آدام غارفنكل *
من وقتٍ لآخر أعلق على المناسبات والأعياد. وقد عملت ذلك لليلة رأس السنة وأيضا لعيد القارض[1]. الآن أريد القيام بذلك لعيد الشكر. سأستخدم مقالة قصيرة كتبتها قبل حوالي ثمانية عشر عاماً لمجلة “مومينت”. المقالة تستند إلى واقعة حقيقية ونُشرت في عدد أكتوبر 1996 بعنوان “حنّا ومهاجر الماي فلاور[2]“. أقدّم لكم المقالة كاملة وغير مقتطعة (كما يُقال) خلا بعض الفواصل بين الفقرات، بعد إذن محرّر مجلة مومينت.
دعوني ألفت القرّاء غير الأمريكيين أنَّ عيد الشكر هو أول عيد أمريكي أصلي ( أي أول عيد لا جذور له في أعياد السكّان الأصليين). يعود هذا العيد إلى أول فصل خريف احتفى به المهاجرون الناجون في سفينة الماي فلاور وقدّموا خلاله الشكر إلى الله في شهر نوفمبر من عام 1621م في بلايموث والتي تقع في ما يُعرف اليوم بولاية ماساتشوسيتيس. في سعيهم للحرية الدينية استصطحب المهاجرون البيوريتانيون البروتستانت تقاليدهم الدينية والتي تضمنت أيّام شكر وصيام. هذه التقاليد مسنودة إلى قراءة بروتستانية دقيقة لنصوص التوراة الإنجيل العبري.
ولكن عيد الشكر أكثر من الشكر فحسب. فقصّة العيد، كما يعرف ذلك جميع الأمريكيين، مرتبطة بفكرة التسامح والتعاون. ساعد هنديٌ يُدعي “سكاونتو” وقبيلته الـ”ابيناكي” الناجين في سفينة الماي فلاور – أقل من نصف ركاب السفينة البالغ عددهم 102 نجى من معاناة العالم الجديد ليرى الربيع. لقد علّم الهنود المستعمرين الجدد كيفية زراعة الذرة، وكما تحكي القصة احتفل كل من القادمين الجدد والسكان الأصليين. كما سترون في مقالي من 18 سنة، فإن ثيمة التسامح داخل الدين وبين الأديان مركزية بالنسبة لي. إنها ثيمة يحتاج العالم أن يُذكّر نفسه بها في هذه الأيام، عندما نرى حوالينا بحزن الكثير من عدم التسامح المدمّر.
تم الاحتفال بعيد الشكر في كل المستعمرات وفي الجمهورية الفتيّة كل عام بعد 1621م بطرق مختلفة في مجتمعات مختلفة. أبراهام لنكون أعلنه عيدا وطنيا عام 1863م في خضم الحرب الأهلية وحدّد تاريخها بالخميس الرابع من نوفمبر. وتقريبا لا أحد يذهب للعمل في عيد الشكر: إنّها عطلة رسمية تُغلَق فيها جميع المكاتب الحكومية والبنوك وأكثر الأعمال.
عيد الشكر هو العيد الأمريكي الحقيقي والأصلي ولم يعد مرتبطاً بشدة بأي تقليد ديني بروتستانتي. لقد أصبح عيداً علمانياً للأغلبية، ويحتفل بهِ غير البروتستانت من الأمريكيين بإقامة الولائم والاجتماعات العائلية.
لا شك أنَّ جميع الأديان تعتبر الشكر مبدأ أساسياً، ولكن ليس كل البلدان تقوم بتخصيص يوماً خاصاً في السنة لأجل ذلك المبدأ. وقطعاً فإن الشكر مهم جداً في الإسلام والذي فيه الدعاء: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
لذا سيكون يسيراً على المسلمين فهم عيد الشكر الأمريكي في شكلهِ الأصلي على الأقل.
قصة “مهاجر مولي”، لباربره كوهين – حائزة على جائزة الكتاب الوطني اليهودي سنة 1983 لأفضل كتاب صوري وجائزة أفضل عمل من جوائز سيدني تايلور – قصة أطفال شهيرة عن عيد الشكر حول أسرة يهودية تعيش في منطقة نائية من نيويورك في بدايات القرن. القصة متداولة بشكل واسع في المدارس اليهودية والمدارس المسيحية حول البلاد وفي كثير من المدارس الحكومية أيضاً. ومثل أكثر قصص الأطفال فإنّ حبكتها بسيطة ولكن دلالاتها عميقة.
بطلة القصّة، مولي، طالبة والمهاجرة الوحيدة في صفها الدراسي؛ أكثر من ذلك هي اليهودية الوحيدة. زملائها بزعامة المتغطرسة إليزابيث يُقصونها ويؤلفون الهجاء عن لغتها الانكليزية المتعثرة وعن ملامحها “الغريبة” وأنفها “السليماني” – رغم أن لفظة “السليماني” لم تكن الكلمة التي استخدموها للوصف. كانت مولي ترغب في الهروب منهم والذهاب إلى مدينة نيويورك بل حتى إلى روسيا. ولكن أمها كانت تقول لها بأنّ ذلك محال.
مع اقتراب عيد الشكر قامت معلمة مولي بتكليف التلاميذ بمشروع يجمع بين التاريخ والتربية المدنية والفن. فلأجل إعادة تصوّر احتفالات الحصاد التي أقامها المهاجرون مع الهنود الحمر في خريف عام 1621م طلبت من كلّ تلميذ صنع دمية على شكل مهاجر أوهندي أحمر. عندما تعود إلى المنزل، تخبر موالي، والتي تم تكليفها بتصميم امرأة مهاجرة، والدتها بالمشروع. بعد أن تتلقى الأم تعريفا موجزاً لعبارة “مهاجر”، تتكفل بالمشروع وتصنع لابنتها دمية ببقايا قماش وخيط.
عندما ترى مولي الدمية تصاب بالذعر، إنها تشبه والدتها وعليها لبس أوروبا الشرقية. تدرك مولي أنّ دمية كهذه لنْ تحسّن من وضعها بين زميلاتها: فالدمية بعيدة كل البعد عن مهاجري القرن السابع عشر البيوريتانيين كبُعد كالفن كولدج عن الأسد الذي يظهر في أفلام MGM! (كما قال جيمش ثوربر يوما ما)
اختصاراً لهذه القصة القصيرة أصلاً – في النهاية هي قصة أطفال – فلضيق الخيارات تأخذ مولي الدمية إلى المدرسة. وبعد بعد رؤية الدمية الغريبة تسخر إليزابيث وعصابتها من مولي ككل مرة.
وهنا تدخلت المعلمة بموعظة عن التسامح والتنوع والشجاعة. فتشير إلى أنّ مولي وأمّها مهاجران إلى الشواطئ الأمريكية وليسا أقلّ شأناً من المهاجرين الأوائل الذين احتفلوا بأول عيد شكر سنة 1621م. كما إنّ المعلمة تخبر الصفّ بأنّ عيد الشكر أساسهُ احتفال يهودي يُدعى “عيد العرش”. هكذا تحققت العدالة، فيُخذل المتجبرون ويُنتصر للضعفاء.
بالنسبة للطلاب اليهود الذين يقرأون هذا الكتاب في الفصل – كابنتي حنّا عندما كانت في الصف الأول ابتدائي في مدرسة سولومون شختار داي في مدينة بالا سينويد في ولاية بنلسفانيا – فإن القصة تحمل معاني أعمق من العبرة المعتادة. “مهاجر مولي” ليست مجرد رابطاً إلى تقليد أمريكي ولكن أيضاً صلة بشيء يهودي: إنَّ لعيد الشكر معنى لنا باعتبارنا أمريكيين ولكن أيضا باعتبار أن المهاجرين الأوائل اعتمدوا فعلاً نموذج عيد العرش اليهودي. من حقنا نحن معشر اليهود الافتخار بأصل عيد الشكر اليهودي.
ولكن بالنسبة للعوائل اليهودية التي يدرس أبنائها هذه القصة فأنّ موعظة صباح نوفمبر تنتهي وتبدأ المعركة المرهقة مع الالتباسات العقائدية التي تصاحب بريق ولمعان أعياد الميلاد. في أسرتنا لمْ يكن الأمر هكذا. كانت معلمة حنّا تحب قصة “مهاجر مولي” إلى حد أنْ قررّت صياغة عظة جديدة من العظة الأولى. كما فعلت المعلمة في القصّة، قامت معلمة حنّا، سوزان أتكينز، بالطلب من تلاميذها صنع دمية تمثّل المهاجرين الأوائل من عوائل التلاميذ أنفسهم.
كان الدرسُ مثالياً حيث قدّم تمريناً في التاريخ اليهودي وجذوره علاوة على التجربة الأمريكية التي تحملها القصة. لكن لمْ تكنْ معلمة حنّا متهيئة للتعقيد التعليمي الجميل الذي خلقه الدرس، كما لمْ نكن نحن مستعدين لهُ كذلك.
زوجتي تدعى براسيللا. وهي من السلالة المباشرة لبراسيللا مولينز التي كانت حاضرة في عيد الشكر الأول. أسرة زوجتي من الجهتين، في الواقع، أتتْ إلى أمريكا في عصر الاستعمار[3] وإحدى أسرها جاءت إلى أمريكا على متن سفينة الماي فلاور. وُلدَ والد زوجتي في ولاية ماين ودرس في جامعة ييل وقد تسمعهُ حتى يومنا هذا ينطق بعبارات تعود لتلك الفترة.
كان بإمكان بريسيللا أنْ تنضم إلى “بنات الثورة الأمريكية” ولكنها فوّتت الفرصة. ففي الخمسة عشر عاما السابقة فإن بريسيللا كانت يهودية. وأبناؤنا الثلاثة تعلّموا في مدرسة يهودية وكان لبريسللا نصيباً في تدريس مادة العلوم فيها. في بيتنا نتّبع نظام الكوشر[4]، ونحتفل بالسبت بشكله التقليدي ونذهب لمعبد يهودي أورثدوكسي، وبفضل السنة التي قضتها أسرتنا في إسرائيل فإن بريسللا تستطيع التكلّم بالعبرية قليلاً. إنّنا نفضل طبق الحمّص على طبق “الباتيه الفرنسي” ، فما الذي ستفعلهُ إذن في اجتماع لـ” بنات الثورة الأمريكية”؟
أدركت بريسيللا تماما ما ستفعلهُ حين استلمت حنّا مشروعها. لقد انتهبت أنه مثلما كانت مولي هي الفتاة الوحيدة التي جاء جدودها من شرق أوروبا، فقد كانت حنّا الوحيدة في صفها اليهودي التي وقفَ جدودها على بلايموث روك.
صنعنا معاً دمية تشبه امرأة بيوريتانية من القرن السابع عشر وافترضنا أنّها تشبه بريسيللا مولينز. وكما كانت دمية مولي في القصة متميزة عن دمى زملائها، كانت كذلك دمية ابتنا حنّا.
ولكن دمية حنّا حظيت بالاستحسان الهائل على عكس دمية حنّا، فبالإضافة إلى عظة التعدد والتسامح التي كانت تسعى إليها معلمة حنّا تلقّى التلاميذ درساً قيماً في أهمية “المرتد الصالح” في حياة اليهود من “روث” حتى يومنا هذا، وتعلموا عن التسامح الذي هو في صلب التديّن اليهودي.
لذا نقول لمهاجر مولي ولمهاجرة حنّا: نحن سنبقى مدينين لكم إلى الأبد ولدينا الكثير من النعم في حياتنا التي تستوجب أنْ نقدّم الشكر لأجلها.
* * *
حصل الكثير منذ سنة 1996، فابنتي حنّا تزوجت وأصبحت أمّاً لحفيدتي أنا وبريسللا والتي أسمتها “يائيل” (أي يحيى)، والتي جعلتْ من ولديّ أخوالاً. ولكن ليس لهذا أستذكر هذه القصة. لدي مقصد آخر محدد وإن كان مجرداً بعض الشيء.
لقدْ أخذ مفهوم التسامح الصادق وقتاً طويلاً جداً في التاريخ الإنساني حتى ينشأ. التسامح ليس مجرد “التحمّل”. هو لا ينشأ من التنازل بل من التواضع. التسامح في عمقه هو الاعتراف بأن الحقيقة مراوغة ونحن محدودون في مقدرتنا على معرفتها وإدراكها. هناك فرق واسع جداً بين الكلام المقتبس عن بروفيسور جامعي سعودي في صحيفة نيويورك تايمز حين بيّن فكرتهُ عن التسامح بقوله: “بالطبع أكرهك لأنك مسيحي، لكن هذا لا يعني أني أريد قتلك”، وبين فكرة التسامح التي وردت في قصّة “مهاجر مولي“.
يحزنني القول بأنّ التسامح لمْ يحظَ بالكثير من الانتشار والتطبيق في مستعمرة نيو إنغلاند تجاه البروتستانت من غير البيوريتانيين فضلاً عن الكاثوليك واليهود والسود والسكّان الأصليين. وللأسف في الكثير من الأماكن التي شهدت نضوج مفهوم التسامح إلّا أن تطبيقه أقل من قدر التبشير به. ولكن الفكرة بقيت مصاحبة للتقليد الأنجلو بروتستانتي وازدهرت على الأراضي الأمريكية والبريطانية. يظهر التسامح أيضاً في اليهودية الحاخامية وإنْ كانَ بشكل مختلف، فيمكن ملاحظته في الميشناه: “لا تحكم على أخيك الانسان ما لمْ تكنْ في محلهِ”، أي عشتَ ما عاشَ كما هو مفهوم بلغتنا الدارجة. يأخذ التسامح شكلهُ في التجربة اليهودية من “الدونية”، فالجاليات والمغتربين بحاجة إلى التسامح أكثر ممّن هو في موقع يمكّنهُ تقديم التسامح للآخرين.
لا تملك جميع الثقافات، للأسف، نفس المفهوم عن التسامح الذي نعرفه نحنُ. المجتمعات التي لا تملكها تميل بشكل افتراضي إلى الشوفينية تجاه من هو مختلف. مثل تلك الثقافات تعتبر المعارضة خيانة والشك هرطقة. أحيانا يرون عدم التسامح فضيلة تسعى الى التطهير الحميد للمجتمع والنفس. الثقافة التي تفتقر لمفهوم ناضج عن التسامح أكثر ميّالاً للنهج الهرمي والسلطوي ممّا هو في الثقافات المؤمنة بالمساواة والديمقراطية. نعم، إنني أقول إن الثقافات السياسية تعتمد على مفاهيم اجتماعية سابقة وتتشكل منها.
هناك مفهوم آخر متداخل مع التسامح إلى حد كبير حيث يتمّ غالباً تعريفهما معاً وهو مفهوم المغفرة.
كما سبق وأنْ أشارَ الغير فإنّ المغفرة لا تعني التخلص من الغضب فحسب. كما لا يمكن تحقيقها من خلال دفع عوض عن الأخطاء. المغفرة الصادقة ممكنة فقط بين من يمكنّهُ تواضعهُ من أنْ يكون متسامحاً. نستطيع أن نغفر للغير ونكسر دائرة الأذى والانتقام البدائية لأننا ندرك هشاشتنا الأخلاقية وقابليتنا للوقوع في الخطأ. أن تغفر للغير هو أن تتسامح مع عيوبهم، ونعمله على أمل أن الآخرين يسامحونا عندما نقصّر. إن هذا هو الذي يجعل تقديم العوض وقبول الاعتذار ممكنا. إنه يجعل السلام ممكناً وليس مجرد الهدنة. ومن المفيد لأجل أن يترسخ مفهوم المغفرة في الثقافة تمثّل الله كقوّة رحيمة وغفورة، ليكون نموذجاً لمن خُلِقَ على صورته.
مثل التسامح، فإنّ المغفرة لم توجد دائما، ومثل التسامح فإنها لا توجد بشكل متساوٍ دائما (وأحياناً لا توجد اطلاقاً) في الثقافات الإنسانية المتنوعة اليوم. لا نعرف في قصّة “مهاجر مولي” إذا ما غفرتْ مولي لإليزابيث سوء المعاملة بعد توبيخ ودرس المعلمة، ولكن المغزى الأخلاقي للقصّة يستوجب أنها فعلتْ ذلك لكي يكون للقصة نهاية سعيدة حقيقية. هكذا على الأقل يُتوقع أن يرى معظم الغربيين المعاصرين الأمر.
وبالتأكيد، فإنّ هذا كلّه يؤثر على طبيعة فهمنا للشكر أو تقديم الشكر. كثيرا ما نُحصي النعم التي لم نصنعها حين يتعلق الأمر بالأمور المادية. عندما يتعلق الأمر بالتفاعلات الإنسانية فإن علينا أن نكون مشاركين لكي نكون مستحقين لنعم التسامح والمغفرة في مجتمعاتنا. لذا أقترح في عيد الشكر هذا أنْ نعبّر عن شكرنا لـ”الملائكة السامية” هذهِ لطبيعتنا.
[1] عيد القارض او عيد الربيع هو مناسبة امريكية وكندية في الثاني من فبراير من كل عام حيل يستند على حيوان “جرذ الأرض” الذي يستيقط (افتراضياً) من سباته ويخرج من حفرته. فإذا شاهد القارض ظله وعاد الى الحفرة، فهذا يعني أن الشتاء سيستمر لما لا يقل عن ستة أشهر اخرى.
[2] الماي فلاور: السفينة التي نقلت الهاجرين الانفصاليين والبيوريتانيين الانكليز الى العالم الجديد
[3] استعمار بريطانيا لأمريكا
[4] الحلال اليهودي
* بروفيسور حاصل على شهادة الدكتوراه في العلاقات الدولية عام 1979 ومن أبرز خبراء الخطاب السياسي في الولايات المتحدة. عملَ في كتابة الخطابات لوزير الخارجية الامريكي ويترأس حالياً مركز “أميركان انترست” البحثي السياسي. له مؤلفات عدّة و مشاركات في دوريات و مجلات معروفة يتناول خلالها الشرق الاوسط و السياسة الخارجية الامريكية و العلاقات الدولية كما يتلقى الدعوات لالقاء المحاضرات على طلبة التخصصات القانونية و السياسية و الدولية وقد زار حتى الان اكثر من ثلاثين جامعة عالمية.