تقديم
يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «الصحوة والإسلام السياسي: جدل البدايات والمستقبل» (الكتاب الثاني بعد المئتين أكتوبر (تشرين الأول) 2023) المسار التاريخي لما عرِف بظاهرة «الصحوة الإسلاموية»؛ التي توظفت فيها الأدبيات الإخوانية لتثوير التدين التقليدي؛ وتحويل قيمه الاجتماعيّة إلى آلة سياسية تنظيمية؛ تسعى لإقامة مجتمعٍ موازٍ ودولة موازية؛ باستغلال الظرف السياسي الإقليمي والدولي؛ منذ أواخر السبعينيات من القرن المنصرم.
يعرض الكتاب لسجالات نشأة الصحوة وعلاقتها بالتيارات الإسلاموية الأخرى، متتبعًا تنقلها، ومنشأها، ومحددًا أبرز منظِّريها، وكاشفًا عن تأثرها بالإخوان المسلمين، وبحركة الخميني، ومستعرضًا تأثيرها في أنماط وسلوكيات المجتمع، ومحاولتها اختطاف المحافظة؛ كما يعرض لمحاولات زراعة «صحوة متحوّرة» مستجدة، وكوابحها.
يُفتتح الكتاب بدراسة الصحوّة في شقها السروري، في دراسةٍ قدمها الباحث السعودي خالد العضاض، الذي أشار إلى أن مسمى الصحوة استخدم للتعبير عن حراك الإسلام السياسي لتلميع الصورة، التي كانت عليها الحركات في الخارج أمام المجتمع، فصار يعبَّرُ عن الإخوان بأطيافهم والسرورية وفروعها بـ«الصحوة» تجميلًا وتحسينًا لها، مستعرضًا جذور تسمية السرورية، وفروعها. تربط الدراسة تشكّل وإنتاج الصحوة الأيديولوجية بصفقة خروج الإخوان المصريين من السجون؛ أو لحظة توافق بعض الدوائر والأجهزة المصرية مع تنظيم الإخوان سنة 1971؛ التي قويت لاحقًا باجتماعات مأمون الهضيبي في حج سنة 1973، وتوسعت في عهد عمر التلمساني. يشير الباحث إلى أنّ السادات ومساعديه أخرجوا شيطان الصحوة من القمقم، مؤكدًا أنّ الصحوة لم تكن استجابة لحالة تدينيّة طارئة؛ جازمًا بأنها محض استجابة لإرادة ودعاية سياسية لها أسبابها. أدت الصحوة في الإطار السروري، إلى تسيّد الإخوان المصريين من جديد على حساب الإخوان السوريين، ونتج عن ذلك خروج محمد سرور إلى الكويت؛ الذي يصرّ الباحث أنه حدث بأمرٍ تنظيمي؛ لا علاقة للدولة به، بل وخروجه من القصيم إلى الأحساء كان بأمرٍ تنظيمي أيضًا حسب الدراسة. لاحقًا نشطت الأذرع الصحوية؛ بعد حادثة جهيمان سنة 1979، وهبت في رفض الحداثة؛ وتحوير مفهوم النهي عن المنكر، وحاولت اكتساب المشروعية باستغلال النوازل الفقهية، والقضايا السياسية الناشئة، ولكنها في الحقيقة لم تزد على تطوير مفاهيم حاكمية أبي الأعلى المودودي وسيّد قطب، عبر مدرستين؛ الأولى: قادها محمد قطب وتوارثها تلاميذه السعوديون، والثانية: تولاها إخوان دمشق بقيادة محمد سرور وورثها تلاميذهم؛ وكانت النتيجة هي الخطابات السياسية التحريضية؛ ثم التكفيرية، ثم استعادة قضايا الخلافة الميتة.
في السياق ذاته؛ قرأ الباحث السعودي الزميل فهد سليمان الشقيران، مسار حركة الصحوة في السعودية منذ الثمانينيات من القرن المنصرم، مع التركيز على مرحلة التحوّلات، ففحص ادّعاء بعض دعاة الصحوة التحوّل عن أفكارهم الراديكالية السابقة، مذكِّرًا بتقاطعات الصحويين مع التنظيمات الإرهابية، لا سيما تنظيم القاعدة. رصد الباحث، أهم أداة استخدمها تيار «الصحوة» لخلق قاعدة شعبية صلبة لخطابه خلفها ما يبدو أنه تأصيلٌ شرعيٌ، عبر غلق المجال أمام المباحات، ووضعها حد التحريم والمنكرات. فرزح المجتمع لسلطة الصحوة القاهرة وكأنها دولة موازية. يختتم الباحث دراسته، بتجديد تحذيراته المبنية على تجارب الماضي، وما لها من آثار وضحها في الحاضر لخطورة هذا الفكر، وقدرته على التخفي والكمون في أشكال مختلفة، قد تبدو غير متوقعة مثل «ركوب موجة التنمية، والبودكاست التنموي أو الرياضي، أو عوالم الطبخ، أو فنون السفر والسياحة»؛ لإرسال رسائل مبطنة، معتبرًا أن المؤثر الفكري هو الأساس الواجب اتباعه وسحقه، كونه الشرارة خلف كل عمل إرهابي.
حللت الباحثة سكينة المشيخص؛ الخطاب الصحوي في وجهه المتأثر مذهبيًّا بالتيارين الخمينيّ والشيرازي، بالتركيز على قضايا المرأة والمساواة بين الجنسين، وانعكاسه على واقع المرأة داخل التيار الشيعي الصحوي في السعودية منذ نشأته حتى مرحلة التحوّلات الراهنة. رصدت الدراسة المتغير الأول الطارئ من الخارج، الداعي لأدلجة سياسية للدين، في ظل الغيبة الكبرى، فتناولت بداية حدوث التحولات منذ ثمانينيات القرن المنصرم، على وقع الثورة الخمينية، مما أدى إلى ارتهان المجتمع لخطي الخميني والشيرازي. بيَّنت الدراسة ما تراه تباينًا بين استجابة الصحوة السنية والشيعية، أبرزها الحضور الرمزي لنساء قياديات في الإرث الكربلائي؛ وأولوية التنظير السياسي شيعيًّا؛ على حساب الدعوي والاجتماعي؛ كما أشارت إلى التغيرات المؤدية لانحسار التيار، بسبب برنامج الابتعاث للخارج، من جهة، وانفتاح الدولة من جهة أخرى، مما ساهم في تمكين المرأة مع احتفاظها بقيمها التقليدية ومكتسباتها الحديثة.
ورصد الباحث الإيطالي المتخصص في الإسلام السياسي في أوروبا لورينزو فيدينو (Lorenzo Vidino) والباحث في برنامج التطرف في جامعة جورج واشنطن ألكسندر مِليغرو هِتشنز (Alexander Meleagrou Hitchens) أثر الصحوة ومدارسها غربيًّا، بدراسة أثرها في تحوّل الشاب الأميركي علي التميمي الذي تشرّب أفكار الصحوة، وتبنّى الأيديولوجيات المتطرفة. تناولت الدراسة الأرضية التي عملت عليها تيارات الصحوة في الولايات المتحدة، وأرّخ الباحثان لتنامي الإسلاموية في الداخل الأميركي، ومواجهة النماذج الإسلامية القائمة على قيم وتقاليد كل مجتمع، لصالح نسخة واحدة ذات بُعد أيديولوجي. يشير الباحثان إلى زيادة أعداد معتنقي الإسلام من الأميركيين الأفارقة، وذلك تأثرًا بـحركة «أمة الإسلام» (Nation of Islam) «لكن خاب أملهم بها لانشغالها بالعرق على حساب الطهارة العقائدية». لاحقًا تمكنت «الجمعية الإسلامية في شمال أميركا» بعد سنة 1993؛ من اجتذاب من لديهم قاعدة فكرية تميل للإسلاموية، للاستفادة من خبراتهم في تدعيم مشروعها، وتفريخ جمعيات عدة ودوريات مثل: «مجلة العصر»، و«المنار الجديد»، وكلها أضحت منصات للجماعات الإسلاموية؛ تؤثّر في الإسلامويين الأميركيين، وتحوّلهم إلى إرهابيين يتأثرون بسيد قطب.
ارتبطت لحظة انتعاش التيارات الإسلاموية وتخلّق الصحوة، بصعود هذه التيارات في مصر خلال السبعينيات من القرن المنصرم؛ لذا درسها الباحث والخبير الأمني حسين حمودة؛ واعتبر أنّ الصعود كان سوء تقدير، من رجالات الرئيس أنور السادات؛ مثل: عثمان أحمد عثمان، وسيد مرعي، ومحمد عثمان إسماعيل، ومصطفى أبو زيد، الذين أرادوا ضرب التيارات اليسارية والناصرية باستخدام الإخوان، فأطلقوا على عودتهم «صحوة»، وربطوها بالموقف الرسمي من الحرب الروسية -الأفغانية.
واستكمالًا لدراسة المجال المصري، يتناول الباحث ماهر فرغلي دور الإسلامويين المصريين في الصحوة ونشأتها، سواء من الناحية الفكرية أو الحركية، ليثبت فرضية أنهم كانوا الأكثر تأثيرًا وتطويرًا في صناعة الصحوة، بشقيها الخاص والشعبي العام. قسم الباحث رموز التعبئة الفكرية في مصر والصحوة، إلى طبقات ثلاث؛ الأولى: القدماء أو المؤسسون مثل حسن البنا، وسيد قطب. الثانية: القدماء المعاصرون للأوائل، مثل محمد الغزالي، والقرضاوي، ومحمد قطب. الثالثة: المعاصرون، مثل سيد إمام، والظواهري.
أملى اللواء المصري فؤاد علاّم؛ تجربته على الباحث مهدي مبارك؛ بدءًا من ستينيات القرن المنصرم، فتطرق إلى إلقاء القبض على سيد قطب، ومحاولة تحجيم دوره، وقصة كتاب «دعاة لا قضاة»، الذي يشير اللواء إلى أنّ من ألفه لجنة من رجال الدين والدولة، وطُبِع باسم الهضيبي، تشجيعًا لفكرة المراجعات، ومحاصرة لفكر قطب. يتناول اللواء التفريق بين المنتمين للتنظيم، وبين قيادته التي تسعى إلى السلطة بأي ثمن، مشيرًا إلى أهميّة تشجيع الأفراد على التوبة من التطرف. يختتم علام شهادته، بشرح أوجه القصور في عملية المراجعات، وعلى رأسها غياب «الخطة» العملية لإدارة هذه العملية بشكل استراتيجي بعيد المدى، واقتصارها على أهداف آنية أو عدم استكمالها مع تراجع المواجهة وتخيل نهاية الظاهرة، بينما يظل التتابع لدى الجماعات الإسلاموية مستمرًا.
وفي المجال السوداني عرض الباحث والأكاديمي السوداني النور حمد إشكالات مفهوم الصحوة الإسلامية، الذي وظفته جماعات الإسلام السياسي؛ التي لا تريد أن تحكم باسم الشعب، بل باسم الدين، وأدّت في الحالة السودانية إلى فصل الجنوب السوداني. يلاحظ حمد أنّ الإسلامويين لا ينظرون إلى أخطائهم، لأن أولويتهم هي تقديم رؤيتهم التنظيمية لحل مشاكل العالم كله، بدلًا من حل مشاكل بلادهم، كما يشير إلى صعود الإسلام السياسي على سلم اليسار العربي، باستخدام الوصاية ذاتها على المجتمع، وتوظيف العنف لإنفاذها؛ الوصاية التي تجعل الغاية تبرر الوسيلة؛ مستشهدًا بإباحة جمال الدين الأفغاني لتلاميذه؛ اغتيال الخصوم! لذا فإنّ التيارات الإسلاموية ما إن تستولي على الحكم حتى تحوّل الدولة إلى دولة التنظيم باستخدام التمكين.
تطرق الباحث والمؤرّخ العراقي رشيد الخيُّون في دراسته «الصحوة الدينية الرسمية بالعراق: الحملة الإيمانية الكبرى»، إلى بداية الصحوة الدينية في المجتمع العراقي، وظهورها في السبعينيات من القرن الماضي، وحدد أبرز العوامل المؤدية إلى إطلاق الحملة الإيمانية ومخاطرها اللاحقة على المجتمع والدولة. فيما يبدو من أوجه للتشابه بين الحالة المصرية والعراقية. رصد الباحث، كيف ولماذا، تبنى نظام البعث سياسة قائمة على الدين في أعقاب حرب الخليج الثانية (1990-1991)، وشرح انطلاق ما يسمى «الحملة الإيمانية»، وآليات عملها، وتعاون السلطة مع الإسلامويين. ترصد الدراسة أهم متغيرين تحققا بفضل هذه «الحملة»؛ الأول: ظهور الإسلام السياسي، والثاني: تقوية الإسلام السياسي الشيعي في الجانب الاجتماعي، عبر تحكمه في الشباب الشيعي، وكلها ممهدات سهلت فيما بعد سقوط بغداد؛ لبروز هذه الجماعات وتسيدها المشهد العراقي. أوضحت الدراسة، محاولة احتواء التيار المتشدد من خلال الصوفية، التي ارتبط بها الرجل الثاني في النظام عزت الدوري، ومحاولة النظام البعثي التعاون مع المتشددين من أتباع ابن لادن.
ويقدم الكتاب مراجعة؛ لكتاب «كي لا نصحو ثانيةً: تفكيك خطاب الصحوة وآليات الهيمنة على المجتمع»؛ للكاتب السعودي سعيد السريحي، حلل فيه خطاب الصحوة، باستخدام تحليل الخطاب في النظريات اللسانية الحديثة. شرحت فصول الكتاب المفهوم النظري لاستراتيجية الصحوة، وما تعتمده من تقويضٍ ممنهج وإعادة إنتاج المجتمع وآليات عمل الصحوة، عبر شرح تركيبة التشدد الصحوي وصلتها بجماعة الإخوان. يختتم الباحث، تفنيده للمشروع الصحوي، وما وصل إليه من مآلات، ومقاصد تعادي الدولة الوطنية ومؤسساتها.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب والعاملين على خروجه للنور، ويخصّ بالذكر الزميل إبراهيم أمين نمر، وفهد الشقيران اللذين ساهما في رعاية هذا الكتاب وتنسيقه، والزميل رشيد الخيُّون صاحب فكرة هذا المشروع، الذي نأمل أنْ يسد ثغرة في المكتبة العربية.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
أكتوبر (تشرين الأول) 2023