ميشال نوفل
لقد ظلت تركيا –في الفترة الأخيرة- تحقق تواجدا في سياسات الشرق الأوسط بشكل لم يسبق له مثيل، حيث برز النشاط التركي بشكل لافت إبان أزمة غزة وقد سبق ذلك دور حكومة رجب طيب أردوغان في القيام بالمهمة الصعبة المتمثلة في التوسط بين إسرائيل وسوريا، حيث نجحت تركيا فى دعوة الطرفين إلى اسطنبول في أربعة لقاءات لمعاودة المفاوضات بينهما.
مع انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، دخل الشرق الأوسط مثله مثل أجزاء العالم الأخرى عصراً من التغيرات الكبيرة حيث باتت للولايات المتحدة الأميركية اليد الطولى في النظام العالمي الجديد الذي تصدرته بأولوية غير مسبوقة على المستويين العسكري والسياسي، فقد أدت عملية تحرير الكويت عن طريق التحالف الذي قادته الولايات المتحدة الأميركية إلى توقيع اتفاقيات طويلة الأمد للانتشار العسكري براً إضافة، إلى قواعد للقوات الجوية في شبه الجزيرة العربية، فضلاً عن جهود ديبلوماسية مكثفة لحل النزاع العربي الإسرائيلي في عهد الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون.
وفي العام 2000، أشارت التطورات السياسية التي كان مسرحها الشرق الأوسط إلى قدرة الولايات المتحدة على العمل مع العرب والإسرائيليين معاً.
إن فترة الزخم هذه التي تمتع بها الأميركيون لم تدم طويلاً، إذ تبين أن قدرة الأميركيين على إدارة النزاعات في الشرق الأوسط محدودة، ولاسيما بعد فشل مفاوضات السلام التي جرت في نهايات العام 2000 بسبب الخلاف على مصير هضبة الجولان الإستراتيجية، فيما وصلت عملية السلام مع الفلسطينيين إلى طريق مسدود وتم التخلي عنها.
على أي حال، فإن الشرق الأوسط يبقى مجالاً حيوياً بالنسبة للولايات المتحدة بسبب موقعه الجيوستراتيجي، وكذلك بسبب ثرواته في مجالي الطاقة والمال، وبسبب التزام الولايات المتحدة تجاه إسرائيل، وكذلك بسبب احتمال انطلاق الإرهاب من المنطقة، وما يتعلق بالانتشار النووي وانتشار أسلحة الدمار الشامل. ولذلك، فإن إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش اضطرت إلى إعادة ترتيب أولوياتها والتحرك بطريقة مختلفة.
لقد أدى قرار إدارة بوش بغزو العراق في العام 2003، وقيادة الولايات المتحدة للتحالف الدولي الذي احتل هذا البلد، إلى تأزيم الموقف، من خلال تعميق الشعور المعادي لأميركا، وزيادة الهجمات الإرهابية، وبروز توترات إثنية ودينية داخل بعض البلدان، ثم انتشار الفوضى في غير بلد؛ في الوقت الذي بدأت إسرائيل سياستها القائمة على توسيع الاستيطان وبناء جدار الفصل، والاعتداءات العسكرية ضد دول الجوار، كل ذلك أدّى إلى الإمعان في إضعاف الصدقية وتقليص الثقة في الولايات المتحدة في المنطقة.
وإن أضفنا إلى ذلك النزاع حول برنامج إيران النووي، ونتائج الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان في خلال صيف 2006 والنتائج المدمرة التي تسببت بها، مع أخذ المساعدة اللوجستية الأميركية في الاعتبار، كل تلك الحقائق كانت مؤشرات على نهاية التفوق الأميركي وبداية عهد جديد في الشرق الأوسط. عهد أضبح يحقق فيه لاعبون جدد نفوذاً ويكتسبون قوة ويسعون الى تغيير الوضع الحالي، وقد كان هؤلاء اللاعبون إقليميون بشكل رئيسي.
وفي هذا السياق فإنه لابد من الآخذ بعين الاعتبار السياسة الخارجية التركية في المنطقة، وسعي إيران للبحث عن دور قيادي من خلال تبني برنامج نووي، في وقت يظهر النظام العربي الإقليمي علامات تنذر بالضعف والتفكك.
تركيا الوسيط
إن الحضور التركي في السياسات الشرق أوسطية، لم يكن أبداً بالوضوح الذي كان عليه في أثناء أزمة غزة، حيث كان التحرك التركي في المنطقة بارزاً من خلال قيام الحكومة التركية برئاسة رجب طيب أردوغان بمهمة الوساطة الصعبة بين إسرائيل وسوريا، ونجاحها في جمع الطرفين في اسطنبول أربع مرات إلى الآن من أجل استئناف المفاوضات.
وفي الواقع فإن تركيا قد أظهرت اهتماماً بلعب دور الوسيط بين سوريا وإسرائيل منذ العام 2004. ولكن في أثناء زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت إلى أنقرة في شباط (فبراير) سنة 2007، أبدى الإسرائيليون حاجتهم إلى الخدمات التركية لجلب سوريا وإسرائيل معاً إلى طاولة المفاوضات، لاعتقادهم أن تركيا تمثل صمام أمان في الشرق الأوسط، ولأن تركيا هي الدولة المسلمة الوحيدة في المنطقة التي لها علاقات قوية مع إسرائيل، في المجالين الديبلوماسي والتجاري، وان لا أحد باستثناء رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يستطيع أن يلعب دورا بناءً لإطلاق مفاوضات بين سوريا وإسرائيل بسبب علاقته الشخصية الحميمة مع الرئيس السوري بشّار الأسد.
لم يقتصر دور تركيا المتجاوبة مع اقتراح أولمرت الذي قدم نفسه كرجل سلام، على تهيئة الأجواء لتشجيع مفاوضات غير مباشرة بين إسرائيل وسوريا من خلال مسؤولين رسميين أتراك عملوا وسطاء بعد ثماني سنوات من فشل آخر جولة من المفاوضات بين إسرائيل وسوريا في عهد الرئيس كلينتون، ولكنها أيضا كانت تعمل في الأشهر الأخيرة للتوسط في المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، وتنسق جهودها مع بعض الرسميين اللبنانيين، كرئيس المجلس النيابي نبيه بري؛ ومن أجل إنجاز تلك المهمة دعت خالد مشعل وغيره من قادة “حماس” إلى تركيا.
إلا أنه وخلال الحرب الإسرائيلية على غزة التي استمرت ثلاثة اسابيع -بدأت في 24/12/2008، عقب ستة أشهر من الهدنة بين إسرائيل وحماس(1) ، فإن موقف تركيا اتخذ منحى مختلفاً، بعد أن قام رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان بإدانة إسرائيل بشدة منذ اليوم الأول للاعتداء على غزة، واستمر في مهاجمة إسرائيل بعنف وصولاً إلى حد تساؤله “هل لإسرائيل الحق في الاحتفاظ بعضويتها في الأمم المتحدة”، معلناً أن زعماء إسرائيل لن يفلتوا من عقاب التاريخ، بسبب المأساة التي أوقعوها بالفلسطينيين في قطاع غزة، ليبلغ النقد التركي ذروته في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، حين غادر رئيس الوزراء التركي الذي انزعج بشدة من عدم الثقة والانتقادات الإسرائيلية المنصبة بشكل عنيف، بعد مناقشة حامية مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس.
أما بخصوص معاودة مفاوضات السلام السورية-الإسرائيلية التي توقف الأتراك عن رعايتها منذ الحرب على غزة(2)( )، الحرب التي أضرت بشكل أو بآخر في علاقات إسرائيل مع تركيا، فإن الرئيس السوري بشار الأسد أعلن أخيراً في مقابلة نشرتها صحيفة “الدايلي ستار”(3) ، أن بلاده يمكن لها أن تتحرك من المفاوضات غير المباشرة التي رعتها تركيا للدخول في محادثات سلام مباشرة مع إسرائيل، ولاسيما في ما يتعلق بمسألة استعادة هضبة الجولان التي تحتلها إسرائيل إلى سوريا، في حال دخول إدارة الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما على خط المفاوضات الجارية توصلاً إلى سلام إقليمي.
ارتباط تركيا بشؤون المنطقة
إن الموقف التركي القريب من العرب والمسلمين خصوصاً، هو نتيجة للديناميات التي أسفرت عنها ظروف ما بعد حرب العراق حيث شهدت القوة الأميركية العظمى محدودية حربها. إن الولايات المتحدة تحت حكم جورج بوش أضاعت موقعها المتقدم جداً في السياسات العالمية، ووجد كثير من حلفائها وفي مقدمهم تركيا، مجالاً ولا سيما في الشرق الأوسط، للعمل في شكل شبه مستقل إن لم يكن باستقلالية تامة عن واشنطن.
يضاف أن الظروف التي ظهرت في أعقاب حرب العراق لم تكن هي وحدها التي دفعت تركيا إلى الانخراط النشط في شؤون المنطقة، ولكن أيضاً انهيار اتفاقات أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومن ثم ظهور إيران كقوة إقليمية ما شكل تحدياً لبعض الأنظمة الشرق أوسطية جعلهم يقرعون أجراس الإنذار من تشكل “هلال شيعي” في المنطقة(4)( ).إن التحديات الجديدة التي تضعها تركيا في حسبانها، بعدما تحولت أنقرة من دولة ملحقة بالناتو إلى دولة محورية في النظام العالمي الجديد، تسعى إلى الاستقرار الإقليمي حفاظاً على مصلحتها الوطنية العليا، تدفعها إلى العمل لتكون لاعبا سياسياً نشطاً في الشرق الأوسط.
وبناء على ذلك أعادت الدولة التركية ترتيب توجهات سياستها الخارجية بشكل عام مركزة جهودها وإصلاحاتها الداخلية لتوافي المتطلبات الأوروبية وسائر الشروط الإلزامية للدخول في الاتحاد الأوروبي بحلول العام 2015، تاريخ يسعى الرسميون الأتراك إلى موافاته بمجموعة من الإصلاحات أقرها البرلمان التركي في السنوات الأخيرة من أجل تحسين نسختهم من الديموقراطية -حقوق الإنسان، حكم القانون، الاقتصاد، البنية الاجتماعية والسياسية- وكان عليهم كذلك أن يطوروا مقاربة استراتيجية لتحويل مخزون تركيا التاريخي وموقعها الجغرافي إلى رصيد يقوي السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، مكانة تسعى النخبة المثقفة التركية إلى تبوئها منذ ثمانينيات القرن الماضي.
ومما قاله الكاتب التركي جميل ميرتش(5)( ) في ذلك أن “إعادة بعث الثقافة التركية من جديد سوف تستمر ولشيء من الوقت”، وهذه المقاربة الجديدة يمكن تجسيدها، وسوف تصبح حقيقة ليس من خلال فصل تركيا عن ماضيها، ولكن على العكس، من خلال إعادة تبني الماضي العثماني الغني والمتنوع، وكذلك الثقافة العثمانية الغنية والمتنوعة، والمزاوجة بين الأمرين، مع التقدم والتطور الذي لحظته الجمهورية الحديثة.
إن الانخراط التركي المتزايد في قضايا الشرق الأوسط يعكس الرغبة في أن تصبح أنقرة قوة إقليمية فاعلة، وسياساتها المحلية، كما سياساتها الخارجية، التي غالباً ما يتم وصفها بأنها عبارة عن نزعة إلى “عثمانية جديدة”، اكتسبت دفعاً مهماً في تركيا منذ أصبح “حزب العدالة والتنمية” هو الحزب الحاكم: فمن البوسنة إلى شبه جزيرة القرم، ومن كراباخ إلى العراق، يعاد تذكير الأتراك بالمجال الجيو سياسي العثماني وبالماضي الإمبراطوري، بما كان يحمله من تعدد ثقافي و ديني.
ومن غير محاولة الدخول في الأسباب التاريخية والدوافع خلف هذا الاندفاع إلى “العثمانية الجديدة” في أوساط النخبة التركية والتوجهات الحكومية، وهي عملية سائرة إلى الأمام باستمرار، آخذة بالتجذر أكثر فأكثر كما يقول محللون سياسيون، فإننا قد نرى تغيراً في ترتيب القوى عالمياً والانخراط التركي الجديد في الشرق الأوسط، قد تم الدفع بهما إلى الواجهة بعد الفشل الدرامي لسياسات إدارة بوش، وغياب أي حضور سياسي أوروبي ذي معنى، والعجز الحالي لروسيا التي لم تستطع وراثة مكانة الاتحاد السوفيتي السابق في الشرق الأوسط، الأمر الذي سمح لتركيا بتأكيد نشاطها الديبلوماسي المبني على معاملة أي أزمة في الشرق الوسط، بوصفها سوف تؤثر بشكل مباشر على الولايات المتحدة وأوروبا وتركيا كما سائر المنطقة.
إن هذه الديبلوماسية النشطة تظهر انعكاساً صارخاً إن قورنت بالانعزال التركي التقليدي والابتعاد عن شؤون المنطقة لعقود من الزمن. وبمراجعة تأثير التطورات السياسية الأخيرة في ما يتعلق بالسياسة التركية عموماً، فإن عمر تاشبينار(6)( ) يؤكد أنه “يمكن العثور على دافعين متناقضين في النشاط السياسي التركي الجديد في الشرق الأوسط: أولهما “العثمانية الجديدة”، التي تشجع التدخل خارج الحدود بما ينعكس نفوذاً لتركيا، و”الكمالية” التي تسعى إلى إلغاء خطر أي شعور قومي كردي محتمل على الشعور الوطني التركي، حماية لعلمانية تركيا وهويتها الوطنية”(7)( ).
يبقى أن أحد ركائز النشاط الديبلوماسي التركي في المنطقة يعتمد على امتناع تركيا عن أخذ جانب أي طرف في أيّ نزاع في تلك المنطقة، وعلى هذا النحو تستطيع أنقرة أن تقدم نفسها قوة إقليمية غير منحازة، ووسيطاً نزيهاً لأطراف النزاع في الشرق الأوسط. وحين يصل الأمر إلى المفاوضات أو أداء دور يسهّل التفتيش على حل ما لمشاكل المنطقة، فإن حكومة أوردوغان تجد نفسها منفتحة على جميع الأطراف.
إن صعود “حزب العدالة والتنمية” الحاكم بزعامة رجب طيب أردوغان وخلفيته الإسلامية، ساعدا الحكومة التركية كثيرا في لعب هذا الدور المخطط له بدقة، وذلك بسبب الشعور القوي بالتضامن مع العالمين العربي والإسلامي، علما إن أردوغان نفسه، وحكومته وحزبه كذلك، الذي يتمتع بقاعدة شعبية واسعة، يشتركون في المشاعر نفسها مع ما يمكن تسميته “الشارع العربي”.
الشرق الأوسط في المنظور التركي
إن السياسة الخارجية التركية الحالية النشطة في الشرق الأوسط مبنية على أهمية المنطقة الاستراتيجية في استقرار الأمن في العالم، ولا سيما في مجال الطاقة، وهو يمثل المركز الأساس لتطور النظام العالمي الجديد. وكما نعلم جميعاً، فإن ظروف الحرب الباردة أعاقت أي مجهود جدي لحل المشكلة الفلسطينية، وعندما انتهت تلك الحرب كان من المتوقع أن تكون الظروف مناسبة لإنجاز اتفاق سلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، ولكن ذلك لم يحدث، وبقيت الأمور تتطور بما يظهر جلياً أن المنطقة لا تزال تواجه هذه المسألة الرئيسية كما مسائل أخرى عرقية وطائفية تؤدي إلى توترات تهدد الاستقرار والسلام.
لا يمكن حل المشاكل السياسية والاقتصادية في المنطقة من غير مواجهتها. إن المشاكل في الشرق الأوسط مترابطة ولذلك يصعب احتواؤها فتراها تمتد بطريقة أو بأخرى إلى العالم كله، ثم إن خلفية تلك المشاكل الثقافية والتاريخية تربطها بأطراف سياسية مختلفة في العالم كله، ومواطنو المنطقة الذين منهم من يعيش اليوم في أوروبا والولايات المتحدة تبدو مشاعرهم مرتبطة بالشرق الأوسط إلى حد أن التطورات الحاصلة فيه لا يمكن أن تتجاهلها حكومات تلك البلدان.
وفي ما يتعلق بالأمن العالمي للطاقة واستقرارها وكذلك السلام، كل ذلك يجعل المنطقة ذات أهمية استراتيجية ذات تأثير حتى بالنسبة لأولئك الذين لم يكونوا أطرافا فاعلين في ما يتعلق بالمسائل الإقليمية وتحدياتها.
وكما وضع أحمد داوود أوغلو تلك المسألة فإن” تركيا تريد أن تكون بناءةً للسلام”(8)( )، وهي تسعى إلى التقريب بين دول الشرق الأوسط، معتمدة في ذلك على سياسة خارجية مبنية على ثلاث مكونات أساسية: سياسية، ثقافية واقتصادية.
أولاً: المستوى السياسي
إن واضعي السياسة التركية يركزون جهودهم على تهيئة الأرضية لحوار سياسي ومشاورات بين زعماء الدول الشرق أوسطية وأصحاب القرار فيها، وقد حاولوا مأسسة ذلك من خلال آليات منتظمة، فإضافة إلى رعاية مفاوضات السلام غير المباشرة بين السوريين والإسرائيليين، أطلق الأتراك مؤتمر دول الجوار العراقي من أجل دعم عملية المصالحة الوطنية والاستقرار في العراق، لمنع تدخل خارجي قد يضعف الثقة والتعاون الإقليميين بما يمنع استكمال عملية المصالحة بين أبناء العراق.
ومن جهة أخرى، فإن تركيا بالتعاون مع جامعة الدول العربية، عملت على تأسيس المنتدى التركي-العربي، الذي يهدف بشكل رئيسي إلى التعامل مع الحواجز النفسية والأحكام المسبقة، والظلامات التي وقفت في طريق حوار بناء بين الفريقين.
ومن أجل دفع نفوذها السياسي والاقتصادي في الشرق الأوسط قدماً، فإن تركيا عملت بتصميم من أجل تأسيس هذا المنتدى، مقتنعة بأنه “سوف يتوسع مستقبلاً ليجذر العلاقات في كل المجالات بين تركيا والدول العربية من خلال إطار مؤسساتي يطوّر مجالات التعاون والمشاورات البناءة في كلّ مجالات الثقة المتبادلة”(9) .
وبشأن الهجوم العسكري الإسرائيلي ضد لبنان في 13 تموز (يوليو) 2006، فإن قرار مجلس الأمن 1701 الذي دخل حيز التنفيذ بعد وقف إطلاق النار بين الأفرقاء المتحاربين، كان من نتائجه زيادة قوات الأمم المتحدة العاملة في جنوب لبنان “اليونيفيل”، ما سمح لتركيا بالدخول إلى الساحة العربية من خلال لبنان، كعامل استقرار للحفاظ على السلام في الشرق الأوسط.(10)( )، بما يقابل الاستراتيجية الإيرانية للاختراق الإقليمي، وذلك بسبب هويتها الإسلامية المعروفة على الأرجح.
ثانياً: المستوى الثقافي
إن التوجه الثقافي التركي منشؤه من حقيقة أن اسطنبول كما سائر مدن الشرق الأوسط، تنتشر فيها الكنائس والمساجد، حيث يظلل التعدد الثقافي مجتمعات تتعايش فيها مجموعات مختلفة ذات خلفية إثنية ودينية متباينة.
إن المصادر الرسمية تصرح بأن هذا التعدد وبعيداً من كونه سبباً للمشاكل والانشقاقات، يكون مصدراً للإغناء والأمل. ومن أجل تحفيز الحوار بين المجموعات ذات الخلفيات الثقافية المتنوعة ولأجل تعزيز التسامح، أطلقت تركيا “مشروع تحالف الحضارات” الذي يهدف إلى تشكيل برنامج لإرادة جامعة تعمل ضد الأحكام المسبقة، والتعصب، الاستقطابات وسوء التفاهم.
إن هذه المؤسسة التي سميت “مشروع تحالف الحضارات” بدأ عملها في العام 2005 بدعم من اسبانيا والأمم المتحدة برئاسة أمينها العام كوفي أنان آنذاك، وقد باتت اليوم عملية أممية تجتذب الانتباه أكثر فأكثر، وهدفها الرئيس هو “تعزيز ضمان حقوق الإنسان والحريات التي هي قواسم مشتركة بين الحضارات سعياً إلى عالمٍ أفضل”(11)( ).
ثالثاً: المستوى الاقتصادي
إن تركيا ترى أن تعزيز التعاون الاقتصادي بين دول الشرق الأوسط هو أحد أسس السلام والاستقرار في المنطقة، ذلك أن التعاون الاقتصادي يشجع الاستقرار السياسي(12)( )، ففي عالم يقوم على الاعتماد المتبادل، لا يمكن حلّ كثير من المشاكل بشكل منفرد، ولأجل ذلك لا بد من أن تتعاون تلك الدول في عدة مجالات ومنها المجال الاقتصادي.
المعايير التركية
إن الرسميين الأتراك يعتبرون أن هناك بعض المبادئ الأساسية التي لا بد من أخذها في الحسبان في المقاربة السياسية لتركيا في الشرق الأوسط. إن المهندس الرئيس للسياسة التركية الشرق أوسطية -أي سياسة أردوغان في تلك المنطقة- البروفسور أحمد داوود أوغلو(13)( )، يعتبر أن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي وعضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) أمران غير قابلين للنقاش. وبناء على ذلك، فإن توجه تركيا الغربي لن يتأثر، “وليس من الوارد أن تتحول تركيا بسبب موقفها المؤيد للعرب إلى دولة شرق أوسطية”.
مبدأ آخر في سياسة تركيا الشرق أوسطية، هو التزامها بعلاقات جيدة مع كل من سوريا وإيران، فكلّ منهما جار لتركيا، وإذا رجعنا إلى نظرية أحمد داود أوغلو “لا مشاكل مع دول الجوار”، فإن تركيا تنوي أن تحافظ بشكل مستمر على علاقات صحية وقوية مع كل الدول المجاورة لها كركن أساس في سياستها الشرق أوسطية.
وعلى الرغم من أن تركيا دولة علمانية وذات توجه غربي، إلا أنها في الوقت عينه دولة ذات أغلبية سنية، وهو ما تعيه تركيا جيداً. وفي الوقت عينه فإن العلاقات الطيبة التي تربط بين تركيا وكل من إيران وسوريا، تجعل الأولى في موقع مختلف عن سائر مراكز القوى السنية في المنطقة.
وفيما تلتزم تركيا إبعاد نفسها عن الدخول في أي محور مع أي مجموعة من الدول الشرق الأوسطية، فإنها تريد تثمير علاقاتها المميزة مع كل من إيران وسوريا، على صعيد العلاقات مع مصر والأردن والمملكة العربية السعودية التي ليس بينها وبين تركيا أي إشكالية.
السياسة التركية في المنظور العربي
لقد تمّ الإقرار بشكل واسع أن تركيا خطت خطوات إيجابية مهمة ومطردة في المنطقة، ومن الواضح أن تركيا تتمتع اليوم بثقة متجددة ومقبولة من الجمهور العربي، وهذا التوجه نتج من السياسة الخارجية التركية.
وللتذكير، فإن أنقرة رفضت السماح للقوات الأميركية بفتح جبهة ثانية ضد العراق من حدوده الشمالية، وهذا الموقف قوّى رصيد تركيا كقوة مستقلة. وكذلك فإن دور أنقرة في توفير منطقة آمنة لأكراد العراق في التسعينيات من القرن الماضي، قد نظر إليه بتقدير كبير، ثم إن هناك حاجة إلى تركيا كعامل للاستقرار في عراق ما بعد صدام، فتركيا دعمت وأسهمت في بناء العراق سياسياً واقتصادياً من خلال عدة أوجه، وكذلك في دعم مصالحة المجتمع السني مع العملية السياسية الجديدة، من خلال إقناع سنة العراق بالمشاركة في الانتخابات، إضافة إلى أن آلافاً من رجال الأعمال والعمال الأتراك ينشطون في العراق، الأمور التي أدت إلى تحسين العلاقات ما بين تركيا والدول العربية. أضف إلى ذلك، إن رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان يُنظر إليه بشكل واسع على أنه “ناصر” جديد، يلتزم الدفاع عن القضايا العربية، ولا سيما القضية الفلسطينية، ضد الاعتداءات الإسرائيلية.
إن الموقف التركي الجديد في ما يتعلق بالنزاع العربي الإسرائيلي خلال الحرب ضد غزة، أثبت أن أنقرة لم يعد ينظر إليها على أنها “حصان طروادة” للغرب. إن هذه الحقيقة ظهرت على سبيل المثال من خلال الثقة التي أوليت لأنقرة حين طلب رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة من تركيا التحرك في وقت كانت الحياة السياسية في لبنان مشلولة، بسبب الأزمة القاسية التي مرّ بها قبل الانتخابات الرئاسية، وكذلك حين لعبت تركيا دور الوسيط بين حماس ومصر من جهة وسوريا ومصر من جهة أخرى.
وعلى الرغم من كل ذلك، فإن تركيا تحتاج إلى أن تبذل المزيد من الجهد لتصبح شريكاّ لا يمكن الاستغناء عنه للعالم العربي أو للدول في الشرق الأوسط. إلا أن علاقات أنقرة مع كل من القاهرة والرياض وطهران كأطراف أساسيين في الساحة الشرق أوسطية، لم يتم تظهيرها بشكل واضح المعالم لغاية الآن.
وكإحدى الدول الأعضاء في منظمة الناتو، وتملك ثاني أكبر جيش في المنظمة، وبما لها من علاقات جيدة مع الولايات المتحدة، إضافة إلى كونها دولة إسلامية، فان تركيا مهيأة لعمليات حفظ السلام في المنطقة، والشعوب العربية هنا تثق في قوات حفظ السلام المسلمة الآتية من تركيا، في حال دعمت ذاك الوجود التركي دول إقليمية مؤثرة مثل مصر، إيران والمملكة العربية السعودية.
وفي ما يخص النزاع العربي الإسرائيلي، فإن تركيا والاتحاد الأوروبي يستطيعان تأسيس مبادرة أوروبية للشرق الأوسط، تهدف إلى إعادة الحقوق الفلسطينية إلى أهلها. وبما لها من علاقات مع طرفي النزاع، تستطيع تركيا بالتعاون والتنسيق مع مصر وإيران إطلاق مبادرة تدعمها الأمم المتحدة لحل النزاع.
وأخيراً، فإن موقع تركيا الجيو-سياسي بين بحر قزوين والشرق الأوسط وأوروبا، يسمح لها بأن تكون عقدة رئيسية للطاقة، ولا سيما إذا أخذنا في الاعتبار كلاً من المخزونين الإيراني والعراقي من النفط والغاز.