مقدمة المؤلف
أدى السُّود في تاريخ وحضارة الإسلام أدواراً مهمة، في شتى المجالات، فقد عاصروا الدَّعوة الإسلامية منذ بدايتها، ومنهم مَن آمن مع أول المؤمنين، وقصص تحملهم للعذاب برمضاء مكة مشهورة، وأول صوت يعلن الأذان بالصَّلاة كان مِن بين السُّود؛ صوتاً حبشياً، وهو المؤذن بلال بن رباح، ومنهم المقاتلون في الغزوات والحروب كافة، والفقهاء والرُّواة والشُّعراء، ولم يقتصر لعب هذا الدَّور على الرِّجال؛ إنما كان للنِّساء السُّوداوات حضوراً معروفاً، وكذلك أولادهنَّ مِن آباء مِن غير السُّود.
تعرضت هذه الفئة مِن البشر عالمياً، عِبر التَّاريخ، إلى ما عُرف بعصر الرِّق أو العبوديَّة، يباعون في أسواق الرِّق، التي عُرفت بأسواق النّخاسة، إلى زمن قريب حيث نشطت وراجت، هذه التِّجارة عالمياً، بعد اكتشاف أمريكا، أكثر واشد مِن السَّابق، وذلك لحاجة العالم الجديد، والبلدان الأوروبية إلى يد عاملة لزراعة الأرض، وتشغيل المصانع، ولم ينته هذا الوضع رسمياً حتَّى فترة متأخرة، أي بغضون القرن التَّاسع عشر الميلادي، بفعل مساعٍ حثيثة استمرت لنحو مئة عام.
كانت العبودية موجودة قبل الإسلام، ولم تتقيد بلَّونٍ أو قارةٍ، فأغلب عبيد الرُّومان واليونان كانوا بيضاً، مِن أسرى الحروب وأسواق الرَّقيق. فالعبد يفقد حريته بمجرد أن يصبح أسيراً، ومقابل الحفاظ على حياته يتحول إلى آلةٍ بيد مالكه، يُسخره في العمل أين ومتى ما شاء، ولا يُعاقب السَّيد لإيذاء وحتَّى قتل عبده، لأنه ملكه الخاص، ومِن حقه التَّصرف به.
هذا ما لاحظناه في مواد الشَّريعة البشريَّة الأقدم، شريعة الملك حامورابي، بالعراق القديم، ليس بين مواد هذه الشَّريعة قانون لصالح العبد، بأي حال مِن الأحوال. كذلك يلاحظ ذلك في القوانين الرّومانية واليونانية القديمة، فلم يجد الباحثون في هذا الشَّان ما يُفسر لصالح العبد كإنسان، إلا لماماً، وما يُثقل العبودية على السُّود، عنه على البيض، إضافة عبء التَّمييز باللَّون. صار التَّمايز ضدهم على أساسين: حقُّ التَّملك واختلاف اللَّون.
دينياً أنصفت اليهودية العبيد، قياساً بتقاليد زمنها السَّائدة، لكنها لم تنصف إلا العبرانيين منهم، فقد حُددت عبوديتهم بانتهاء الأسباب، وفي كلِّ الأحوال يصبح العبراني العبد حراً بعد ست سنوات مِن عبوديته؛ إلا إذا أراد البقاء عبداً بإرادته، فعندها يُختم عبداً.
درسنا أمر السُّود في الإسلام، عبيداً وعتقاءَ، ووجدنا إمكانية التَّمييز بين زمنين: صدر الإسلام، والعهود التي تلته. ففي صدر الإسلام أصبح العبد واحداً مِن جماعة المسلمين، بمجرد إشهار إسلامه، له ما لهم وعليه ما عليهم، حتَّى كُلف رجال مِن السُّود عديدون بقيادة الجيش، ووردت آيات قرآنية وأحاديث نبويَّة توصي بهم خيراً، تُرَغب بالعِتق للمملوكين منهم، مقابل الكفارة عن الذَّنب، وليس أسهل مِن العِتق في الفقه الإسلامي.
جاءت وصايا ببالمؤاخاة بين المالكين، أو الأسياد وعبيدهم، حتَّى فُهم مِن هذه المعاملة أنها بداية التَّحرير أو العتق الكامل للعبيد كافة، أو مثلما عبر عنه الشَّيخ عبد الرَّحمن الكواكبي(تـ: 1902) بالإلغاء التَّدريجي للعبودية وعَصر الرِّق، مثلما سيأتي ذِكره في محله مِن الكتاب. لكنَّ بعد هذا العصر، وبالتَّدريج، تغيرت المعاملة بعض الشَّيء، والسَّبب أنه صارت حاجة للعبيد في زراعة الأرض، والخدمة المنزلية الخاصة، وكان مصدرهم الرَّئيس مِن الحبشة وغرب إفريقيا.
وجدنا بين السُّود شعراءَ كباراً، تركوا بصماتهم في الأدب العربي، واقتربوا مِن مجالس الخلفاء والأمراء وتقدموا فيها، حتَّى صار لا يُستغنى عنهم، بل إنَّ بعضهم قُدم على شعراء كبار، سارت الرّكبان بقصائدهم، مثل همام بن غالب الفرزدق وجرير الخطفي (توفيا: 110 هـ).
جاء الفصل الخاص بالشُّعراء السُّود مِن أوسع فصول الكتاب؛ وذاك لكثرتهم ووفرة المصادر في ترجماتهم، أو سيرهم، ورواية شعرهم، وما ارتبط منهم بالحوادث السِّياسية والاجتماعية، كبيعة أبي جعفر المنصور(تـ: 158 هـ) لابنه محمَّد المهدي (تـ: 169 هـ)، وما حصل مِن انتقام ضد الأمويين بسبب قصائد أحدهم، وهو سُديف بن ميمون (قُتل 146 هـ) مثلاً.
لكنَّ تلك المدة التي تلت صدر الإسلام، واختلفت فيها معاملة السُّود على ما كانت عليه، دفعت كُتاباً ومؤرخين مسلمين مشهورين إلى التَّذكير بفضائل هؤلاء البشر؛ صحابةً وفقهاء وشُعراء ومتصوفةً.
كان مِن أهم وأول ما صُنف فيهم الرِّسالة الموسومة بـ «فخر السُّودان على البيضان» لأديب عصره عمرو بن بحر الجاحظ (تـ: 255 هـ)، ثم رسالة في «تفضيل السُّود على البيض» لأبي العباس عبد الله بن محمَّد النَّاشئ الأكبر (تـ: 293 هـ)، وكتاب أبي بكر محمَّد بن خلف بن المرزبان (تـ: 309 هـ)، الموسوم بـ «السُّودان وفضلهم على البيضان» المفقود. ثم تلتهما كتب ورسائل أُخر، والأبرز بينها كان كتاب أبي الفرج عبد الرَّحمن بن الجوزي (تـ: 597 هـ) الموسوم بـ «تنوير الغبش في فضل السُّودان والحبش»، وما صنف بعدها، من الكتب والرَّسائل الكثيرة.
اشتمل كتابنا هذا على ترجمات السُّود المسلمين، في مختلف عهود الإسلام، منذ فترة النَّبوة والخلافة الرَّاشدية، مروراً بالعهد الأموي فالعباسي، حتَّى سقوط الخلافة العباسية ببغداد (656 هـ/ 1258 م). فحسب تصورنا أن ما حصل، بعد هذا التَّاريخ، يحتاج إلى رصد آخر، إضافة إلى صعوبة التَّمييز فيمَن هم مِن السُّود، لأن أبناء السُّود الأوائل قد اختلطوا مع بقية المسلمين، بسبب الزَّواج بين السُّود والبيض، الذي لم يكن يمنعه الإسلام في حالٍ مِن الأحوال، بقدر ما ظلت تمنعه التَّقاليد والأعراف الاجتماعية القبلية، إضافة إلى كثرتهم، بما يصعب رصدهم.
فما بعد المدة، التي حصرنا البحث فيها؛ أُتي بالسُّود مِن بلدانهم الأصلية عبر تجارة الرَّقيق؛ ونادراً ما يجدون الفرص السَّانحات، التي تتيح لهم التقدم اجتماعياً، كالفرص التي منحها الإسلام للأوائل مِن السُّود، فقهاءً وشعراءَ ومحاربين، مثل الفرصة التي أتيحت لكافور الأخشيديَّ (تـ: 357 هـ) أن يكون حاكماً أوحداً على مصر، بوراثة عرش سيده الأخشيدي، والفرصة التي اقتنصها آل نجاح الأحباش (القرن الخامس الهجري)، عبيد آل زياد ملوك صنعاء وزّبيد، ليقيموا دولتهم بزبيد مِن بلاد اليمن، وسيدرك القارئ هذا الأمر مِن رصد حياتهم وسيرهم، وما أحاط بها مِن حوادث سياسية ومؤثرات اجتماعية.
اِحتوى الكتاب على بابين، اشتملا عَشَرة فصولٍ: الباب الأول، بُحث في فصله الأول في المصادر التي تناولت السُّود، منها المختص بهم فقط، والمصادر العامة، ونفهم مِن شرح دواعي تصنيف تلك الكتب
أنها جاءت دفاعاً عن السُّود، الذين ظُلموا اجتماعياً وميزوا بسبب اللَّون، وكيف اُعتبرت حكاية سواد لون ذرية حام وعبوديتهم لذرية إخوانه؛ التبرير الأول لهذا التَّمييز، وقد أفضنا في آراء المؤلفين العرب والمسلمين الأوائل القاضية بتكذيبها، بعتبارها مجرد خُرافة مقصودة، مِن هؤلاء المؤلفين: جماعة إخوان الصَّفا وخلان الوفا (القرن الرابع الهجري)في رسائلهم، وابن الجوزي (تـ: 597 هـ) في كتابه «تنوير الغبش في فضل السُّودان والغبش»، وما جاء بعده مِن كتب ليست قليلة، ككتاب «رفع شأن الحبشان»، للمؤرخ والمفسر جلال الدِّين السَّيوطي (تـ: 911 هـ).
جاء الفصل الثَّاني، مِن الباب الأول، في دراسة وضع السُّود والعبودية قبل الإسلام، بداية مِن عهد بابل (قبل الميلاد) مروراً بالرُّومان واليونان، ثم تسليط الضَّوء على ما جاء به النَّص التَّوراتي مِن معاملة العبيد، وما كان يحصل مِن عِتق وتوضيح أسبابه آنذاك، إلى العهود الأوروبية المتأخرة، مروراً بالدَّعوات لإلغاء العبودية وتجارة الرَّقيق، وما تأثير ذلك على إلغاء العبودية وهذا النّوع مِن التِّجارة ببلاد مصر وعُمان وتونس والمملكة العربية السُّعودية. ندرك جيداً مِن خلال هذه الدِّراسة أنَّ العبوديةَ كانت عالمية وتاريخية، ضمن بناء اجتماعيَ اقتصاديّ، ومِن الصَّعب بمكان إلغاؤها في نطاق دولة أو حضارة دون أخرى، كانت تجارة وممارسة عالمية.
يأتي الفصل الثَّالث، مِن الباب الأول، مختصاً بالعبودية ومعاملة السُّود، والعِتق في الإسلام، على وجه التَّحديد، موضحاً عبر النُّصوص القرآنية والأحاديث النَّبوية، والتَّرغيب في الفقه على العِتق أو الحرية الكاملة.
وجدنا أنَّ هناك عدة ثورات، ولتكن تسميتها حراكاً اجتماعياً، فأفردنا لها الفصل الرَّابع، وهو الأخير مِن الباب الأول، تحت عنوان «ثورات السُّود وتمردهم»، في ما قاموا به بالبصرة ثلاث مرات، وفي فترات مختلفة، وذلك لكثرتهم هناك.
حصل التَّمرد الأول والثَّاني خلال القرن الأول الهجري، بينما حصل التَّمرد الثَّالث في منتصف القرن الثَّالث الهجري، وكان الأخير ثورة خطيرة على الخلافة العباسية، فقد طالت معارك العبيد الزُّنوج مع الخلافة لخمس عشْرة سنةً بين كرٍّ وفرٍّ، حتَّى كادت تعصف بها، ويدخل الثُوار سامراء وبغداد.
أما التَّمرد الرَّابع، وهو الثَّالث، مِن حيث التَّسلسل الزَّمني، فوقع بالمدينة المنورة، وقصته تختلف عن الثَّلاثة، وذلك لصلته بطغيان جُند الخلافة وعبثهم في الأسواق، ولم يحصل التّمرد لأنفسهم كسود أرقاء، وإنما كان تضامناً مع التُّجار والباعة، مثلما سنرى الصُّورة في رواية الحادثة.
تناولت فصول الباب الثَّاني السِّتة، وما نعتبره مادة الكتاب الأساسية، سير وترجمات أعلام السُّود المسلمين، ومِن خلالها نتعرف على دور كلٍّ منهم، وفي مجاله بالتَّحديد، وأثرنا أنْ نوزع التَّراجم، أو السِّير على الزَّمن.
رصدنا في الفصل الأول مِن الباب الثَّاني، شخصيات السُّود في العهد النَّبوي والرَّاشدي، الَّذين لعبوا أدوراً لا تقل عن أدوار الآخرين؛ في نشر الدَّعوة الإسلامية، والدِّفاع عنها في سنواتها الأُول، مِن المشاركة في الغزوات والفتوح إلى التَّعليم الدَّيني، كرواة حديث، أو فقهاء كبار، الرِّجال والنِّساء، مَن كان قريباً مِن بيت النّبوة والخلفاء الرَّاشدين.
اختص الفصل الثَّاني، مِن الباب الثَّاني، بشخصيات أو أعلام السُّود في العهد الأموي، وقد برز فيه الفقهاء والشُّعراء. لم نغفل أهل الفن الذين حضوا بحضور بائنٍ في الغناء والموسيقى، حتَّى عدَّ بعضهم مِن الملحنين والعازفين الأوائل، أو مِن المؤسسين في هذا الفن.
أما الفصل الثَّالث فتناول السُّود في العهد العباسي، وفي أكثر مِن بلاد، العراق والشَّام ومصر والأندلس وغيرها، بينهم مَن صار حاكماً ووزيراً، ومنهم مَن اِشتهر بالتَّصوف، وكان ذلك بداية هذا المجال، وكان بينهم المقاتلون، والأطباء الحجامين، وأهم شخصية في ذلك العصر هو عمرو بن بحر الجاحظ، فقد اعتمدنا في ضمه إلى السُّود على رواية قريبه، التي رواها عنه أكثر مِن مؤرخ. صحيح أنَّ الجاحظ مِن أهل البصرة، حيث يكثر وجود السُّود بها، وصنف رسالة في فخر السُّوادن، وهي الأولى بهذا الضَّرب مِن التَّصنيف، إلا أنَّ ذلك لا يكفي اعتباره مِن السُّود لولا الرّواية التي ذكرنها، واعتمدها عدد مِن المؤرخين الأوائل.
كذلك تأتي شخصية زِرياب، الذي خلت منه الطَّبعة الأولى(2015) مِن الكتاب، وقد جاء في سيرته أنه لجأ إلى الدَّولة الأموية بالأندلس، تاركاً عاصمة الدَّولة العباسية بغداد، ومجها الحضاريّ آنذاك، ويُعد زِرياب مِن أهم الشِّخصيات، ليس بين أعلام السُّود حسب، وإنما في الحضارة الإسلامية كافة، جاءت الرَّوايات على سواده كثيرة، وقريبة على عصره.
لعب زِرياب دوراً كبيراً في نقل حضارة المشرق إلى الأندلس؛ ويمكن وصفه في مجال الموسيقى ببيتهوفن عصره، طور آلة العود باختراع الوتر الخامس، ونقل إلى الأندلس الموضة في تقديم الطَّعام وفن صناعته، واستخدام الأدوات مِن آنية الزُّجاج في الموائد، وجعل ارتداء أنواع الثّياب على الفصول والمواسم، هذا مِن غير ما جدده في مجال الموسيقى وتعليمها.
وجدنا للنِّساء السَّوداوات أدواراً مختلفة، ومنهنَّ صحابيات وشاعرات ومربيات، فأفردنا لهنَّ فصلاً خاصاً، وهو الفصل الرَّابع مِن الباب الثَّاني، سلطنا فيه الضَّوء على شخصياتهنَّ، كلِّ واحدة مِن موقعها وفي زمنها، وهو نهج نهجه المؤلفون القدماء في التَّراجم، كالكتب التي صُنفت في تاريخ الصَّحابة، وكتب التَّراجم العامة، وكان للنِّساء في تلك المؤلفات الأبواب الخاصة بهنَّ.
أفردنا للشُّعراء السُّود، على مختلف أزمانهم، الفصل الخامس مِن الباب الثَّاني، وجاء أوسع الفصول، وذلك لكثرة الشُّعراء بينهم، وهم الذين تبنوا مواجهة الدِّفاع عن أبناء جلدتهم، في قصائد بنى مؤلفون عليها ما كتبوا عن سيرهم وأشعارهم، حاولوا في قصائدهم رد الدُّونية عنهم بسبب اللَّون، ومنهم مَن لعب دوراً في الحوادث السِّياسية والاجتماعية، إيجاباً أو سلباً، مثلما تقدمت الإشارة.
أمَّا آخر فصول الكتاب، وهو الفصل السَّادس مِن الباب الثَّاني، فكان مختصاً بأبناء الحبشيات، أو السَّوداوات على العموم، وكان أباؤهم مِن خارج السُّود، وهنا يأتي الالتباس بسبب اللَّون، فكثيراً منهم عند الفخر بالسُّودان عُدوا منهم، ومعلوم أنَّ لأبنائهنَّ، مِن الذين ذكرنا، حضوراً في تاريخ الإسلام، مِن صدره وحتَّى نهاية الدَّولة العباسية، فمنهم مَن تولى الخلافة مثل إبراهيم بن المهدي العباسي (تـ: 224 هـ)، ولم يُعد معدوداً في سلسة خلفاء بني العباس، ولا نعلم السَّبب هل لأنَّ والدته كانت سوداء، أم بسبب وجود خليفة شرعي حيٍ (ابن أخيه عبد الله المأمون)؟ ونرجح السبب الأخير، فقد أتى محله بانقلاب داخل بغداد وداخل البيت العباسي، عندما كان المأمون بخراسان.
قدم الكتاب بمجمله صورة واضحة عن وجود السُّود، وسيرهم ومعاملاتهم في تاريخ الحضارة الإسلاميّة؛ والحريات الجزئية التي منحت لهم، بما عُرف بالعِتق، ولم يمنع لون بشرتهم تقديم مواهبهم كفقهاء وشعراء وقادة جيش، ثم وصولهم إلى أعلى مراكز السُّلطة، مثلما تقدمت الإشارة. لكنَّ هذا لا يمنع مِن القسوة التي مورست ضدهم مِن قِبل مُلاكهم، خارج الوصايا الدِّينية في الإحسان لهم، تلك القسوة التي قادت إلى انتفاضات وتمردات، مثلما حدث بالبصرة. فأمر العبودية، أو الرِّق، لم يكن يخص حضارة مِن الحضارات، أو دين مِن الأَديان، إنما كان نظاماً عالمياً يصعب اختراقه بإعلان الحرية الكاملة.
بلا شك، في أن الدِّراسة، ببابيها وفصولهما العشرة، تناولت قضية تاريخية، فلا وجود للعبوديَّة في عالمنا اليوم، وإن وجد مَن يتحدث عنها فيعنيها على المجاز لا الحقيقة، كاستغلال ظروف جماعات مِن البشر والاتجار بهم، مثلما نسمع عن الاتجار بالأطفال أو النِّساء، لكنَّ ذلك لا يعني أنَّها العبودية نفسها، التي ظل نظامها قائماً لعشرات القرون، وتوارثته الأجيال، كأسياد وعبيد، نظام يتنازل فيه الإنسان رغماً عنه كأسير أو بضاعة معروضة في سوق الرَّقيق، ليس له حقوق إلا ماندر، سواء كانوا مملوكين أو عبيد أرقاء.
كان الرِّق نظاماً عالميَّاً في تطبيقاته، مع التَّباين في التَّطبيق بين حضارة وأُخرى، ومِن بلاد إلى بلاد، وكان شاملاً للسُّود والبيض العبيد على حدٍ سواء، مع الأخذ بالأعتبار الموقف مِن اللَّون وتأثيره.
فما يخص موضوعنا هم السُّود، لهذا يأتي الكشف عن تاريخ العبودية إضافة إلى الفائدة المعرفية بالجملة، الواقعة على السُّود والبيض، مع الوقوف على ما تبقى مِن رواسب ذلك الموقف القديم تجاه السُّود بالذات، الذين ارتبط لونهم بالعبودية أو الرِّق.
انتهت العبودية بأمريكا العام (1865 م)، غير أن توابعها مثل التَّمييز العنصري وقوانينه وأعرافه ظلت سارية المفعول ضدهم، حتَّى إلغي رسمياً العام (1962)، أي أنه استمر لقرن مِن الزَّمان، وظلت التفرقة العنصرية قائمة بجنوب إفريقيا، مع أنها بلاد سُود في الأصل، سارية المفعول لقرون عديدة، إلى بداية إلغائه في العقد الأخير مِن القرن العشرين.
إلا أنَّ الأَعراف الاجتماعيَّة تجاه السُّود، وبعد إلغاء نظام الرِّق بلا عودة، في العالم أجمع، ظلت تمارس، فالنَّظرة الاجتماعية مازالت غير سوية تجاه المواطنين مِن أُصول سُود، مع أنهم ساهموا، على قَدم وساق، إلى جانب الآخرين في بناء الأوطان والحضارات، وتدرجوا في الوظائف وحصلوا على التَّعليم أسوة بغيرهم.
فربَّما انتهت كلِّ أشكال العنصرية، إلا الاختلاط بالنَّسب، مع أنَّ في صدر الإسلام هُدمت تلك الحدود معهم تماماً، فمِن أصبح مسلماً عُد مِن جماعة المسلمين صحابياً، خارج التمييز باللّون أو العنصر، لكنَّ ماحصل بعد صدر الإسلام، في مجال النَّسب، كأنه عودةٌ إلى ماقبل الإسلام في شأنهم، والمسألة تخص التَّمايز باللَّون لا غير ذلك، فلو كان عبداً أبيضَ، ومنح الحرية، لما صار اختلاط النَّسب معه مشكلةً، لكنه التَّمييز بين إنسان وآخر على قاعدة اللَّون، مثلما تقدم.
يشعر الإنسان الأسود وحده بثقل النَّظرة العنصريَّة تجاهه؛ بسبب اختلاف لونه، وما يتصل نسبه بماضٍ غابر مِن الرِّق، فإنَّ تحررَ الرِّقيق البيض، مِن عبوديتهم، وسهل عليهم الاختلاط والامتزاج داخل المجتمع، فإنَّ الرِّقيق السُّود ظل التَّعامل معهم مرتبطاً بحكاية حام بن نوح، ألا هو السَّواد والعبودية اللذان وقعا عليه، وعلى ذريته عِقاباً إلهياً.
فهذه امرأة سوداء اسمها دراميَّة الحجونيَّة([1])، كانت بصف عليّ بن أبي طالب(اغتيل: 40هـ)، فعيرها خصمه معاوية بن أبي سفيان(تـ: 60هـ) بسوادها قائلاً: «ما حالك يا ابنة حام؟ فقالت: لستُ لحام إن عبتني. أنا امرأة كنانيّة»([2]). كان سوادها، على ما مِن ردِّها، إنها ليست مِن جنس السُّود.
لذا تحرك كُتاب ومؤرخون مسلمون لتَّجميل السَّواد كلَّونٍ؛ ومع ذلك فبعضهم لم يتمكن مِن تجاوز تلك النَّظرة العنصرية القديمة، فأخذ يركز على الخُلق والمروءة، على أنهما يحولان السَّواد إلى بياض، ومعنى هذا على الإنسان الأسود الحرص على التَّمثل بالسُّلوك الحَسّن وبالجدارة في العمل، وكأن لسان حال أولئك الكُتاب يقول عندما يجدون منه اجتهاداً وتقدماً: «رغم سواده أنه على كذا وكذا مِت الفضائل»، وإذا أخفق وأخطأ قالوا: «لأنه أسود»! وهذا ما لا يواجهه البيض في حالٍ مِن الأحوال، حتَّى ببلاد السُّود أنفسهم. لا تقتصر مثل هذه النَّظرة على السُّود حسب، فكثيراً ما يستخدم ذلك في العنصرية بين قومية وأخرى، أو بين دين وآخر ، أو على أساس الجنس، مثلما هو الحال بين النِّساء والرِّجال، لكنَّ ما يخص السُّود مبعثه آخر وقديم جداً، إنه اختلاف اللَّون.
قبل البدء في البحث حرصنا على مشاهدة فيلم «12 عاماً مِن العبودية»، وكانت سناريو الفيلم مأخوذة عن قصة حقيقة، وقعت لأحد السُّود بأمريكا، قبل قانون العِتق أو التَّحرير الجماعي بسنوات، ولم يكن هذا الإنسان عبداً حينها، لكنَّ بتحايل أحد النَّصابين البيض عليه تمكن مِن تقيده وبيعه عبداً.
ظل عبداً بين سنتي (1841- 1853)، خلالها، تمَلَّكه أسيادٌ قساةٌ، حتَّى عثر على مكانه أحد السَّاعين لإلغاء العبودية، ويكشف عملية النَّصب التي تعرض لها؛ واختطف بسببها مِن أسرته ليكون عبداً عند صاحب مزرعة، ويُباع لصاحب مزرعة أخرى.
كان الثَّاني أكثر قسوةً عليه مِن الأول، مع وجود عبيد سُود مِن أبناء جلدته مهانين معه، وكان يتألم كثيراً لأجلهم. حصلت تلك القصة قبل تغيير الدُّستور الأمريكي وإقرار قانون إلغاء الرِّق وتحرير العبيد، وكانوا مِن السُّود كافة، بجهود الرَّئيس الأمريكي أبراهام لينكولن، الذي كانت مساندته للسُّود أحد أبرز الدَّوافع لاغتياله في السَّنة نفسها (1865 م).
بعدها عندما اطلعتُ على الوصايا التي جاءت، في صدر الإسلام والتَّرغيب على العِتق، واتخاذ العبد أخاً في حالة عدم عِتقه، وتيسير مسألة العِتق في الفقه، إلى أبعد ما يكون مِن التَّسهيل، وما أوردناه مِن شعر ونثر في مدح السُّود، وجدتُ في هذا التَّاريخ تفوقاً إنسانياً وحضارياً في هذه لتصبح العبودية سوقاً مربحة، وأنْ يأتي التَّأثير لإلغاء العبودية وتجارة الرِّقيق مِن أوروبا، بفعل الدَّعوات الاجتماعية والسِّياسية المكثفة، لإلغاء قرون مِن التَّمييز العنصريّ، على أساس اللّون، وإنهاء حِقبة طويلة مِن وجود أحرار وعبيد، أسياد وأرقاء، ومِن تجارة بالبشر، عُرفت أسواقها بأسواق النّخاسة([3]).
ربَّما فكر الكثيرون بتاريخ معاملة السُّود، بعد انتخاب الرّئيس براك أوباما(2008)، لرئاسة بلاد مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وهو المتحدر مِن أُصول إفريقية، ووقع على أجداده وأبناء جلدته الرِّق، بشكل مِن الأشكال، وها هو الرَّئيس الأمريكيّ الرَّابع والأربعون وزوجته الإفريقية الأُصول أيضاً تصبح سيدة أمريكا الأُولى، ويفوز فوزاً كبيراً لولايتين (2008 و2012)، وقبل ذلك صار الأسود رئيساً لأركان القوات الأمريكية المشتركة، وأنْ يتبوأ السُّود وزارة الخارجية والأمن القومي الأمريكيّ، بعد أن كان الأسود، حتَّى 1962، معزولاً في الحياة العامة، ناهيك عن الحياة السِّياسية والوظائف الحكومية.
أقول: مَن يقرأ الكتاب عليه التَّفكير بتفاصيل حوادث الماضي، البعيد والقريب، والتَّطورات الاجتماعية التي طرأت على البشرية، كي يبدأ بالنَّظر إلى أنَّ الإنسان مهما كان لونه يبقى إنساناً. وأنّ، اللَّون ليس بمييزٍ بين البشر، فلا لون أفضل مِن لون. وفق الآية: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ «(سورة الحجرات: 13).
جاء الكتاب شاملاً، لما قدرنا أنْ نصل إليهم مِن أسماء السُّود وأعلامهم، ونقصد أصحاب الأدوار، مهما كبرت أوصغرت، وما حصلنا في المصادر كي نسجل ترجماتهم، وأنَّ عدداً مِن الأسماء لم يحضوا بكتابة سيرة، لذا واجهنا صعوبة في جمع النزير مِن أخبارهم، أو ما جاء على هامش سير آخرين، في كتب التَّاريخ والأدب، بما يوجب تقديم الاعتذار مسبقاً عمَّا فاتنا ذكره في سير هؤلاء، بسبب حدود ما وصلت أيدينا إليه مِن المَظان.
في الختام نقول: لم يَحفل مصدر مِن المصادر الحديثة، التي نظرنا فيها واقتبسنا منها، بترجمات لسير أعلام السُّود، عدا ما قَدمه الباحث المصري عبد بدوي(ت 2005) مِن تراجم حصرها بالشُّعراء فقط، وهذا ما حاولنا سده في كتابنا هذا، أن أتينا على ما وصلنا مِن المصادر عن سير السُّود وأدوارهم في مختلف طبقاتهم وأزمانهم، حتَّى أواخر الدَّولة العباسية.
في الختام، عُذري في ما قد يجده القارئ من خطأ أو سهو، ما قاله الأديب والكاتب إبراهيم بن العباس الصُّوليّ(تـ: 243هـ): «المتصفح للكتاب أبصرُ بمواقع الخلل فيه مِن منشئه»([4]). ورويت بما لا يختلف عن الوجه الأول: «والمتصفح للكتاب أبصرُ بمواضع الخلل مِن مبتدي تأليفه»([5]).
رشيد الخيُّون
سبتمبر (أيلول) 2014
يناير(كانون الثَّاني) 2024
[1] نسبة إلى مكان الحجون بمكة. قيل جبل بأعلى مكة وقيل بيت، واشتهر الاسم بشهرة بيت مضّاض بن عمرو الجرهميّ من رائيته: «كأن لم يكن بين الحَجون إلى الصفا/ أنيس، ولم يسمر بمكة سامر/ بلى! نحن كنا أهلها، فأبادنا/ صروف الليالي والجدود العواثر»(انظر: الحمويّ، معجم البلدان 2 ص 225).
[2] ابن عبد ربّه، العقد الفريد 1 ص 352.
[3] أطلق على بائع العبيد بالنّخاس، والسّوق بسوق النّخاسة، وقد استخدمت المفردة لتاجر الحيوانات، جاء في اللّسان: «والنَّخَّاسُ: بَائِعُ الدَّوَابِّ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لنَخْسِه إِياها حَتَّى تَنْشَط، وحِرْفته النِّخاسة والنَّخاسة، وَقَدْ يُسَمَّى بائعُ الرَّقِيقِ نَخَّاساً، والأَول هُوَ الأَصل»(ابن منظور، لسان العرب 6 ص 228).
[4] الثّعالبيّ، الإعجاز والإيجاز، ص 133.
[5] الحَمويّ، معجم الأدباء(إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) 1 ص 11.