تنظر المرأة التونسية لمجلة الأحوال الشخصية بوصفها منجزًا رائدًا مكّنها من تحقيق حقوق ومكاسب مهمة منذ عقود، ولهذا ظلت تفخر بها وتسعى باستمرار للحفاظ عليها ودعيمها بمطالب جديدة. ومع صعود الإسلاميين للحكم إثر الحركة الاحتجاجية في 14 يناير(كانون الثاني) 2011، تسربت المخاوف من المساس بهذا المنجز؛ نظرًا للمواقف السابقة لقيادات حركة النهضة المنتقدة بشدة لمجلة الأحوال الشخصية، وسعيها لتغيير بعض فصولها.
لكن طموحات الحركة لم تكن ممكنة التحقيق في ظل استعداد نساء تونس خصوصًا الناشطات المدافعات بشدة عن حقوق المرأة لهذا السيناريو. وكن جاهزات لخوض معركتهن من أجل قطع الطريق أمام الإسلاميين وإجبارهم على القبول بواقع حقوق المرأة في تونس. واستفدن من الجو العام في البلاد الذي لم يكن في مجمله قابلاً بأي إجراء يطال مجلة الأحوال الشخصية التي ظلت لعقود طويلة المنظم لحياة الأسر التونسية. وكسبن المعركة بل استطعن افتكاك بعض الحقوق الجديدة باستثناء المساواة في الميراث التي بقيت معلقة.
أولاً: خوف نساء تونس المبكِّر من الإسلاميين
في 13 أغسطس (آب) 1956 أصدرت تونس، التي كان يقودها حينها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، “مجلة الأحوال الشخصية” بعد أقل من أربعة أشهر من استقلال البلاد في ـ30 مارس (آذار) 1956، وقبل سنة من إعلان الجمهورية في يوليو (تموز) 1957 وقبل ثلاث سنوات من صدور أول دستور في تونس المستقلة. ومنذ صدورها وحتى اليوم مازالت المجلة تعتبر أبرز مدونة حقوقية في العالمين العربي والإسلامي؛ نظرًا لما تضمنته من نصوص قانونية رائدة لفائدة المرأة كانت بمثابة الثورة حينها.
إذ منعت المجلة تعدد الزوجات، والطلاق الشفهي وأقرت وجوب إعلام الطرفين بذلك، وإجبارية المرور بالمحاكم المدنية لطلب الطلاق والحصول عليه، وحق الزوجة في طلب الطلاق حتى دون موافقة الزوج، والحصول على حضانة الأطفال بشكل شبه آلي عند الطلاق أو وفاة الأب إلى حد بلوغهم سن الرشد، والتمتع بحق الولاية على الأطفال الذين هم في حضانتها فيما يتعلق بسفر المحضون ودراسته والتصرف بحساباته المالية. وحق المرأة الراشدة في السفر دون ترخيص مسبق من الزوج أو الأب أو ولي الأمر، وحقها في منح جنسيتها لأبنائها من زوج أجنبي. وإلغاء واجب طاعة الزوج، وإلغاء مفهوم بيت الطاعة ومعاقبة الزوجة “الناشز”، وإلغاء مصطلح القوامة وتعويضه برئيس العائلة. وحق المرأة الراشدة في الإجهاض بدون ترخيص، سواء كانت متزوجة أو عزباء. وحق البنات في الحصول على إرث آبائهن وأمهاتهن كاملاً عندما لا يكون لهن إخوة ذكور، وعدم توزيع الإرث على الأعمام والأخوال وأبنائهم.
على مدار سنوات حكم بورقيبة ومن بعده زين العابدين بن علي، لم يكن هاجس النساء التونسيات كيفية الحفاظ على هذه المكاسب فحسب، بل كان نضالهن كذلك من أجل التطبيق الكامل لمختلف النصوص القانونية وتحقيق المزيد من الحقوق، خصوصًا بلوغ المساواة التامة بين الجنسين. لكن هذا اليقين اهتز منذ بداية الحركة الاحتجاجية في 14 يناير (كانون الثاني) 2011، وحل محله الخوف من الالتفاف على هذه المكاسب. ولهذا حرصت التونسيات على الحضور بأعداد كبيرة جنبًا إلى جنب مع الرجل في كامل محافظات البلاد أثناء مسيرات الحركة الاحتجاجية، وأعلين شعارات المساواة والحرية والكرامة التي استمرت حتى ليلة هروب بن علي.
لم تكتف النساء التونسيات بهذا الحضور الكبير في مسيرات الحركة الاحتجاجية التي استمرت لأيام، وواصلت التحرك. فبعد أيام قليلة من سقوط نظام بن علي، قامت مجموعة من النساء من الحركة النسائية اليسارية بالخروج مجددًا للشارع للتظاهر من أجل المطالبة بالمساواة الكاملة بين الجنسين. وتجدد الأمر في 19 فبراير (شباط) بمشاركة نسائية كبيرة، وتواصل التحرك حتى إقرار دستور 2014. كان الهدف من هذه التحركات في البداية استباق الإسلاميين، العائدين إلى البلاد بأفكارهم الرافضة للحقوق التي تتمتع بها المرأة التونسية، وإخبارهم بأنه لا تراجع عن المكاسب التي تحققت للمرأة، وأن محاولات المساس بها لن تقابل بالصمت.
كانت مخاوف التونسيات من الإسلاميين محكومة من جهة بالإرث الفكري لحركة النهضة الإسلامية (إسلاميو تونس) القائم على تحجيم أدوار المرأة، والهجوم الكبير والصريح على مدار سنوات على مجلة الأحوال الشخصية التي تحولت في بعض الفترات لباب لمهاجمة بورقيبة واتهامه بالعمالة والارتهان للغرب. ومن جهة أخرى، عكست تصريحات بعض قيادات الصف الأول للحركة رغبة وتوجها لتغيير بعض نصوص القوانين المتعلقة بحقوق المرأة، بما في ذلك الواردة في مجلة الأحوال الشخصية، وطرح نصوص مثيرة للجدل لإدراجها في الدستور الذي كان في طور النقاش حينها، فضلاً عن إطلاقهم للمجموعات التكفيرية في الشوارع؛ لبث أفكار جديدة على المجتمع التونسي وموجهة في مجملها للمرأة، واستقبال شيوخ عرفوا بمواقفهم المتشددة إزاء المراة.
ثانيًا: الإسلاميون يجسون نبض التونسيين بالتصريحات
عندما قدمت حركة النهضة للحكم في تونس، بعد عام 2011 كانت واقعة في صراع كبير ما بين أفكارها الرجعية التي ظلت تروجها وتدافع عنها، وادعائها الالتزام بتعاليم الدين الإسلامي، وواقع المجتمع التونسي الذي طبّع مع نمط حياتي يتعارض كليّا مع أفكارها. ولهذا اتبع قادة حركة النهضة سياسة جس النبض، التي تقضي بتمرير بعض أفكارهم عبر أحد القيادات وانتظار رد فعل المجتمع التونسي. وفي حال قوبلت أفكارها بالرفض الواسع فإنها تدعي بشكل سريع أنه قد أسيء فهمها أو أخرجت الخطابات والبيانات من سياقها. كما تعمدت خلال هذه الخطوة أن لا تطرح أفكارها صراحة، ودأبت على تضمينها داخل فكرة أوسع؛ حتى تستطيع المماطلة والالتفاف على ما أعلنت وادعاء سوء الفهم.
هناك أمثلة عدة على ذلك، ففي سنة 2011 على سبيل المثال، أشارت حركة النهضة في تونس سنة 2011 في أحد بياناتها إلى الآتي: “إن إقامة الدولة الديمقراطية التي تحدد فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة، دون اعتبار للجنس أو اللون أو المعتقد هي المدخل الأمثل لكل إصلاح اجتماعي وسياسي حقيقي، وضرورة أن تأخذ المرأة قضيتها بيدها في ظل فلسفة التكامل والتعاون مع الرجل وليس في ظل عقلية التطاحن أو التنازع”. وهنا قامت حركة النهضة بتمرير موقفها المتوازن من الديمقراطية؛ لتغطي على قبولها بمبدأ المساواة بين المرأة والرجل، وتعويضها بـ”التكامل” وهي الفكرة التي أرادت حتى إدراجها في دستور 2014 وتم التصدي لها.
في السنة نفسها قال رئيس الحركة راشد الغنوشي: إن دعوة حركة النهضة لإعادة بناء المجتمع الإسلامي لا تعني استبعاد زمن الحداثة والعودة إلى النمط الموروث وإعادة إنتاج مجتمع الانحطاط، وإنما غايتها استيعاب ما أنجزته الحداثة في السياق الخاص بالمسلمين. وهنا أيضا يبدو خطاب الغنوشي منسجمًا مع مبدأ الحداثة في عمومياتها التي تشمل حتى وضعية المراة وحقوقها. لكن الحقيقة أن هذه الكلمات مجرد مقدمة للتغطية على الموقف الحقيقي الذي يورده الرجل بعد ذلك، والذي يتعارض كليًّا مع ما تم ذكره. حيث يقول: إن “الحداثة لم تحقق حرية المرأة وإنه إن أمعنا النظر في مضمون هذا التحرير المزعوم في تونس، سنجده في أغلبه مجرد سلب”.
عندما تحدث الغنوشي عن مجلة الأحوال الشخصية وحقوق المرأة في تونس قال قبل انتخابات المجلس التأسيسي في 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2011: “نحن أكثر انفتاحًا من المجموعات السياسية التي تدعي الحداثة، ولا نخطط في حال وصلنا إلى الحكم للتضييق على حرية المرأة التونسية، التي تتمتع بوضع حقوقي فريد من نوعه في العالم العربي؛ بفضل مجلة الأحوال الشخصية”. ولم تكن تلك التصريحات سوى محاولةٍ لتهدئة الناخبين وطمأنتهم خصوصًا النساء خوفًا من تصويت عقابي للحركة. وفعلاً نجح الغنوشي وحركتُه في ذلك وحصدوا نسبة تصويت عالية حينها. لكن في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) 2012 قال زعيم الإسلاميين بتونس لإذاعة محلية: “إن حركة النهضة لن تغير سوى فصلين فقط من فصول مجلة الأحوال الشخصية، وهما فصل التبني واستبداله بمبدأ الكفالة، وفصل منع تعدد الزوجات”. وكرر ذلك في تصريح صحفي آخر. وقد برر كلامه آنذاك بأن الإسلام لا يمنع تعدد الزوجات ولا يفرضه.
وفي مطلع أغسطس (آب) 2012 اعتمدت “لجنة الحريات والحقوق” في المجلس التأسيسي حينها مشروع قانون تقدمت به كتلة حركة النهضة الاسلامية الحاكمة، ينص على مبدأ “التكامل” بين الرجل والمرأة عوضًا عن “المساواة”. تلقف التونسيون ذلك المشروع برفض واسع، وفي 14 أغسطس (آب) من العام نفسه تظاهر الآلاف في مدن تونسية عدة للمطالبة بأن ينص الدستور الجديد على مبدأ “المساواة” بين الرجل والمرأة وسحب المادة المتعلقة بـ”التكامل”.
فوجئ النواب الإسلاميون بالتعبئة القوية ضد مشروع المادة هذا، فادعوا الاستغراب ونددوا بعدم فهم ما كانوا يريدون، وبسوء نقل المعلومة وبحملة سياسية إعلامية لا مبرر لها ضد الحركة. وتم سحب المادة من النسخة الأولى من الدستور.
مع استمرار تعالي التحركات الاحتجاجية الرافضة لخطط الحركة في الشوارع، والتي لم تكن تضم النساء فقط، بل كان يقودها الرجال في الكثير من الأحيان، وتطالب بعدم المساس بمجلة الأحوال الشخصية وتحقيق المساواة بين الجنسين، دبَّ الخوف في حركة النهضة، وسارعت للتراجع عن مواقفها السابقة مدعية سوء فهمها، وأطلقت مواقف مناقضة لما سلف على لسان أبرز قيادييها. حيث سارع الأمين العام لحركة النهضة حينها حمادي الجبالي إلى القول: إن الحركة لن تسمح بتعدد الزوجات، ولن تمس مكاسب الحداثة للشعب التونسي. وقال وزير العدل حينها والقيادي البارز بالحركة نور الدين البحيري: “إن النهضة تدعم مكتسبات التونسيين بما في ذلك الحظر على تعدد الزوجات الذي لا يتعارض والقرآن”. وبدوره قال وزير الداخلية آنذاك وأحد أهم القياديين الإسلاميين بتونس علي العريض: “ليس لنا أي نية لمراجعة تعدد الزوجات (…)، الحركة تحترم النمط الاجتماعي، وفي تونس جرى العمل على أنه لا وجود للتعدد، وسنحافظ على الأسرة التونسية المكونة من زوج وزوجة وأطفال الدين الإسلامي واحد، وقراءته متعددة، وهو يتأقلم مع كل مجتمع بخصائصه”.
ظلت الحركة تحاول بث رسائل طمأنة للتونسيات بشأن مكاسبهن؛ خوفًا على خسارة الحكم الذي استطاعت الوصول إليه، بعد سنوات طويلة من الصراع مع الأنظمة السابقة. أبدت الحركة استعدادًا كبيرًا للتنازل عن أفكارها السابقة لو مؤقتًا من أجل تثبيت أقدامها في السلطة. بهذا نجحت التحركات التي خاضها التونسيون ولا سيما النساء، في فرض النصِّ على مبدأ المساواة بين النساء والرجال في الحقوق في دستور 2014 بدل التكامل الذي أرادته الحركة دون أن تبدي الأخيرة أي اعتراض، بل اعتذرت عما اعتبرته سوء فهم. حيث نص الفصل (20) من الدستور على أن “المواطنين والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز”. كما نص الفصل (40) على ضمان الحق في العمل على أساس الكفاءة والإنصاف، فيما نص الفصل (46) على التزام الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة، والعمل على دعمها وتطويرها كالعمل على تحقيق التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة، واتخاذ التدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضد النساء.
ثالثًا: استخدام أنصار الشريعة والمتطرفين في المساجد والشارع
بعد أن فازت حركة النهضة بانتخابات أكتوبر (تشرين الأول) 2011 وشكلت مع “حزب المؤتمر من أجل الجمهورية” و”التكتل الديمقراطي”، الغالبية بالمجلس الوطني التأسيسي الذي عهدت إليها صوغ الدستور الجديد لتونس، وشكلت معهما الحكومة الانتقالية التي عهد إليها تسيير البلاد إلى حد إجراء الانتخابات على قاعدة الدستور الجديد (2014)؛ أطلقت العنان للجماعات المتطرفة والمعادية بشدة لحرية المرأة على غرار أنصار الشريعة وغيرهم من الجماعات الراديكالية للاستيلاء على المساجد وبعض الساحات، ينشرون بكل حرية خطابات متطرفة ويحملون شعارًا واضحًا “تطبيق الشريعة”.
كما قامت بعض المجموعات المتطرفة التي كانت أشبه بمليشيات في بعض الأحياء الشعبية، بالتضييق على النساء لدفعهن لارتداء ما يسمونه باللباس الشرعي. وفي فترة وجيزة تحولت بعض الأحياء الشعبية الكبرى وبعض الساحات المعروفة لفضاءات مفتوحة لهذه المجموعات، تنصب خيمًا لنشر فكرها المتطرف، بعد أن تلقت الضوء الأخضر من حركة النهضة التي وضعت يدها حينها على الأجهزة الإدارية والأمنية في البلاد. فأمسى دخول بعض الأحياء خصوصًا في تونس العاصمة، محفوفًا بالمخاطر بالنسبة للنساء غير المحجبات، في ظل الانتشار الكبير لأزياء جديدة في المجتمع التونسي في صفوف نساء ورجال هذه المجموعات، مما أدخل الرعب في نفوس عموم التونسيين.
في تلك الفترة أصبحت تونس قبلةً لشيوخ عرفوا بتطرفهم ونظرتهم الدونية للمرأة، والذين كان في استقبالهم بعض قيادات حركة النهضة الذين جابوا بهم بعض محافظات البلاد ليروجوا خطابات تهاجم حقوق التونسيات وتروج لختان البنات وغيرها.
أثار هذا الواقع حفيظة التونسيين، لا سيما القوى التقدمية والنساء، ودخلوا في معركة كبيرة من أجل التصدي لمشروع الإسلاميين في تونس. كانت المعركة تدور بين المجلس الوطني التأسيسي من جهة، من خلال النائبات اللاتي دافعن بشراسة عن حقوق النساء، وضغطن من أجل وقف انفلات المجموعات المتطرفة في المساجد والساحات، والشارع من جهة أخرى، من خلال المظاهرات المتتالية من أجل ذات الأهداف. وبعد جهود كبيرة وإصرار أكبر نجحت النساء التقدميات المدعومات ببعض الأحزاب والمنظمات وعموم التونسيين، في إسقاط حكومة الترويكا التي تتزعمها حركة النهضة التي أنهكتها أيضًا الاغتيالات السياسية. ومع رحيل الترويكا أحبطت كل المساعي الجدية لحركة النهضة، لفرض أفكارها الرجعية المتعلقة بالمرأة. وبدأت مرحلة أخرى بعد انتخابات 2014، تجنب خلالها إسلاميو تونس طرح أي أفكار أو تصورات من شأنها المساس بمجلة الأحوال الشخصية وحقوق المرأة فيها.
رابعًا: مكاسب جديدة
خلال انتخابات 2014 صوت التونسيون خصوصًا النساء لحزب نداء تونس ولا سيما لرئيسه الباجي قائد السبسي، الذي كسب أصوات أكثر من مليون امرأة تونسية اعتقادًا منهن أنه امتداد للفكر البورقيبي، وأنه قادر على الحفاظ على حقوقهن وتعزيزها. وكان تصويتًا عقابيًّا ضد حركة النهضة التي أدركت من خلاله جيدًا أن لا مجال لإدخال تغييرات جديدة على نمط حياة التونسيين، وأن الاقتراب من مكاسب المرأة في تونس، ولا سيما الواردة في مجلة الأحوال الشخصية مسألة محفوفة بالمخاطر، وقد تؤدي لإخراجها نهائيًّا من الحكم في حال عاودت مجددًا سلك ذلك الطريق.
على الرغم من أن الباجي قائد السبسي قد خيب آمال قسم واسع من التونسيين، وتحالف مع حركة النهضة، وتقاسم معها الحكم، فإنه وخلال سنوات حكمه استطاعت المرأة التونسية تعزيز حقوقها بمكاسب جديدة. كانت البداية في 23 أبريل (نيسان) 2014، عندما رفعت تونس بشكل رسمي أهم تحفظاتها على “اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة” (سيداو). وكانت هذه التحفظات تسمح لتونس بعدم الالتزام ببعض البنود، ومنها حقوق المرأة في العائلة، على الرغم من انضمامها إلى الاتفاقية. وفي 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 صادق البرلمان التونسي على قانون يسمح للمرأة بالسفر مع أبنائها القصر دون الحاجة إلى تصريح من والدهم.
في سبتمبر (أيلول) أنهت تونس العمـل رسمـيًّا بالمـنشور (1973) الذي يمنع زواج المرأة التونسية المسلمة بالأجنبي غير المسلم، إلا في صورة الإدلاء بما يثبت اعتناق الزوج للدين الإسلامي، استجابة لدعوة رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي الذي طالب بإلغائه نظرًا للمتغيرات التي يشهدها المجتمع وسفر المرأة التونسية إلى خارج البلاد سواء للعمل أو الإقامة. على الرغم من أن هذا القانون أحدث جدلاً كبيرًا داخل وخارج تونس، فإن حركة النهضة اختارت أن لا تعلق بأي بيان عليه. ظهر تعليق وحيد عن أحد قيادييها عبدالفتاح مورو الذي اعتبر أن زواج التونسية بغير المسلم “اختيار شخصي” معبرًا عن تأييده للمنشور.
وفي 11 أغسطس (آب) 2017 نجحت المدافعات عن حقوق المرأة بعد سنوات طويلة من النضال في افتكاك أحد أهم وأبرز القوانين التي صيغت بعد عام 2011 لفائدة المرأة وهو القانون (58) لمناهضة العنف ضد المرأة. ودخل حيز التنفيذ في 16 فبراير (شباط) 2018.
اعتبر هذا القانون بمثابة النقلة الكبيرة في مجال ضمان حقوق المرأة، لأنه يلزم الدولة بوضع التدابير الكفيلة بالقضاء على كل أشكال العنف ضد المرأة، القائم على أساس التمييز بين الجنسين من أجل تحقيق المساواة واحترام الكرامة الإنسانية، وذلك باتباع مقاربة شاملة تقوم على التصدي لمختلف أشكاله بالوقاية وتتبع مرتكبيه ومعاقبتهم وحماية الضحايا والتعهد بهم.
خلال هذه الفترة التي شهدت إقرار قوانين عدة لفائدة المرأة في تونس، تجنبت حركة النهضة الاعتراض عليها بل وباركتها. في الأثناء بدأ الباجي قائد السبسي يدرك أن تحالفه مع الحركة كان خطأً جسيمًا، لا سيما بعد أن عملت الأخيرة على اختراق حزبه وتفتيته. وفي 13 أغسطس (آب) 2017 بمناسبة الاحتفال بعيد المرأة في تونس، وفي محاولة منه لاستعادة ثقة التونسيين، الذين استاؤوا من قربه من الإسلاميين بعد انتخابات 2014 وخصوصًا النساء، أعلن السبسي عن مبادرة تشريعية تقر المساواة التامة في الميراث بين الجنسين، وأوكل مهمة الإعداد لها إلى لجنة الحريات الفردية والمساواة التي أحدثها في ذات اليوم، وكلفها بإعداد تقرير حول الإصلاحات المرتبطة بالحريات الفردية والمساواة، استنادا إلى دستور 2014 والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، والتوجهات المعاصرة في مجال الحريات والمساواة. بعد نحو سنة وتحديدًا في 9 يونيو (حزيران) 2018 قدم أعضاء اللجنة التقرير النهائي للباجي قائد السبسي رئيس البلاد حينها. تضمن التقرير مقترحات ثورية؛ إذ أعاد تشكيل الرؤية السائدة حول مفهوم الفرد وعلاقته بالمجموعة بشكل كامل من جهة، وحول بنية الأسرة والعلاقة بين الرجل والمرأة فيها، ثم علاقتهما بالأبناء، من جهة أخرى. ومن ضمن أهم المقترحات التي جاءت في التقرير إلغاء عقوبة الإعدام، وإلغاء تجريم المثلية الجنسية والمساواة في الميراث.
أحدث التقرير ضجة كبيرة في تونس وأخرج حركة النهضة من صمتها السابق، فبعد أن كانت تؤيد كل القوانين التي تدعم حقوق المرأة، أبدت في 26 أغسطس (آب) رفضها رسميًّا المساواة في الإرث. حيث قال مجلس شورى النهضة، المؤسسة الرئيسة الحاكمة للحزب: “إن مبادرة المساواة في الميراث فضلاً عن تعارضها مع تعاليم الدين ونصوص الدستور ومجلة الأحوال الشخصية، فهي تثير جملة من المخاوف على استقرار الأسرة التونسية وعادات المجتمع”. في حين لم تبد الحركة الإسلامية أي موقف من بقية مقترحات التقرير ومقترح مجلة الحريات الفردية وهو فتح باب التأويلات.
لكن السبسي الذي أراد الإيقاع بحركة النهضة في هذا المأزق لم يتوقف، وأشرف في 23 من نوفمبر (تشرين الثاني) على مجلس الوزراء التونسي للمصادقة على مشروع قانون الأحوال الشخصية، الذي يتضمن أحكامًا بالمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة.
أدرك السبسي أن الحركة ستجد نفسها بين خيارين كلاهما صعب، الأول ضرورة استرضاء قواعدها الحزبية ذات المرجعية الإسلاموية الذين مازالوا ينتظرون اللحظة المواتية التي ستطبق فيها حركتهم الشريعة، لا سيما أنها مقبلة على انتخابات قريبًا. والثاني كيفية المحافظة على صورتها التي تروجها في الداخل والخارج كحزب يحترم ويعترف بمدنية الدولة التونسية والمساواة بين الجنسين التي أيدها في دستور 2014. وفي كلا الحالتين ستكون الفاتورة غالية.
ينص مشروع القانون في القسم المتعلق بالمساواة في الميراث، على أن ”البنت انفردت أو تعددت ترث جميع المال أو ما بقي عن أصحاب الفروض عند وجودهم. ولا يرث معها الأب والجد إلا السدس دون أن ينتظرا شيئًا آخر. ولا يرث معها الإخوة والأخوات مهما كانوا ولا الأعمام مهما كانوا ولا صندوق الدولة”. إضافة إلى الفصل (146-3) وينص على أن “البنت مع الابن يرثان بالتساوي جميع المال أو ما بقي عن اصحاب الفروض عند وجودهم”. والفصل (146-4) وينص على أن “الاحفاد إناثا أو ذكورًا مهما كانت طبقتهم يرثون مثل ما كان سيرجع لأصلهم المباشر، كما لو كان حيًّا في تاريخ وفاة سلفه. ويوزع نصيب الأحفاد بينهم بالتساوي” .
في نوفمبر (تشرين الثاني) 2018 تم عرض القانون على مجلس نواب الشعب المسمى. في تلك الفترة شهد حزب نداء تونس (حزب السبسي) انقسامات كبيرة، فافتقدت بذلك المبادرة لكتلة وازنة وموحدة، تقف وراءها وتدافع عنها داخل المجلس. وفي 25 يوليو (تموز) 2019 توفي الرئيس الباجي قائد السبسي فظل قانون المساواة في الميراث معلقًا في انتظار فرصة جديدة ليعود لطاولة النقاش مجددًا وربما يحقق انتصارًا حينها.
مع رحيل السبسي استعادت حركة النهضة أنفاسها مجددًا بعد أن غادر الطرف الذي وضعها في مأزق، كاد يعصف بها، لو أنه ظل موجودًا وواصل الإصرار على تمرير قانون المساواة في الميراث. ولكنها واصلت التعامل بحذر مع حقوق المرأة التونسية؛ مخافة أن تعاقب مجددًا في حال أقدمت على طرح مقترح جديد من شأنه المساس بمكتسباتها.