها الانتخابي، والتنظيمات الموالية لها في سياقات زمنية مختلفة، زمن التأسيس والحكم من خلال العودة إلى الجذور الاجتماعية المساهمة في نشأة حركة النهضة، والسياقات السياسية والتاريخية المرافقة لها، ومن ثم إعادة قراءة مدى تغلغل وتجذّر الحركة في تونس بعد سنة 2011، في ضوء النتائج الانتخابية التي حصدتها، ليتم في مرحلة أخيرة تقييم الفراغ والإرباك والوحدة التي عاشتها الحركة إثر إجراءات 25 يوليو (تموز) 2021.
يخلص الباحث إلى أن تاريخ حركة النهضة يحفل بالازدواجية في المواقف والتخلي عن عناصرها والاستثمار فيهم، وما الاستثمار الرخيص الذي قام به رئيس الحركة خلال انتحار سامي السيفي (أحد سجناء الحركة سابقاً) سوى تأكيد على ذلك.
انطلقت جذور الحركة من الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية، التي كان المنتسبون إليها من ذوي الدخل المحدود والفئات الهشّة، أصبحت قياداتها من أثرى أثرياء تونس. يقول مورو خلال إحدى الحملات الانتخابية في الجنوب التونسي، خلال الانتخابات الرئاسية السابقة سنة 2019: «والدتي هي عاملة خياطة، والد راشد الغنوشي عامل بناء، علي العريض والده كان عاملاً يومياً، نحن فقراء وأبناء فقراء، وهذه الحركة حركة فقراء». وبالرغم من أن تصريح مورو كان صحيحًا، فهو يختزل جزءاً فقط من الصحّة، حيث إنّ ثراء قيادات الحركة ازداد خلال فترة وجيزة فقط بعد الثورة، وكان هذا الثراء على حساب عديد من المنخرطين والمناضلين الذين استثمرت الحركة في مظلمتهم ومآسيهم وتخلت عنهم، وما غضب القواعد والشعب من الحركة إلا تأكيد على نهاية الحركة أو اقترابها من النهاية.
حلفاء حركة النهضة وحدث 25 يوليو “تموز”: المواقف والدلالات
بحث ضو الصغيّر -كاتب وباحث تونسي- في دراسته مدى نجاح الفرع التونسي للإخوان المسلمين في خدمة الأجندات الإقليمية والدولية وتحقيقها، أو أنه صار عقبة أمامها وعالة على داعميه الأسخياء بعد الضربة القاصمة، التي تلقاها إثر القرارات الرئاسية في 25 يوليو (تموز) 2021.
يسلط الباحث الضوء البداية على نشأة حركة الإخوان التونسية وأهم محطاتها ومرجعياتها. إضافة إلى سياقات انبثاق تحالفاتها مع داعميها الحاليين، ويستعرض معطيات ومقدمات تضيء ممارسة هؤلاء المتحالفين الإقليميين ومواقفهم من منعرج 25 يوليو (تموز). ويستشرف مستقبل العلاقات بين حركة النهضة وأولئك الداعمين الإقليميين.
يخلص إلى أن التكيّف مع المتغيرات الإقليمية وتلافي الأخطاء السابقة وتقديم مصالح الدولة على الجماعات، مهما كانت طيّعة ومتعاونة، أصبح التوجه الرسمي لحليفي الإخوان البارزين. ويرى أنه من الواضح أن الإخفاق الإخواني في مختلف الساحات العربية انتخابياً وعسكرياً وشعبياً وسياسياً قد زاد في تعميق هذه القناعة؛ مما دفع هذين الحليفين، الطامحين للعب أدوار إقليمية متقدمة، إلى مراجعة الكثير من سياساتهما تجاه هذه الجماعات الجانحة إلى التصلب والانغلاق، إن على المستوى العقائدي، كما هو الحال مع الجناح المصري، أو على المستوى السياسي كما وقع أخيراً مع الفرع التونسي، الذي بات يصارع للبقاء في المشهد السياسي التونسي، فما بالك بضمان مصالح الآخرين. ويرى أن دراسة مواقف المحور الداعم للإخوان التونسيين انطلاقاً من حدث 25 يوليو (تموز) 2021 وتعاملهم معه، تؤكد ضمور هذا المحور وتراجع سطوته ونفوذه المسجلين سابقاً في مختلف الساحات العربية الساخنة منها والناعمة. إلى جانب تغير أولويات لاعبيه الأساسيين، وسعيهم الواضح إلى مراجعة خيارات بان فشلها وضآلة مكاسبها مقارنة بتكاليفها الفادحة على كل المستويات. كما كنا بصدد سيرة ضمنية لمسار الإخوان المسلمين، تونسياً وعربياً. فهذا التنظيم الحديدي، الذي قاوم لعقود مختلف المحن والهزات السياسية والأمنية، يبدو متصدعاً ومعزولاً في أول اختبار جدي. وأصبح مجرد مدافع عن وجوده وبقايا نفوذه، بعد أن أثبتت الممارسة السياسية زيف شعاراته وعجزه عن معانقة أشواق الشعوب وتطلعاتها، حين أتيحت له فرصة خدمتها وقيادتها. أما ارتباطه الوثيق بشبكة المصالح الما فوق قطرية، فقد تحول -بدوره- من مصدر استقواء وغلبة إلى محل استنكار ومساءلة، مما عجل بتلك النهايات والمآلات، وما جرى في تونس واحد منها.
مستقبل حركة النهضة بعد حدث 25 يوليو (تموز)2021
تستشرف دراسة عبدالجليل معالي -باحث تونسي في دراسات الإسلام السياسي- مستقبل حركة النهضة بعد 25 يوليو (تموز) 2021، وتحاول رسم الاحتمالات الممكنة، بعد قرارات الرئيس التونسي قيس سعيّد التي لم تكن تعني فقط خروجها من السلطة، بل تمتد أيضاً إلى وضعها في دائرة المساءلة الشعبية والسياسية، وربما القانونية عن حصاد عشر سنوات من الحكم. لا تطرح الدراسة مستقبل النهضة فقط من زاوية تأثّرها المباشر بحدث 25 يوليو (تموز)، وإنما بمساءلة ماضيها الفكري والسياسي والأيديولوجي، وباستحضار أزماتها الداخلية وترنّحها المتواصل بين منزلة الحزب ومرتبة الجماعة. وعلى ذلك فإن السيناريوهات التي وُضعت لمستقبل حركة النهضة راعت كل هذه الأبعاد: المدوّنة الفكرية للنهضة وقلق الحركة المزمن وارتيابها المستمر من بيئتها التونسية؛ ماضي الحركة وأزماتها الداخلية؛ علاقاتها الداخلية والخارجية وهندسة تحالفاتها؛ فقر برامجها وعدم قدرتها على الحكم؛ مقاربتها الخاصة للحكم وللديمقراطية، بوصفها أدوات تمكين لا وسائل حكم. ويحدد أعطاب حركة النهضة: عطبُ الأروقة الداخلية وأزمة الديمقراطية فيها؛ والعطبُ الفكري؛ والعطب الأخلاقي أو القطيعة مع الجماهير.
يقترح الباحث السيناريوهات المقبلة التي يمكن أن تتجه نحوها الحركة، محدداً إياها في: سيناريو الانقسام؛ سيناريو عملية الترميم: إبعاد الغنوشي؛ سيناريو الضمور؛ سيناريو الحلّ؛ سيناريو الاستفادة من لحظة 25 يوليو (تموز).
يخلص الباحث إلى أن اضطرار حركة النهضة إلى مراجعة تراثها ومرجعيّتها، سيضعها أمام احتمالين وخيارين: الأول: أن تعلن قطعها التام والنهائي مع الإسلام السياسي بما يعنيه ذلك، من وثائق ومرجعيات وصِلات (مع الإخوان المسلمين أو مع غيرهم)، وتعلن أنها حزب لا يتكئ بأي شكل على المرجعية الدينية، بما يمكن أن يؤدي -مثلا- إلى قبولها بحذف الإشارة إلى دين الدولة في البند الأول من الدستور (تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها)، وهو بند حرصت عليه حركة النهضة أثناء صياغة دستور عام 2014 على تضمين أنه لا يجوز تعديله. وهذا الخيار سيفقدها جانباً كبيراً من أنصارها وقواعدها، وسيفقدها أيضاً أحد أكبر منطلقات تفوّقها، وهو التوظيف الأيديولوجي للإسلام، والدمج المخاتل بين المطلق الديني والنسبي السياسي. أما الخيار الثاني: فيقوم على أن تصرّ الحركة على عدم مبارحة مدونتها الفكرية، ووقتها ستجد نفسها تتقاسمها مع تيارات إسلامية أخرى، يمكن أن تتزايد عليها في التشدد أو في المطالب الهوياتية، في مقابل أن تظل تحت تهمة كونها حزبا دينيا بما يعطل إرساء الديمقراطية داخلها، ويحول دون إطلاق عملية سياسية سوية في البلاد، باعتبار أن وجود جماعات دينية في الحكم أو في المعارضة سيفرض تجاور لغتين وقاموسين: واحدة سياسية ومدنية والأخرى دينية وعقائدية، هذا إضافة إلى أن كل تيارات الإسلام السياسي تُكنّ عداء دفيناً للدولة الوطنية ولمفاهيم الوطن والحداثة.
مصير راشد الغنوشي بعد أن رسم مصائر رفاقه
يقف هادي يحمد -باحث وإعلامي تونسي- في دراسته على مصير راشد الغنوشي، الذي بدأ مبكراً محاصرة المخالفين له، وعزل المتمردين عليه داخل حركته. كان هدفه تنصيب نفسه مرجعية وحيدة وقائداً أوحد داخل حركة الاتجاه الإسلامي بتونس. كما يمر على ازدواجيّة “الأستاذ” و”الشيخ” لدى الغنوشي الذي يقدم نفسه لهما على الدوام كونه حاملا لثقافتين: «دينية» و«عصرية».
يخلص الباحث إلى أن طوال أربعين سنة من التأسيس الرسمي لحركة النهضة، أحكم راشد الغنوشي سيطرته الكاملة عليها. استطاع فرض هذه السيطرة بقدرته على التلاعب برأي عام إسلامي، وباستعمال تبريري براغماتي للحجج الدينية والسياسية. كانت هذه السيطرة مبنية على شرعية أبويّة، وعلى مواقف كانت تصنّف على يمين الموقف المتشدّد للحركة، تلقى رواجاً سريعاً بين جمهور إسلامي شبابي يميل إلى الراديكالية. في موازاة اعتماده على سلطة القول، قام الغنوشي بحشد وتحريض أنصاره باستعمال تكتيك قديم في التخلص من كل منافسيه في الصف الأول للحركة، وإحداث حالة فراغ دائمة حوله، بالشكل الذي جعله المرشح الوحيد لخلافة نفسه على رئاسة الحركة طوال أربعين سنة. تمّ إفراغ الصف الأول في حركة النهضة من القيادات المنافسة، في كل المراحل، عبر التحكم التام في مؤسساتها ومكاتبها المختلفة، مثل مكتب تنفيذي أو مجالس شورى. والجدير بالذكر أن المؤتمرات العشرة للحركة انعقدت كلها تحت ظل الغنوشي وإدارته الكاملة. استطاع الغنوشي إتمام سيطرته الكليّة بالهيمنة على الموارد المالية للحركة، وتوزيعها بحسب منطق الولاء والتبعية. وقد تمركزت سلطة القرار والنفوذ منذ نشأة الحركة الإسلاموية التونسية حوله، وكانت هذه السلطة يتحوّل مجالها الجغرافي بحسب الوجود المكاني للغنوشي، ورحلات الهروب والمنافي أو الاستقرار النسبي في البلاد، عندما كانت الظروف تسمح بذلك. تركز مركز القرار النهضوي في العاصمة البريطانية طوال عشرين عاماً، منذ استقرار الغنوشي في لندن بداية التسعينيات، وتواصل هذا الأمر إلى تاريخ عودته بعد الثورة. قبل هذا التاريخ كان مركز القرار ينتقل مع الغنوشي في عواصم عديدة استقر فيها لفترات زمنية قصيرة، من قبيل الخرطوم والجزائر. منذ عودته إلى البلاد عام 2011، تمكن الغنوشي من إحكام سيطرته على الساحة السياسية التونسية باعتباره الرجل القوي داخل حركته، التي سيطرت على المجلس التشريعي (البرلمان) سواء بالغلبة العدديّة أو بالتحالف وإضعاف الخصوم. تواصلت هيمنة الغنوشي وحزبه على الحياة السياسية التونسية إلى غاية اليوم الذي قام فيه الرئيس قيس سعيد بتجميد أعمال البرلمان التونسي، والدفع بإقالة الحكومة وتعيين حكومة جديدة تخضع لسلطاته. كانت ليلة تجميد البرلمان التونسي فارقة في التاريخ الشخصي والسياسي للغنوشي، فبالتوازي مع خروج آلاف التونسيين إلى الشوارع في العاصمة ومدن تونسية أخرى احتفالاً بقرارات الرئيس قيس سعيد، اتجه الغنوشي فجر اليوم التالي إلى البوابة الحديدية الكبيرة للبرلمان؛ رغبة في السماح له بالدخول باعتباره رئيس البرلمان المجمّدة أعماله. انتهى الأمر بالغنوشي إلى مغادرة ساحة البرلمان خائبا أمام تمسك قوات الجيش المرابطة بالمكان، بتطبيق الإجراءات الرئاسية الاستثنائية.
الصّدام بين حركة النهضة والنّخب والدّولة والمجتمع
درس محمد بالطيب -باحث تونسي متخصص في الأنثروبولوجيا السياسية- تاريخ الصّدام بين حركة النهضة والنّخب والدّولة والمجتمع، منذ التأسيس على قاعدة الرّفض للمجتمع والنّخبة، ثم من فترة التسعينيات حتى الثّورة التي مرت تلك الفترة بالمصالحة والمواجهة والأزمة، ثم مرحلة الحكم والصّدام وفشل التّمكين، التي قسمها إلى فترتين: من الأزمة إلى الحُكم، ومن الحكم إلى العُزلة.
يخلص إلى أنه قد لا تكون هذه نهاية مشروع حركة النّهضة، وتجربة الإسلام السياسي في الحكم في تونس. مشيراً إلى وجهة نظر مقابلة حول حركة نشأت وعاشت في قلب الأزمة، أو ما يسمى في أدبياتها بــ«المحنة»، ولديها من المرونة والليونة والقدرة على التبرير ما يجعلها قادرة على التأقلم مع مصاعب المرحلة وإعادة تشكيل نفسها في أشكال جديدة.
أما في انتظار تطوّرات الأحداث ومآلاتها في تونس بعد حدث الـ25 من يوليو (تموز)، فيرى الباحث أن الجميع ما زال ينتظر (بمن فيهم حركة النهضة نفسها)، كذلك ما يتعلّق بالإجراءات القضائية، التي قد يتّخذها الرئيس قيس سعيد أو الحكومة، أو حتى شخصيات ومنظمات مدنيّة تجاه الحركة، التي تواجه تهمًا خطيرة بالتمويل الأجنبي، والتورّط في الاغتيالات السياسية وقضيّة «الجهاز السرّي»، وتسفير الشباب إلى بؤر التوتّر، وقضايا فساد، وأخرى تتعلق بتوظيف القضاء واستغلال مؤسسات الدّولة. وكلها تهمٌ، يشهرها خصوم الحركة في وجهها، في انتظار تحرّك القضاء والفصل فيها بشكل نهائي.
ما بعد انشقاقات النهضة: هل يصح الحديث عن نهاية الإسلاموية؟
يرى نادر الحمّامي -أكاديمي وباحث تونسي- في دراسته أنه كان للاستقالة الجماعيّة الّتي عرفتها حركة النهضة في تونس في أواخر سبتمبر (أيلول) 2021، والّتي ضمّت أكثر من مئة شخصيّة تنتمي إلى الحركة، أثر كبير على المستوى الإعلامي ولدى المحلّلين والمتابعين للشأن السياسي التونسي في الداخل والخارج، مشيرا إلى عشرات المقالات والتصريحات الإعلاميّة والتحاليل الّتي تناولت المسألة من وجهات نظر مختلفة، للحديث عن الانشقاقات والتصدّعات وأثرها ودوافعها ومآلاتها. لكن ما يقدمه الباحث في هذه الدراسة هو تجاوز ذلك الإطار السياسي الصرف إلى المستوى الفكري أوّلاً، ومناقشة قضيّة أو فرضية نهاية الإسلام السياسي، الّذي يأخذ أحياناً أسماء أخرى من قبيل ما بعد الإسلام السياسي، أو ما بعد الإسلامويّة ثانيًا. ثم يقدم الباحث قراءة في بيان استقالة (113) قيادياً في حركة النهضة.
يخلص الباحث إلى أن تاريخ الاتّجاه الإسلامي يشهد في تونس وفي محطّات كثيرة على الانشقاقات والتصدّعات، الّتي بدأت تظهر إعلاميّاً بشكل كبير منذ المؤتمر العاشر سنة 2016 بالخصوص، والذي أقرّ مسألة الفصل بين الدعوي والسياسي. ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم يمكن التمييز بين ثلاثة أصناف من التوجّهات، أو التيّارات الممثّلة للصراع الداخلي في حركة النهضة، واستشهد بأحمد نظيف بضبطها في القيادة التنفيذيّة، التيار الأول «تيّار أقليّ ولكنّه فاعل، يقوده رئيس الحركة راشد الغنّوشي ووزير العدل السابق نور الدين البحيري ورئيس الحكومة السابق عليّ العريض»، أمّا التيّار الثاني فيمثّله المعارضون في الداخل، وأغلبهم من الشباب ويمثّلون أغلبيّة قاعديّة، ولكنّهم أقليّة في المستوى التنفيذي، ولهم مكانة كبيرة لدى الجماعات الإخوانيّة في الخارج، ولم يرضوا بالدعوة إلى فصل الدعوي عن السياسي. وأمّا التيّار الثالث الّذي يحدّده أحمد نظيف، فهو طيف المستقيلين الذين يحظون بشعبيّة واسعة لدى القواعد، وهؤلاء المستقيلون خرجوا من التنظيم الحزبي بسبب الخلافات مع الغنّوشي، ولكن حافظوا على المرجعيّة الإسلامويّة.
يرى الباحث أنه بقطع النظر عن التوقّعات الّتي أثبتها نظيف، أنها تتوزّع بين ثلاثة احتمالات هي: تفكّك الحركة، أو انقسامها، أو خروج الغنّوشي، مع ثبات دخول النهضة مرحلة انكفاء حسب الكاتب، فإنّ المهمّ هو أنّ التيّارات المتصارعة داخليّاً، والمشار إليها أعلاه، تجتمع في أمر أساسيّ، سواء كانت من القيادة التنفيذيّة أو من المعارضين في الداخل، أو المستقيلين، وهو عدم رجوعها عن مرجعيّات الإسلام السياسي الفكريّة، فالخلافات كانت دائمًا سياسيّة وترتبط بأشكال الظهور والتعامل مع المتغيّرات، دون حديث عن المستندات والمرجعيّات.
يشير الحمامي إلى أنّ مثل هذا الأمر متكرّر بشكل كبير في تاريخ حركة النهضة. ويمكن ملاحظة أن التيّارات الثلاثة المشار إليها موجودة داخل حركة النهضة، والأغلبيّة الساحقة يمثّلها التيّاران الثاني والثالث، وما يجمعهما أيديولوجياً هو المحافظة على المرجعيّات الإخوانيّة، فالتيّار الثاني وأغلبه من الشباب، لديه حظوة لدى جماعة الإخوان في الخارج، والتيّار الثالث حافظ على مرجعيّاته الإسلامويّة، وهذا سبب من أسباب خلافه مع القيادة التنفيذيّة. وهذا الأمر دالّ في حدّ ذاته، بل قد يقلب المعادلة تماما فيما سمّي بنهاية الإسلام السياسي، ويرى الباحث أنه في تقديره ليس تنظيماً حزبيّاً، وإلاّ لكان انتهى منذ عقود، بقدر ما هو أيديولوجيا وفكر، وهنا مكمن خطورته الحقيقيّة في المستوى الاجتماعي. ولمّا كان الأمر على هذه الشاكلة، فإنّه لا سبيل إلى الحديث عن نهايته بشكل تامّ إلاّ في مستوى وصوله إلى مركز السلطة والحكم، أمّا أيديولوجياً واجتماعيّاً فلا يمكن الحديث عن ذلك أبدًا، وأقصى ما يمكن الطموح إليه هو عدم تبوّئه المركز ليبقى هامشيّا، كما هو الوضع مع كلّ التيّارات الهوويّة والعنيفة والمغلقة في المجتمعات الديمقراطيّة.
صورة حركة النهضة في تقارير الهيئات الرقابية الرسمية التونسية
قدمت منيرة رزقي- باحثة تونسية في علم الاجتماع- في دراستها لمحة موجزة عن الهيئات الدستورية والرقابية، ودرست كيف تجلت صورة حركة النهضة في تقرير محكمة المحاسبات التونسية، وتقارير هيئة الاتصال السمعي البصري، ورصدت كيفية تعاطي هيئة مكافحة الفساد مع حركة النهضة.
حاولت الباحثة الإجابة عن التساؤلات الآتية: كيف تتجلى صورة حركة النهضة؛ الحزب الإسلاموي الأكبر في تونس، من خلال التقارير التي تعدها الهيئات الرقابية الرسمية؟ كيف تحولت صورة الحركة إلى رفض وكره كبيرين في صفوف التونسيين راهناً؟ وإلى أي مدى كان للتقارير التي تصدرها الهيئات الرقابية التونسية الأثر البالغ في التغيير العميق لتمثل التونسيين لحركة النهضة؟ وما الأدوار التي لعبتها الجمعيات ووسائل الإعلام التي تشكل أذرعاً للحركة الإخوانية في دعم ما يسمى بالتمكين لها؟ وكيف رصدت تقارير محكمة المحاسبات والهيئة العليا لتعديل المشهد السمعي البصري الخروقات الجسيمة التي مارستها حركة النهضة، في انتخابات 2019؟ وماذا عن هيئة مكافحة الفساد؟
تشير الباحثة إلى أنه منذ أن بوأتها أول انتخابات تونسية بعد الثورة صدارة ترتيب الأحزاب الفائزة في المجلس التأسيسي عام 2011، سعت حركة النهضة إلى التمركز والإمساك بزمام الأمور، حتى باتت في بعض المحطات المفصلية محور العملية السياسية برمتها، خصوصاً في ما يتعلق بالتفاهمات السرية والعلنية، أو تمرير القوانين أو تعطيلها، أو كذلك على مستوى ترتيب العلاقات الخارجية مع هذا الطرف الخارجي أو ذاك.
إن صورة حركة النهضة في المشهد التونسي بعد عام 2011 عرفت تحولات عميقة؛ فتوظيفها للمظلومية التي راهنت عليها للتموقع لم يدم طويلاً. كما أن نهم قياداتها للسلطة التي يعتبرونها غنيمة، أسقط ورقة التوت بسرعة عنها، وكشف زيف السرديات التي بنت عليها مشروع التمكين. وبقدر ما رصد التونسيون كل هذا عبر الملاحظة المباشرة لأداء حركة النهضة وقياداتها، ساهم الدور الرقابي في السقوط الأخلاقي قبل الانهيار السياسي لهذه الحركة. تشير الباحثة إلى التقرير الرقابي الصادر عن محكمة المحاسبات بشأن انتخابات 2019، الذي كشف عن تورط حركة النهضة بالأدلة والحجج في استخدام المال الانتخابي. أما صورة حركة النهضة، فتتجلى لدى هيئة الاتصال السمعي البصري، باعتبار علاقتها الوطيدة بالقنوات المخالفة للقانون، وذات التمويل المالي المشبوه، وذات الصلة بأطراف أجنبية، كما يصرح بذلك بعض أعضاء الهيئة. ومن هنا تستشف الباحثة أن حركة النهضة وظفت وسائل إعلام مخصوصة لخدمة أجندتها السياسية الداخلية والخارجية. كما تلاحظ أن هيئة مكافحة الفساد ساهمت بشكل كبير، بل لها الضلع الأكبر إلى جانب حركة النهضة في إسقاط حكومة إلياس الفخفاخ، التي كانت الأنجح بشهادة أغلبية المتابعين للشأن العام وعموم التونسيين، الذين تابعوا أداءها في التعاطي مع جائحة كورونا في بداية انتشارها. ولكن الخلاف بين الفخفاخ ورئيس البرلمان الغنوشي بشأن توسيع دائرة الأحزاب المشكلة للحكومة، بغية إلحاق حزب قلب تونس بها، بعد أن أقامت معه حركة النهضة تحالفها الانتهازي، هو الذي جعل الحركة تحسم فيه وتقرر استبعاده، وشنت عليه حرباً بلا هوادة، فكانت هيئة مكافحة الفساد أحد المعاول التي ساعدت على تقويض هذه الحكومة عبر التلويح بتهمة تضارب مصالح وجهت إلى رئيس الحكومة، وهو ما عجل باستقالته ومغادرته الحكومة. مع العلم أن هذه التهمة لم تثبت حتى اللحظة. ولكن الهدف منها كان القضاء على أحد أعداء النهضة الذين وقفوا ضد تحقيق كل طلباتها.