تقديم
يَتناول مركز المسبار للدّراسات والبحوث في كتابه «صِرَاع الكنيسة السّلافية، سياسة الدين والتاريخ» (الكتاب السادس بعد المئتين، فبراير (شباط) 2024) التوظيف السياسي للصراعات الكنسية والروايات التاريخية في روسيا وأوكرانيا، مركّزًا على الجدلية التاريخية، وأسباب الخلافات وأثرها على الراهن السياسي، وتوظيفها في خدمة الأبعاد الجيوسياسية والتأثر بها، أو في جدليّات الهوية والحداثة، والليبرالية والمحافظة، والقيم الكونية، والدّولة والدين.
سَبَرت فاتحةُ دِراسات الكتاب التّاريخ، لبحث الجدليّة التاريخيّة المعقّدة بين روسيا وأوكرانيا؛ والتي ألقت بظلالها على العلاقات الكنسيّة، في تحديد الأصول والمنشأ ومَن يتبع مَن، فبدأها الباحث أحمد لطفي دهشان، بتصنيف العرق السلافي المُحدث، مع التركيز على المجموعة السلافية الشرقية، وَهُم الرُّوس والأوكرانيُّون والبيلاروسيُّون والرُّوسينيون، وَالتِي تَتبَع أغلبيَّتها الأرثوذكسيَّة الشَّرقيَّة، والمجموعة السُّلافيَّة الغربيَّة، وَهُم البولنديُّون والتِّشيك والسُّلوفاك والكاشوبيون، وَجُلهَا تَتبَع الكاثوليكيَّة، والمجموعة السُّلافيَّة الجنوبيَّة، وَهُم الصِّرب والكروات البوسنيُّون والمقدونيِّون والسِّلوفينيُّون المونتينيغريون والبلغار، وكلُّهم أُرثوذكس خلَا الكروات والسِّلوفينيِّين.
تشترك المجموعات الثلاث في التراث والزيّ والعادات الثقافية، وتتنازع على زعامتَها مجموعاتٌ سياسيَّة. ومَا تَأسسَت لِلسلاف إمبراطوريّة سِوى للشرقيين سنة 862 في «كييف روس» واستمرّت تَتَوسع مُتاخمَة لجوارها الممثل في مملكة الخزر اليهوديّة، والبلغار المسلمين، والبيزنطيين أتباع الكنيسة اليونانية الشرقية، حتى جاء الاجتياح المغولي سنة 1240، فزاد التباين بين المجموعات السلافية خارج سيطرة المغول؛ خصوصًا في غرب ووسط أوكرانيا الراهنة، وازدادت الانتقالات من الكاثوليكية إلى الأرثوذكسية والعكس، وحمتها التحالفات لصد التتر، وزادت سلطة حكام إمبراطورية روسيا التي انتقلت عاصمتها في عام 1277 إلى موسكو، تمهيدًا لتهيئة موسكو لتكون «روما الثالثة» إثر انهيار المركز الروحي للمسيحية في القسطنطينية سنة 1453، لا سيما إثر رفض إيفان الثالث، دفع الإتاوات أو الضريبة السنوية للخانيات التترية، وتعاضدت قوتها بالتزاوج مع سليلة البيت الإمبراطوري البيزنطي، مما مهّد لإيفان الرابع أنّ يعتمر قلنسوة مونوماخ (Monomakh’s Cap) بما لها من رمزيّة دينيّة وتاريخيّة؛ ويُعِلن أنّه الوريث الطبيعي والشرعي والوحيد لأباطرة بيزنطة، والامتداد الطبيعي لمملكة روس القديمة.
كان المنافس السلافي لروسيا وإمبراطوريتها؛ هو الكومنولث البولندي -الليتواني الذي تأسس وفق صيغة اتحاد لوبلين في 1569، الذي تضمّن تحول النبلاء إلى الكاثوليكية، فقامت موسكو بالالتفاف عليه بصفقة مع بطريرك القسطنطينية إرميا الثاني (1536-1595)، على أن تمنحه موسكو الشرعية مقابل أن يرفع مكانة مطرانية موسكو إلى بطريركية، ليتوّج بها أول بطريرك روسي سنة 1589 في زمن القيصر فيودور الأول، بشهادة المجمع، وهو ما لقي ردًّا من الكنيسة الكاثوليكية عبر قيام اتحاد بريست سنة 1596، الذي أتاح استخدام اللغة السلافية في الكنيسة مع الاحتفاظ بالطقوس اليونانية، لتيسير نشر الأرثوذكسية.
أقامت موسكو حملاتها ضد الاتحاد؛ وتنادى مناصروها بتثويرهم ضد الاتحاد الليتواني -البولندي، وطلب الوحدة مع روسيا القيصرية، فاستعادت سنة 1654 كييف والمناطق الشرقية على يمين نهر دنيبر. ونجحت عبر علاقتها مع العثمانيين، فصدّق الوزير الأعظم محمد باشا الكوبريللي، على قرار البطريرك دينسيوس الرابع سنة 1686 بنقل تبعية مطرانية كييف من بطريركية القسطنطينية المسكونية إلى بطريركية موسكو وعموم بلاد الروس. جاء هذا السجال حينما اعتمد بطريرك القسطنطينية في 11 أكتوبر (تشرين الأول) 2018 قرارًا معاكسًا بمنح الاستقلال الذاتي للكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا، بزعم أن القرار الصادر سنة 1686 لم يكن نهائيًّا، واصفًا ما تروّجه كنيسة روسيا بالهرطقة العرقية، ولاحقًا في سنة 2020 أعلن أردوغان تحويل كاتدرائية آيا صوفيا رمز الأرثوذكس الأعظم، إلى مسجد، وهو ما يخفّض من مقام بطريركية القسطنطينية نفسها، ولم يعترض بوتين عليه.
بدأ الباحث الجورجي ميخائيل كوركاشفيلي (Mikheil Korkashvili) (მიხეილ ქორქაშვილი) التأكيد أن الأرثوذكسية طوال تاريخ الإمبراطورية الروسية لمدة قرنين، كانت هي المبرر الأخلاقي لتوسيع السياسة الخارجية الإمبراطورية، فاستُخدِم المذهب في جنوب القوقاز والبحر الأسود، حيث المنافس العثماني لروسيا، ثم يمر على تضاؤل دور الدين نسبيًا بعد قيام الاتحاد السوفيتي، قبل أن يشير إلى أن إحياء الأرثوذكسية كان مدفوعًا بشكل أساسي بالصراع على السلطة بين الليبراليين المؤيدين للغرب، وأصحاب الأيديولوجية الدولانية المؤيدين للسوفيت في روسيا.
يزعم الباحث أنّ الكرملين رأى ضرورة ترسيخ الكنيسة الروسية على مستوى عالمي، مستشهدًا بشراء روسيا مبنى المعهد الفرنسي للأرصاد الجوية بالقرب من برج إيفل، ومنحه للكنيسة الأرثوذكسية على مساحة (8400) متر مربع، زاعمًا أنّ هذه التوسعات تتم بإدارة أكبر الأجهزة وأهمها في روسيا.
يعترف الباحث بأنّ الكنيسة تتمتع بنفوذ في الداخل الروسي، حتى داخل مجمع الأسلحة النووية الروسي، مستشهدًا بما كتبه ديمتري أدامسكي، ويشير إلى مساهمتها في بناء عقيدة العالم الروسي، التي أطلقها بوتين في 2007 بهدف نشر الثقافة واللغة الروسية، وانضمت الكنيسة لها في 2009.
لاحقًا استجاب مجلس الدوما لخطابات الكنيسة في مواضيع المثلية والحفاظ على المشاعر الدينية وغيرها، واستغلت الكنيسة الأوقاف الكنسية خارج روسيا لدعم قوة الدولة الناعمة، واستقطاب الكنائس الموالية، واستطرد ليصل لطموح العقل الاستراتيجي للدولة الروسية، بنقل موقع البطريركية المسكونية من إسطنبول إلى موسكو، مما سيعني -بدوره- أن بطريريك موسكو سيكون البطريرك المسكوني للعالم الأرثوذكسي.
يشير الباحث إلى نجاح الكنيسة الروسية في بسط نفوذها في مولدوفا عبر الكنيسة الأرثوذكسية التي تتبنى الدعاية لرؤى روسيا، وتعارض الانسلاخ عن الثقافة والاندماج في القيم الأوروبية، فيقول: «دعَّم قادة الكنيسة علنًا إيغور دودون وهاجموا مايا ساندوا»، في انتخابات 2016، وكل ذلك باستخدام السرديات التاريخية.
أما كيف تعاملت الكنيسة الروسية، مع الحقبة السوفيتية، وأثرها عليها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، فناقشه الباحث الروسي ڤاليري كوروڤين (Valery Korovin) (Валерий Коровин)، بدءًا بتقسيم الكنيسة المسيحية إلى ثلاث مراحل: الاضطهاد، ثم الازدهار الإمبراطوري، ثم فترة الردة، ليتناول وضع الكنيسة الروسية انطلاقًا من تلك المراحل. أشار الباحث إلى مفهوم «الكاتيشون» (κατέχων) الذي يعني قوة الإمساك أو المنع أو الحاجز الذي يقي الناس وصول المسيح الدجال وسيادته، والذي اعتقد الآباء القديسون أنه يتجسد في السلطة الإمبراطورية القائمة على التناغم بين الحاكم والبطريرك. تطرّق الباحث أولاً لانقسام الكنيسة الروسية في القرن الـ(17)، واعتبار البعض إياه بداية لزمن الردة وغياب الكاتيشون، بينما رأى آخرون أنه لم يغير جوهر الكنيسة. ثم تناول موقف الكنيسة إبّان الحقبة السوفيتية وانقسام الآراء حول اعتبارها ردة أم استمرارًا للعصر الإمبراطوري. انتقل الباحث بعدها لتفكك الاتحاد السوفيتي وحالة الحيرة التي اعترت الكنيسة حيال تلك النقطة الفارقة. ثم سلّط الضوء على انتعاشة الكنيسة في عهد بوتين، معتبرًا إياها استمرارًا للمدة الإمبراطورية ووجود الكاتيشون الذي يمنع حلول زمن الردّة. أشار الباحث إلى أن الأرثوذكسية مثّلت أيديولوجية الأغلبية الروسية في مواجهة القيم الليبرالية الغربية بعد سقوط الشيوعية. وتناول تأثيرها على السياسة الروسية ودعوتها للعودة إلى المواقف التقليدية الأصيلة في تكامل الكنيسة مع الدولة. أخيرًا، رصدت الدراسة، دور الكرملين في معالجة آثار الانشقاقات التي نتجت عن إصلاحات الحقبة الإمبراطورية، وإضعاف الكنيسة في الحقبة السوفيتية، وواقع الإيمان الأرثوذكسي وانعكاسه على الروس في الوقت الحالي.
أما الباحثة الروسية ليونتيفا جيناديفنا (Leontieva Gennadievna) (Татьяна Леонтьев)، فتتحقق من الفكرة السائدة بأن السياسة السوفيتية كانت صارمة في موقفها المضاد للدين، وأنها اتجهت في عهد ستالين، إلى محاباة الكنيسة وأتباع الأديان الأخرى والتطبيع معهم، لحشد المجتمع في ظل مواجهتها النازية أثناء الحرب العالمية الثانية. تُظهر الباحثة كيف أن علاقة السلطة السوفيتية مع الدِّين ومؤسساته الرسمية تتميز بالتقلب، وعدم الثبات على رؤية واحدة. قسمت الدراسة السياسة السوفيتية تجاه الدين إلى ثلاث مراحل، لكل مرحلة ما يميزها، مع شرح أسبابها ودوافعها، والتي يمكن من خلالها فهم جوانب قد تبدو أبعد من الرؤية السائدة حول الموقف الأيديولوجي من الدِّين، إلى ما هو سياسي -اجتماعي -اقتصادي مرتبط بعملية التحولات الكبرى داخل الاتحاد السوفيتي، في مرحلة الصراع على السلطة أثناء الحرب الأهلية، والنشأة ثم المواجهة في الحرب العالمية الثانية، ومرحلة الاستقرار في ظل الحرب الباردة والصراع الجيوسياسي مع المعسكر الرأسمالي الغربي، وهو ما يضيف أبعادًا جديدة لشكل هذه العلاقة وفهمها.
شكَّل الانقسام الديني، أحد أهم الآثار الكبرى لعملية تفكيك دولة السلاف الشرقيين على إثر الاجتياح المغولي، حيث كانت تجمعهم قبلها دولةٌ وثقافةٌ وقوميةٌ ولغةٌ ودينٌ وكنيسةٌ واحدةٌ، تَبدَّل هذا الوضع ولم تقتصر عملية التباعد بينهم على نشوء كنائس أرثوذكسية وطنية غير جامعة فحسب، بل دخول عقائد جديدة مرتبطة بالكنيسة الكاثوليكية الرومانية، ذات الثقافة اللاتينية الغربية، ومساهمتها في تشكيل هُويّات فرعية. هذا ما تناوله الباحث الأوكراني دينيس تارغونسكي (Denys Targonskyi) (Денис Таргонський) الذي رصد تحول الصراع بين روسيا وأوكرانيا من حرب ثقافية باردة، منذ تفكك الاتحاد السوفيتي سنة 1991، إلى حرب ساخنة منذ 2014، حيث انقسمت دولة أوكرانيا حديثة النشأة إلى كتلتين رئيستين: الأولى، داعمة للتكامل والعلاقة المميزة مع روسيا، وملتزمة بالإرث التاريخي المشترك للسلاف الشرقيين. والثانية، داعمة لما تراه «أصول» أوكرانيا الأوروبية، وحاجتها للاندماج مع هذه الثقافة والحضارة المغايرة للإرث الإمبراطوري الروسي. في هذا السياق، برز دور الكنائس الأرثوذكسية المستقلة، الداعمة لعملية التحول الأوروبي مع حفاظ أوكرانيا على شخصيتها المميزة داخل الأسرة الأوروبية، والكنائس الكاثوليكية المرتبطة تقليديًا بأوروبا، والراغبة في عملية الاندماج الكامل معها. أدى هذا النزاع إلى نشوء حالة من الجدل حول تاريخ أوكرانيا وهُويّتها، وطرح أسئلة عدة: من هي أوكرانيا؟ ومن هم الأوكرانيون؟ وهل بسعيها إلى الانضمام لأوروبا تُنكر أوكرانيا ماضيها أم تحاول استعادة جذورها؟ في السياق، طرحت الدراسة هذه الحالة الجدلية التي قسمت المجتمع الأوكراني، وقدمت للسردية الأوكرانية التي تعتقد أن تاريخ روسيا مرتبط بأوكرانيا لا العكس، وبحسب الباحث تمكّنت روسيا من الهيمنة عليها خلافًا للقواعد الكنسية والتاريخ، مُشددًا على شرعية استقلال كنيسة أوكرانيا عن الكنيسة الروسية.
حللت الباحثة الروسية ناتاليا ميلينتيفا (Nataliya Melentyeva) (Наталия Мелентьева) انعكاس عودة الكنيسة الروسية للحياة العامة، بعد إعادة إحيائها، على تشكيل الأفكار السياسية، والرؤى والمفاهيم في الفكر السياسي الروسي المعاصر، وتعزيز المدرسة التقليدية المناهضة للحداثة، ورفدها بموارد فكرية حول الطبيعة الروسية، التي ترى في نفسها «التفرد» عن العالم الغربي وماديته المفرطة. قدّمت الباحثة رؤية هذه الفئة في روسيا لمذهب التقليد، وأنه بمثابة منع للانحدار لا عودة للوراء، مُلاحِظةً مركزية اللاهوت الديني في هذا المذهب، الآخذ في التوسع داخل روسيا، وما تعتقده أنه تراجع لقيم الحداثة، ودوافعها وانتقادات لما تسميه «الحداثة الجديدة» التي تلغي ذاتية الإنسان. تتطرق الباحثة إلى مفهوم الحضارات في إطار المواجهة بين العولمة والعالم متعدد الحضارات والثقافات، وصولاً إلى الحضارة الروسية، وما يميزها عن نظيرتها الغربية. مثَّل هذا الاتجاه جُزءًا من الصراع الفكري في روسيا الإمبراطورية ما قبل الثورة، وتراجعَ بعد قيام الاتحاد السوفيتي، ويشهد الآن عملية تنام وسط جدل واسع بين المفكرين الروس، زاد منه حالة التوتر الحالية بين روسيا والغرب، التي وصلت لذروتها بعد الحرب الروسية -الأوكرانية سنة 2022، مما يعطي رؤية أوسع لفهم طبيعة التحولات الحادثة داخل المجتمع الروسي، وارتباط هذه الأفكار والمذاهب الجديدة بالكنيسة والدين.
أدت المواجهة في الحرب الباردة بين الشيوعية والرأسمالية، لاهتمام الدول الغربية بتشكيل فريق كبير من الباحثين المتخصصين في الشؤون الروسية لفهم طبيعة هذه المواجهة، وقد تراجع هذا الاهتمام بعد تفكك الاتحاد السوفيتي سنة 1991. في هذا الإطار، عُرض كتاب وليام بيرنز (William Burns) «القناة الخلفية، مذكرات الدبلوماسية الأميركية وحالة تجديدها» (The Back Channel: A Memoir of American Diplomacy and the Case for Its Renewal) تطرق فيه إلى رؤية دبلوماسي أميركي عمل في روسيا، وأتقن لغتها، وتفاعل مع مجتمعها، واستشرف ما وقع لاحقًا من صراع غربي -روسي إبّان الحرب الأوكرانية -الروسية. لم يكتفِ بيرنز، بتوجيه الانتقادات للسياسة الروسية؛ فبدلاً من ذلك ركّز على أوجه القصور والخلل في السياسات الأميركية، ودورها في توتر العلاقات مع روسيا. حاولت قراءة بيرنز، شرح الأبعاد الثقافية للدين والهوية الروسية الجديدة، وتحليل مخاوفها وطموحاتها، عبر الحديث المباشر مع صناع القرار والانخراط داخل المجتمع.
في الختام، يتوجّه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب والعاملين على إخراجه للنور، كما يخص بالشكر الزميل أحمد دهشان منسق العدد، ونأمل أن يسدّ هذا الكتاب ثغرة في المكتبة العربية.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
فبراير (شباط) 2024