تقديم
يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «الإسلام الأرخبيلي في إندونيسيا: المجتمعات والجماعات ومكافحة الإرهاب» (الكتاب السادس عشر بعد المئة، ديسمبر (كانون الأول) 2024) تاريخ الإسلام الإندونيسي وآليات تكيّفه السلمي مع التقاليد والعادات والممارسات الثقافية المحلية على مدار العصور، وانعكاس هذا التكيف الثقافي – الديني في المجتمعات المسلمة المحلية والوافدة وأنماط تدينها الشعبي وتعليمها الديني، مؤرخًا لنشأة المؤسسات الإسلامية التقليدية وتأسيس الجمعيات، وعلى وجه التحديد جمعيتي «المحمّدية» (Muhammadiyah) (1912) و«نهضة العلماء» (Nahdlatul Ulama) (1926) الأكثر تأثيرًا ونفوذًا في البلاد، مناقشًا طبيعة العلاقة بين الدين والسلطة في حقبة الديمقراطية والنهوض بالإصلاحات السياسية، آخذًا بالاعتبار المخاطر الناجمة عن الظاهرة الإرهابية الإسلاموية وظهورها المبكر ومخاطرها على الدولة والمجتمع والدين، مقابل جهود الحكومة الإندونيسية في مكافحة الإرهاب وتأهيل المتطرفين.
يطرح الكتاب دراسات جديدة تهدف أولًا إلى قراءة الصلة بين ماضي الإسلام الإندونيسي وحاضره، ويناقش ثانيًا المتغيرات التي مرّ بها هذا الإسلام في حقب عدة، لا سيما في بدايات القرن الحادي والعشرين، بينها: المتغير الإسلاموي الوافد من الشرق الأوسط، مقابل الجهود الحكومية في التعاطي مع الظاهرة الإرهابية التي بدأت بإجراءات حذرة وأصبحت أكثر ثباتًا وصلابة في مكافحة الإرهاب.
درس الباحث هجريان أنغا بريهانتورو (Hijrian Angga Prihantoro)، الأستاذ في «جامعة سونان كاليجاغا الإسلامية الحكومية» (Universitas Islam Negeri Sunan Kalijaga)، الإسلام الإندونيسي وتاريخه منذ القرن السابع وصولًا إلى التاريخ الحديث والمعاصر، فرصد أبرز الجمعيات المسلمة في إندونيسيا، وتحديدًا جمعيتي «المحمّدية» و«نهضة العلماء»، وهما من أكبر الجمعيات الاجتماعية في البلاد، فحدد العوامل التي كانت وراء تأسيسهما، وتطرق إلى خطابهما الديني ومشروعهما؛ فجميعة «المحمّدية» تدعو إلى التجديد، منذ 1912؛ من الاجتهاد وصولًا إلى ما تسميه «الإسلام التقدّمي» (Progressive Islam)، وهو مشروع طرحته في مؤتمرها السابع والأربعين عام 2015 في ماكاسار (Makassar). أما جمعية «نهضة العلماء»، فقد طرحت مشروع/ أو مفهوم «إسلام نوسانتارا» (Islam Nusantar) أو «إسلام الأرخبيل» (Islam of the Archipelago) خلال مؤتمرها الوطني الثالث والثلاثين المنعقد عام 2015 في جومبانغ (Jombang) بهدف إطلاق رؤيتها المتمثلة في إسلام شامل وسلمي في إندونيسيا والعالم. نجحت الجمعية في تقديم تكييف فقهي محوره الولاء للدولة، وتقدير الإنجازات باعتبارها عملًا تعبديًّا في صميم السلوك الديني، وركزت على «ثلاثية الأخوة» المكونة من الدين، والوطن، والبشرية، بأسلوب علمي، يعزز السلام بين المواطنين الإندونيسيين والأفق الحضاري الإنساني.
ترى الجمعية أنها تستطيع طرح خطابٍ مضادٍّ لأيديولوجيات الإسلاموية المتطرفة، وأن مشروعها تجسيد مميّز للإسلام في السياق الإندونيسي، الذي يتسم بالتنوّع الثقافي والاعتدال والتسامح والتعايش، والمنسجم مع التقاليد المحلية؛ مع مراعاة المبدأ المحافظ على القديم الصالح، والأخذ بالجديد الأصلح، واستيعاب المفاهيم الاجتماعية، التي تنّمي ثلاثية الأخوة، وتقدير التكيف الثقافي واحترام الاعتدال والتسامح، والفخر بالحكمة المحلية والانسجام المجتمعي.
تعاملت الجمعيتان مع مسألة الدين والدولة، بأسلوب مختلف؛ طورت «المحمدية» مفهوم دار العهد والشهادة، معتبرة دولة بانتشاسيلا بمبادئها، دولة دار العهد والشهادة، بينما اعتمدت «نهضة العلماء» على مبدأ أن أندونيسيا دار إسلام، وقبلت ببانتشاسيلا أساسًا للدولة.
برز من الجمعيتين، سياسيون مثل عبدالرحمن وحيد (1940-2009)، حفيد مؤسس جمعية «نهضة العلماء» الذي صار رئيسًا للجمهورية، وعُرف باسم غوس دور (Gus Dur)، الذي قدم في ثمانينات القرن المنصرم مصطلح «توطين الإسلام» (Pribumisasi Islam). دخل أعضاء من الجمعيتين في الحكومة وفي المناصب التعليمية الرسمية، وساهمتا في الحركة الاجتماعية، خصوصًا «المحمدية» التي أسست «منظمة شباب المحمدية»، وتملك برامج لإعداد قادتها الشباب «كوكام»، يوازيه في «نهضة العلماء» «حركة شباب الأنصار»، وتملك برنامج جبهة الأنصار المتعددة الأغراض «بانسر». وأسست الجمعيتان منظمات نسائية؛ تمثل «جمعية العائشية» «المحمدية»، و«جمعية المسلمات» «نهضة العلماء».
أما الباحث والأكاديمي فاهم خاساني (Fahim Khasani) فقد عرض قضيتين حول الإسلام الإندونيسي: الأولى جدلية العلاقة بين الإسلام والثقافة المحلية القائمة على التكيّف السلمي، والثانية التقاليد الإسلامية الخاصة بإندونيسيا التي لا تزال محفوظة حتى الآن. تبدأ فرادة التجربة الأندونيسية؛ في رمزية ودور الأولياء التسعة (Wali Sanga)، الذين تكيفوا مع الثقافة المحلية والتشكلات الهوياتية المنبثقة عن المجتمع، وبيئته؛ فأسبغت على الإسلام سيماه المحليّة، التي عبرت عن نفسها عبر التدين الشعبي والتقاليد والعادات الاجتماعية.
في عملية التوطين الإسلام في البيئة الجاوية، وظّف الأولياء؛ وتلاميذهم، المعجم المحلي لإيصال المفاهيم الإسلامية الكبرى إلى المجتمع، دون المساس بجوهر العقيدة. فعوضًا عن فرض المصطلحات العربية بصورة مجردة، لجأوا إلى استخدام ألفاظ جاوية ومفاهيمها، كانت تستخدمها البوذية والهندوسية وكابيتان (Kapitayan)؛ مما سهّل عملية التلقي فاستُخدم تعبير «كانجين نبي» للدلالة على النبي، وكياهي لرجل الدين (الشيخ) وغورو للأستاذ، وحتى الصلاة والختان والجنة والنار والحور، استخدمت فيها الألفاظ من الموروث الديني والثقافي السابق. إلى جانب ذلك أدخل إلى اللغة الجاوية مصطلحات عربية مثل الصبر الذي غدا سابار، والعدل الذي حوفِظ على نطقه «عادل»، والرضا وغيرها. واستوعب الدين التقاليد والطقوس التي يمكن دمجها بالذكر والموالد والحضرات، فتبنى المعلمون الأوائل تقاليد معينة، تتشابه في جوهرها مع الإسلام. قدمت الدراسة نماذج أنثروبولوجية؛ بالإشارة إلى تقاليد مثل سلاميتان وهي كالكرامة أو الوليمة؛ للمناسبات التي تُرجى البركة فيها، وغيرها.
يستند خاساني إلى نظريات «الاستيعاب الثقافي» في تناوله للإسلام الإندونيسي، ملاحظًا أنه شهد عملية تثاقف وتكيّف طويلة المدى، وتفاعل مع العناصر الثقافية المحلية، على شاكلة الهندوسية والبوذية والمسيحية التي مرت هي الأخرى بعملية التكيّف، مما أدى إلى اختلاف ممارستها عمّا كان موجودًا في أماكنها الأصلية، ويزعم ذلك للإسلام أيضًا.
في محور تاريخ التعليم الديني الإسلامي في إندونيسيا؛ وملامح التدين الشعبي فيها، وتأثير المسجد في المجتمعات المسلمة، تطرق تيدي خليل الدين (Tedi Kholiludin)، الباحث والمحاضر في «جامعة وحيد هاشم» (Universitas Wahid Hasyim) إلى الدور الاجتماعي للقادة والمعلمين الدينيين في الأرياف الإندونيسية، فتناول بحثه الميداني قريتي مانيس، وباهينج اللتان تُعْرَفَان غالبًا باسم «جيبوج» (Gibug) أو بوجونج جيبوج (Bojong Gibug). يضعنا الباحث أمام تاريخ التعليم الديني في المدارس والمعاهد في النموذجين المختارين. تُوجد ثلاثة أنواع رئيسية من أماكن العبادة في الإسلام الشعبي، وهي المسجد (Masjid)، ولانجار (Langgar)، وتاجوغ (Tajug)؛ ولكلٍ منها وظيفة دينية واجتماعية متميزة.
أدخلت الطفرة الثقافية التي شهدتها إندونيسيا في تسعينيات القرن المنصرم تغييرات على شكل التدين، إذ بدأ بعض الأفراد عقد جلسات دينية في المنازل، ولم يكن لهم أي إنتماء إلى جمعيات تقليدية، مثل «نهضة العلماء»، فبرزت جماعات جديدة مثل «جماعة ملة إبراهيم»، و«جماعة التربية»؛ التي حاولت أخذ الجامع من القيادات الدينية التقليدية. يشير خليل الدين إلى تجانس التركيبة السكانية حول لانجار؛ وهو أصغر من المسجد، تُقام فيه الطقوس الدورية والاحتفالات الصغيرة، مما يمنع المسلمين من الانجراف وراء تيارات جديدة، مبرزًا مفهوم «المسلم التقليدي» في هذا السياق، بوصفه هو السائد في جاوة الوسطى والشرقية، وهي الساكنة الأكثر تسامحًا. تناول الباحث العلاقة بين المدارس الدينية والحكومة المحلية، والتلازم بينهما، مرجعًا ذلك إلى تعاقدات أجراها قادة القرى مع المعلمين الدينيين أي «الكياهي»؛ فأصبحت الثقافة الدينية للكياهي، مستمدة من القرية، وبدأ الباحث من كياهي متولي منشيء القرية؛ وحفيده كياهي مسعود، ليبين الاختلافات بين المعلمين ومنها: كياهي الطرق الصوفية، وكياهي المعهد، وكياهي القرآن.
أما الباحث رحمة أمينغ لاسيم (Rahmat Aming Lasim) فقد عرض للتدين الاجتماعي والثقافي في إندونيسيا وتأثره بالتيارات الأزهرية الوسطية، فدرس أولًا دور الأزهر في مصر، بوصفه مؤسسة دينية، ساهمت في إحداث التغييرات الاجتماعية والثقافية في الإسلام الإندونيسي، مركزًا على الفترة الممتدة بين عامي (2011-2024). يؤرخ لاسيم للعلاقات التاريخية بين الأزهر والإسلام الإندونيسي ويحاول الربط بينهما على مستوى تكريس منهج الوسطية، فكلاهما ينبني على رؤية إسلامية وسطية، ويدعوان إلى الإسلام الوسطي، وقد تُرجم ذلك من خلال التفاعل التاريخي، والروابط العلمية، والتقارب في الهوية بين الجانبين.
في محور العلاقة بين الدين والسياسة في إندونيسيا تناول المحاضر في القانون الدستوري غوغون إلغوياني (Gugun El Guyanie) الديناميات المتعلّقة بالدين والسياسة في إندونيسيا في أعقاب الإصلاح، فبعد انهيار نظام «النظام الجديد» سنة 1998 تبلورت ديناميات جديدة، مما أعطى مساحة أوسع لحرّيات التعبير والتنظيم. فقد فتحت اللامركزية والحكم، الفرصة لتطبيق قوانين خاصة في الإطار المحلي، كما جرى في سومطرة الغربية، وإقليم آتشيه (Aceh)، الذي يُقيم ما يسميه الشريعة. لم يقتصر هذا على مسار الداخل؛ إذ تحاول جهات إندونيسية بعد 2004 تقديم نماذج لإصلاح الإيديولوجيا الإسلاموية، ومحاولة التأثير العالمي بتوفير صوت معتدل في العالم المسلم، وإشهار توافق الدين مع الثقافة المحلية ومع الدولة، وفقًا للاجتهادات المتعددة التي تقبل المواطنة.
أما في محور التنظيمات الإسلاموية الإرهابية في إندونيسيا، عرض الباحثان محمد سفيان (Muhammad Sofyan) ومحمد شوقي الله (Muhamad Syauqillah) لتاريخها ومساراتها؛ وجرت مقارنتها بمتغيرين تاريخيين: الأول، حرب بادري (Padri War) (1803-1837)؛ التي حملت بذور التشدّد الديني؛ وعكست التزاحم بين تشدد وافد من الخارج والإسلام الشافعي التقليدي المحلي؛ والمتغير الثاني، ظهر إثر إلغاء الخلافة سنة 1924، فظهرت حركات إسلاموية عدة أبرزها حركة «دار الإسلام» (Darul Islam/DI) التي أُسست أواخر الأربعينيات، على يد سيكارمادجي مريدجان كارتوسويرجو (Sekarmadji Maridjan Kartosoewirjo) (1907-1962)، المتأثر بالأفكار اليسارية والقومية، مما أضفى على مشروعه بُعدًا دينيًا ثوريًا. وقد جذبت حركة «دار الإسلام» عسكريين سابقين ونشطت في مناطق عدة في إندونيسيا (جاوة الغربية، آتشيه، جنوب سولاويزي، كاليمنتان)، ولكنها لم تنجح في تحقيق مشروعها، وانتهت رسميًا بعد إعدام كارتوسويرجو سنة 1962، إلا أن أفكارها بقيت وتحوّرت في أشكال جديدة لاحقًا. وتوالت بعد ذلك موجات جديدة من التنظيمات مثل «الجماعة الإسلامية» التي تأسست في ماليزيا سنة 1993 وارتبطت لاحقًا بتنظيم القاعدة، ثم «مجلس المجاهدين الإندونيسي» الذي ركّز على تطبيق الشريعة، فـ«جماعة التوحيد والجهاد» بقيادة أمان عبدالرحمن، والتي مثّلت مرحلة انتقالية نحو الولاء لتنظيم داعش. ومن ثم ظهرت «جماعة أنصار التوحيد» و«جماعة أنصار الدولة»، وهما امتداد طبيعي للانشقاقات الفكرية والتنظيمية عن الجماعات السابقة، وتبنّتا تدريجيًا العمل المسلح والدعاية الإلكترونية. وتُظهر هذه التحوّلات أن التطرف في إندونيسيا لم يكن نابعًا من مدارس دينية راسخة بل من شبّان تلقوا تعليمًا غير تقليدي، متأثرين بتحولات خارجية يحملون غضبًا تجاه الحكومات المحلية، ويخفون أنشطتهم الخيرية والدعوية، ما يسهّل تحولهم إلى خلايا نائمة، أو جماعات معزولة، أو حتى ذئاب منفردة.
خصّص الكتاب ثلاث دراسات في مجال مكافحة الإرهاب في إندونيسيا، تناولت الدراسة الأولى بقلم الباحث نور فايزين (Nur Faizin) دور جمعية «نهضة العلماء» في مكافحة التطرف في إندونيسيا من خلال التركيز على الأدوار التي تقوم بها في المجتمع الإندونيسي، والجهود التي تبذلها في إعادة تشكيل التقاليد الدينية الإسلامية والتصدي للتنظيمات الإرهابية. أما الدراسة الثانية للباحث في شؤون الإرهاب حسيب الله ستراوي فركزت على السجالات الدائرة حول حلّ «الجماعة الإسلامية» نفسها في 30 يونيو (حزيران) 2024، بصفتها أكثر التنظيمات الإرهابية نفوذًا وخطرًا، مقاربًا تأثير هذه الخطوة في استراتيجيات مكافحة الإرهاب في البلاد. يضع الباحث خطوط أولية للمقارنة بين حل «الجماعة الإسلامية» الإندونيسية والمراجعات التي قامت بها «الجماعة الإسلامية» في مصر ويتساءل: هل كان التغيير الذي طرأ على الجماعة الإسلامية في إندونيسيا مستوحًى من التجربة المصرية؟ يجزم بأنه لا توجد حتى الآن أي أدلة تثبت وجود علاقة وروابط بين التجربتين، فلا تصريحات رسمية من قادة الجماعة الإسلامية الإندونيسية في وسائل الإعلام، ولا حتى تصريحات خاصة في مقابلات أو أي أشكال أخرى من التوثيق تشير إلى هذا الارتباط.
تطرق الأمين العام لدور الإفتاء في العالم؛ الباحث المصري إبراهيم نجم إلى برامج التأهيل والحوار داخل السجون الإندونيسية بين عامي (2005-2024)، وهي المرحلة التي شهدت تطورًا ملحوظًا في سياسات التأهيل والحوار، فدرس التجربة الإندونيسية، وحلل منهجيتَها، وإنجازاتها، وتحدياتها، مقدمًا توصيات لتطبيق هذا النموذج في دول أخرى.
عرضت دراسة الباحث الأندونيسي محمد سيف الدين أبرز اتجاهات الكتب الأندونيسية، عبر ما توفره إصدارات مجلة ديتيك على موقعها الإلكتروني (detik.com) فعرض لاتجاهات النشر في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023؛ بمراجعة عدد من كتب، الأدبية والسياسية، ويستخلص اتجاهات النظر إلى الدين والدولة والتراث في إندونيسيا.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب والعاملين على خروجه للنور، ويخصّ بالذكر الزميل مصطفى زهران منسق العدد، ونأمل أنْ يسد ثغرة في المكتبة العربية.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
ديسمبر (كانون الأول) 2024