تقديم
يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «الإسلاميون في أميركا اللاتينية: الإرهاب والاندماج» (الكتاب الثالث بعد المئتين، نوفمبر (تشرين الثاني) 2023)، تاريخ الحركات الإسلاموية في عدد من دول أميركا اللاتينية، ويرصد أدوات نفوذها الديني والاجتماعي والاقتصادي، ويناقش التحديات التي تواجهها المجتمعات المسلمة؛ والدول جراء أنشطة جماعات الإخوان وحزب الله، والحركات الإرهابية المرتبطة بتنظيمي داعش والقاعدة.
بدأ الكتاب بدراستين ميدانيتين، فسلَّط الباحث السويسري باتيست برودار (Baptiste Brodard)، في أولاهما الضوء على مظاهر الإسلام المتنوّعة وتحديدًا في كولومبيا والمكسيك والبرازيل وتشيلي، بدأها بشرح صعوبة تسمية الطوائف والتيارات لما يتعلق بالجماعات والحركات من تطورات، والتغيرات الأيديولوجية، مشيرًا إلى أنّ الجماعات تتهرب من وصم التصنيف بالعمل تحت المؤسسات والمنظمات الخيرية، ولكنها جميعًا تعمل مستقلة وتتنافى -في الغالب- معززةً سردياتها العقائدية، مستعرضًا الشبكات السنية المتباينة، التقليدية والراديكالية، مع التركيز على الاختلافات مثل تناوله نماذج تابعة لتركيا وهي: حركة النور (نورجو)، والسليمانية الصوفية التي أسسها سليمان حلمي طوناخان، وحركة «خدمة» التابعة لفتح الله غولن، والطريقة النقشبندية بقيادة أشرف أفدني الألماني. واستعرض الباحث التباينات داخل كل حركة، مع التركيز على موقفها من قضية تعليم الإسلام في سياق أميركي لاتيني، والإصرار على نسخة عابرة للأوطان، كما تطرق إلى الوجود الشيعي، سواء المنسوب للمهجر اللبناني أو الشيعة الكولومبيين من أصل إفريقي في بوينافينتورا (Buenaventura)؛ وهي جماعة تحولت من أمة الإسلام إلى الإسلام السني ومن ثم إلى التشيع الاثني عشري، متتبعًا سيرة التحوّل وأسبابها الاقتصادية والسياسية. خرجت الدراسة بمجموعة من الخلاصات المهمة، من بينها أن الطيف الأيديولوجي، من روايات معتنقي الإسلام المحليين إلى تجارب المسلمين المهاجرين، يعكس امتزاجًا ثريًّا بين التأثيرات الدينية الخارجية والتفسيرات المحلية للمعايير الإسلامية.
أما الدراسة الميدانية الثانية، وفي ضوء المخاطر الناجمة عن الإرهاب وشبكاته وتأثيرها السلبي في تصاعد معدلات «رهاب الإسلام» في أميركا اللاتينية، فقد تطرق الباحث والأستاذ المساعد في جامعة فلوريدا إيه آند إم (Florida A&M University)، تروي إي سبير (Troy E. Spier) فيها؛ إلى ظاهرة رهاب الإسلام في الإكوادور، لا سيما على شبكات التواصل الاجتماعي، ملاحظًا أن المسلمين أكثر عرضة لنداءات الإرهاب والتطرّف على الإنترنت وفي المساجد، مقارنة بالأديان الأخرى. تسترشد هذه الدراسة بثلاثة أسئلة بحثية: كيف يمثّل المسلمون في الصحافة الإكوادورية من خلال المقالات المنشورة في صحيفة «إل كوميرسيو» (El Comercio)؟ ما المتلازمات الأكثر شيوعًا في المقالات التي تشير إلى المسلمين؟ كيف يرشد تحليل المشاعر هذه المناقشة على نطاق أوسع؟
ثم تناولت الباحثة الجزائرية آمنة مصطفى دلّة، قراءة متوسعة لأبرز التحديات الأمنية التي تواجه دول أميركا اللاتينية والكاريبي، والتي تجعلها بؤرة جاذبة للمتطرفين، منذ التسعينيات من القرن المنصرم، بسبب الفراغات الأمنية من جهة، والتجاوزات المرتبطة بغسيل الأموال والمخدرات وغيرها من جهة أخرى، تناولت الدراسة مدخلاً عن موطئ قدم الإرهاب في القارة، مع تركيز على جهود مكافحة الجريمة المنظمة والمخدرات.
بينما الباحث المصري ماهر فرغلي، تطرق إلى مؤسسات جماعة الإخوان والخلايا المتطرفة المنبثقة عنها في كل من البرازيل والباراغواي والمكسيك والأرجنتين والإكوادور والبيرو وفنزويلا، كاشفًا عن العلاقة الوطيدة بين الإسلامويين في هذه الدول والإسلامويين في الشرق الأوسط. وتحت عناوين «الدعوة» بنت هذه الجماعات المتطرفة والشخصيات المرتبطة بها مؤسساتها من أجل تحقيق الربح، مثل مؤسسات «تجارة الحلال»، وشركات «أوف شور المالية» عدا تجارتها بالمخدرات والأخشاب؛ وأشار الباحث إلى أن المؤسسات الدينية والتجارية المحسوبة على الجماعة استُخدِمت غطاء لاستقبال إخوان الشتات؛ بعد سقوط نظام الإخوان في مصر سنة 2013، كما اتهمت بتيسير إيواء العائدين من بؤر التوتر. ويلاحظ الباحث أن منطقة المثلث الحدودي (Tri-Border Area) بين الباراغواي والأرجنتين والبرازيل، هي منطقة رخوة استقر فيها حزب الله منذ عقود، وحولها إلى مركز رئيس لجميع أنواع الأنشطة غير القانونية لتعزيز إيراداته، وتنفيذ هجماته الإرهابية بدءًا من تسعينيات القرن المنصرم؛ وأبرزها الهجوم الإرهابي ضد السفارة الإسرائيلية سنة 1992. وقد استغل تنظيم القاعدة وجود الحزب وعمل على بناء قوته أيضًا، وجرت عمليات تنسيق بين الطرفين في أنشطة تجارية. تتبارى المنظمات والتيارات الإسلاموية سواء السرورية أو الإخوانية أو الداعشية؛ في محاولة اختراق شركات الحلال، ومحاولة التخفي وراء العمل الاجتماعي، وتعليم اللغة العربية؛ وتسفير المسلمين الجدد إلى الشرق الأوسط، واستقبال الهاربين منه.
عرض الباحث المصري أحمد شلاطة لاقتصاديات الحلال، في دول أميركا اللاتينية، وحدد أبرز العوامل المؤدية إلى نموها، والنفوذ القوي لجماعات الإسلام السياسي في قطاعاتها. ركزت الدراسة على «الاقتصاد الأسود» الذي بنته جماعة الإخوان التي حرصت على تَغيير صِيغ حضورها في أميركا اللاتينية، فاعتمدت على بناء مُؤسسات تلعب دور الوسيط بين دول المنطقة والمجتمعات المسلمة. وحدد الباحث الأساليب الإخوانية في «اقتصاد الحلال» والطرق التي تعتمد عليها الجماعة في الاستثمارات المالية؛ التي يستند جزء منها إلى اشتراكات العُضوية، التي تَضخّمت في العقود الأخيرة، وقد سعى الإخوان إلى استثمار أموالهم في مجالات استهلاكية سَريعة الدّوران، مثل مجال الأغذية في ظل اتساع الطلب على المنتجات الحلال؛ والتمويل الإسلامي، والمواد الطبية والتجميلية، والأزياء والسياحة الحلال وإصدار شهادة الحلال، متناولاً استثمار الجماعة في البرازيل والباراغواي.
رصد الباحث والأكاديمي المغربي عبدالإله سطّي، نشاط حزب الله في فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا ومنطقة المثلث الحدودي. فقد استطاع الحزب تعزيز وجوده لعوامل ديموغرافية ومالية وتجارية، وتحرك بحرية فيها، نظرًا لضعف المراقبة والملاحقة بالعديد من هذه البلدان. تحدد الدراسة ثلاثة أوجه رئيسة، أدت إلى بناء نفوذ الحزب من خلال إيران؛ أولها: نشر النفوذ الإيراني الديني في أميركا اللاتينية، من خلال السيطرة على المساجد والمراكز الثقافية؛ ثانيها: توفير موارد مالية من خلال تكثيف الوجود التجاري لأتباع الحزب، خصوصًا في المثلث الحدودي؛ ثالثها: تَهديد المصالح الأميركية، باستغلال التّقارب بين المواقف السياسية للحِزب وإيران وعدد من دول أميركا اللاتينية المعارضة للولايات المتحدة. في فنزويلا، استفاد حزب الله من العلاقات الوثيقة بين إيران ونظام تشافيز/مادورو لتأسيس قواعد تدريب وشبكات دعم لوجستي؛ باستغلال مناطق مثل جزيرة مارغريتا (Margarita Island). كما عمل الحزب على توسيع نفوذه عبر ترويج مبادئ الحركة الخمينية الإيرانية بين السكان الأصليين في البيرو وكولومبيا والبرازيل، من خلال المساجد والمراكز الثقافية والإعلام. لقد كانت المساحة مفتوحة لاعتبارات جيوسياسية وتوازنات مرحلة الحرب الباردة؛ وحتى سنة 2016 طالبت رئيسة لجنة الدفاع في برلمان البيرو بالكشف عن حقيقة تورط أنصار الحزب مع بعض الجماعات الشيوعية، في أعمال العنف التي وقعت في مقاطعة لابامبا في البيرو؛ كما بدأت بعض دول المنطقة مثل الأرجنتين والباراغواي وكولومبيا وهندوراس، في تصنيف الحزب منظمةً إرهابية بسبب ارتباطه بأنشطة إجرامية مثل تجارة المخدرات وغسل الأموال، في محاولة لمحاصرة نفوذه المتزايد الذي يهدد استقرار المنطقة.
وعرض الباحث والأكاديمي الجزائري عبدالقادر عبدالعالي في دراسته مواقف الإسلامويين من قضايا الشرق الأوسط وانعكاسها على الجاليات المسلمة في دول أميركا اللاتينية، مركزًا على عدد منها: مثل قضية الإسلامويين الهاربين من العدالة، والاضطرابات السياسية والأمنية في بعض الدول العربية بدءًا من سنة 2011، وتعامل الإدارات الأميركية المتعاقبة مع الملفات الساخنة في منطقة الشرق الأوسط. حدد الباحث خريطة انتشار الحركات الإسلاموية -الإخوان، حزب الله، تنظيم داعش- في دول أميركا اللاتينية وكيفية تصديرها وتوظيفها للملفات السياسية الشرق أوسطية عبر تأليب الجاليات المسلمة وصناعة خطاب ديني متطرف، مما أدى إلى تنامي مؤشرات رهاب الإسلام.
على المقلب الآخر من اليمين الراديكالي الجديد، عرض الأستاذ في قسم السياسة في جامعة ألبرتو هورتادو (Alberto Hurtado University)، إسحاق كارو (Isaac Caro) للخلفية المعاصرة للحركة النازية الجديدة في تشيلي، والحركة الوطنية الاجتماعية المتهمة بالنازية.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب والعاملين على خروجه للنور، ويخصّ بالذكر الزميل أحمد شلاطة الذي نسّق هذا الكتاب، الذي نأمل أنْ يسد ثغرة في المكتبة العربية.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
نوفمبر (تشرين الثاني) 2023