محمد الحدّاد
تلحّ الذكريات وتتوارد مع الاقتراب من الذكرى الرابعة لحادثة الشاب محمد البوعزيزي التي أريد لها أن تكون منطلق انقلاب إقليمي عظيم. استذكر ما بشّرت به الثورة التونسية من آمال لدى الأجيال «القديمة» التي حلمت طويلاً بالديموقراطية وظنّت أن ساعة الإنجاز حانت، ولدى أجيال «جديدة» خرجت تطالب بالعمل اللائق والحياة الكريمة وظنت أنّ انتفاضة ببضعة أيام ستحقّق لها المراد. أتذكّر أيضاً مقدمة طبعة كتبتها لكتاب ممنوع حول الحركة الإسلامية التونسية، كان جزء مهم منها رسالة إلى حركة «النهضة» كي تحسن استغلال فرصة الثورة التي لم تكن من إنجازها. وأتذكّر أيضاً زيارتي لرئيس الحركة راشد الغنوشي بعد عودته إلى تونس والحوار الذي تواصل بيننا ساعات.
قبل الثورة وحتى انتخابات 2011، كانت «النهضة» وزعماؤها يظهرون بمظهر المتقبّل للنقد والنصح. لا أحد كان يصدّق أنّ لهم برنامجاً أو بديلاً أو خطة عمل لتسيير البلاد، لكنّ البعض ظنّ أنهم قد يساهمون في الارتقاء بالحوار السياسي الذي تعطّل على مدى عقدين، كي يتعاون الجميع لإنقاذ البلاد. وسرعان ما تبيّن، مع الانتخابات، أنّ حزباً يمكن أن يصف نفسه بما يريد من النعوت الدينية والأخلاقية، لكنّه إذا خاض غمار السياسة فلا يخوضها إلاّ بمنطقها الخاص الذي لا يتقيّد بأخلاق ولا دين، مثبتاً أنّ أسطورة الإسلام السياسي ليست إلاّ طعماً للوصول إلى السلطة. فلا هو يحمل حلولاً حقيقية، قانونية وسياسية واقتصادية، غير معروفة عالمياً، ولا هو يضمن سلوكاً أخلاقياً في السياسة بأكثر مما نراه لدى عامة الأحزاب. بل إنّ «النهضة» كانت سبّاقة في توظيف مواقع التواصل الاجتماعي للثلب والإشاعة والمغالطة والتلاعب بالعقول، إلى أن غاب الحوار التواصلي الجادّ، بالمعنى الهابرماسي، وسيطرت الثقافة السياسية «الفايسبوكية» الاختزالية والعنيفة، وتراجعت الأصوات الجادّة مقابل عودة رموز النظام القديم، مستفيدين من الإحباط الذي خلّفته الثورة بعدما احتوتها القيادات القادمة من وراء البحار.
لكنّ «النهضة» تداركت أمرها بعد الأحداث المصرية وتداعياتها التونسية صيف 2013، فقبلت بالانضمام إلى الحوار الوطني (الذي قاطعه المرزوقي وحزبه) وتخلّت عن الحكم لحكومة من التكنوقراط، وخاضت الانتخابات التشريعية لعام 2014 وقبلت بهزيمتها النسبية. كلّ هذا لا بدّ أن يحسب لصالحها، فلولا موقفها المتفهّم والمرن لما استطاعت تونس أن تتخطّى أزمة 2013.
ومن شأن هذا الموقف أن يخفّف لدى الرأي العام التونسي من مسؤولية حكومتيه السابقتين في الإضرار بالوضع الاقتصادي (ارتفاع التضخم والدين، انهيار قيمة العملة، غلبة الاقتصاد الموازي، الخ)، وإهانة التونسيين باستقدام من وصفوا بالدعاة لإدخالهم الإسلام من جديد، وفي مقدمهم شيخ الإرهاب وجدي غنيم الذي فتحت له الحكومة النهضوية أكبر القاعات التونسية، وترك المئات من الشباب يلتحق بالجحيم السوري للقتل أو الفناء بلا مبرّر، والتهاون في ظاهرة الإرهاب إلى أن استفحلت وأصبحت واقعاً يومياً في حياة التونسيين حصد أرواح عشرات الأمنيين والجنود المخلصين، والتجنّي على كلّ مخالف واتهامه بالحنين إلى النظام القديم وكأنّ انحرافات الماضي تبرّر الحاضر، وسلوك سياسة النفاق الذي يلوّح في العلن بالشعارات الثورجية ويفاوض في السرّ على الكراسي والمصالح.
يمكن القول، استعارة للغة المباريات الرياضية، إنّ المقابلة بين صنفي المواقف انتهت إلى نتيجة التعادل، ولكن بشرط أن تلعب «النهضة» جيداً في ما تبقّى من الموسم. ولا ندري ما قابليتها اليوم لأن تعود إلى التواصل والتناصح، لكننا نجازف بنصحها بما يلي:
أولاً، أن تكون إيجابية في تعاملها مع السياسات المقبلة فتساهم من موقع المعارضة المسؤولة في الخروج بتونس من الأزمة الاقتصادية الخانقة بدل استغلالها لتحصيل المكاسب الحزبية، وأن تدعم بصورة جلية الحرب ضدّ الإرهاب وتتخلّى عن كلّ مناضليها الذين ساهموا سابقاً في التغطية على الإرهاب خطاباً أو ممارسة، ويشمل ذلك بعض من يتخفّون بصفات «الشيخ» و»الخبير» و»الحقوقي».
ثانياً، الانفصال عن الهيئات الإقليمية التي يشتبه بكونها واجهات للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وفي مقدمها «الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين»، كي لا تتحمّل النهضة فتاواه ومواقفه المخالفة للدستور الذي صــــادقت عليه، لا سيما أن هذا الاتحاد ليس علمياً ولا دينياً وإنما هو مجرّد ذراع تنــــفيذية لمشروع إقليمي انتهى إلى الفشل، وليــــس من صالح تونس أن تتحمل تبعات الفشل وتعادي الأطراف الإقليمية الأخرى الـــتي تعارضه. ينبغي أن تظلّ تونس بورقيبية في تعاملها الإقليمي فتنأى بنفسها عن أن تصبح تابعاً لمخططات جزئية. وينسحب هذا أيضاً على المراكز والجمعيات التي زرعتها لوبيات أميركية في تونس، لتجعل البلد مختبراً إقليمياً لأطروحاتها. فتونس بلد له تاريخه الخاص وثقافته العريقة ولا يطمح إلى أن يكون نموذجاً لأحد، وأولى أن لا يرضى بأن يكون مختبراً لأجندات دولية مشبوهة ويضحّي بشعبه ومصالحه لتأكيد أطروحات المتخرجين من مدرسة بول بريمر.
ثالثاً، تنظيم مؤتمرها التاسع المؤجّل وإعلان القطع النهائي مع الإخوان المسلمين أيديولوجياً وتنظيمياً، والإقرار بصفة واضحة بطبيعتها السياسية وتخلصها من أسطورة الجمع بين الدين والسياسة والدعوة والسيف. فكلّ جماعات العنف والإرهاب خرجت من حاضنة الإخوان، وعلى «النهضة» أن تنأى بنفسها عن هذا الأصل الفاسد، مثلما حسمت الأحزاب اليسارية في أوروبا وأميركا اللاتينية أمرها مع الستالينية فأصبحت جزءاً من المشهد الديموقراطي. وقد نشأت «النهضة» امتداداً للإخوان، لكنها بدأت تشاكسهم منذ عقود، وحان الوقت لإعلان الطلاق البائن معهم قولاً وفعلاً.
سيكون حزب «النهضة» في المعارضة، وهذا موقع يدفع إلى التأمل والمراجعة أكثر من موقع السلطة وما يحمله من إغراءات لا تقاوم. ولقد احتل الحزب موقعه في المشهد السياسي ولم يعد الأمر محلّ جدل، لكن السؤال المطروح: هل يرتقي هذا المشهد نفسه إلى الممارسة الديموقراطية الحقيقية التي لا تتوقف على تنظيم الانتخابات، فيختفي التهديد الاستئصالي ضدّ «النهضة» من جهة، والخوف من ازدواجية الخطاب لدى «النهضة» من الجهة الأخرى، أم يظلّ المشهد محكوماً بتوازن الرعب الذي أفقد الديموقراطية عمقها وزخمها وجعلها تتراوح بين الأزمة والحلّ الموقت والتحشيد الانتخابي، مع بقاء القضايا التي قامت من أجلها الثورة من دون حلول، ولا بداية حلول؟