تعيش بلاد اليمن هذه الأيام وصلةً جديدة من وصلات المعارك الضارية بين الجيش النظامي اليمني وما يُشتبه أنها عناصر تنظيم القاعدة في اليمن، و يأتي هذا القتال استكمالاً لدورة من دورات المعارك التي اعتاد عليها الجيش اليمني ضد عناصر تنظيم القاعدة و الحوثيين، و وصلت تلك الحروب عدداً دفع البعض أن يصف حالة الحرب والعراك في اليمن بأنه حالة “حرب مستدامة”، فهل يا ترى ستكون الحرب بين النظام اليمني وعناصر القاعدة هذه المرة الأخيرة؟أو بعبارة أخرى متى يستريح اليمن من هذا العناء المنهك، والمنهك جداً؟
الإجابة على هذا السؤال لا يمكن رسم ملامحها إلا إذا أخذنا في الاعتبار خصوصية المشهد اليمني، فهو مشهدٌ مسكون بالتعدد والاختلاف الذي أججه البعض ليفضي إلى الفعل العنيف.
والساحة اليمنية مليئة بالخيوط التي تجعل قراءتها تستدعي استصحاب متغيرات تاريخية مثيرة وأيدلوجيات عديدة ومتلونة، وعشائريات وجهويات متجذرة في الطبائع والنفوس، فالبلاد التي تمتاز بموقع جغرافي في الجنوب الغربي للجزيرة العربية، تعيشُ تعدداً ثقافياً ومذهبياً و قبلياً كبيراً مرّ بظروف جعلته حاضناً لعدم الاستقرار بكل ألوانه وتياراته ومُذْكِيَاً لنيرانه.
الإجابة البديهية أن اليمن يحتاج إلى الحوار بين أبنائه، وهي إجابة مكرورة و قيلت كثيراً، وصدمها الواقع حتى ولّدت سؤالاً مهماً نصه: هل الصراع في اليمن يمني؟ أم أن اليمن مجرد مسرح لصراع أكبر منه؟ فالقاعدة تنظيم عالمي يتعدى مداه اليمن، والاستفهامات الكبيرة عن امتدادت الحوثيين على اعتلالها تبقى محل نظر. أيّاً كان الجواب سلبا أم ايجاباً، فهو لا يفيد كثيراً ولكنه يرِد هنا، ليُؤشر أننا لا زلنا نحتاج سؤالاً أعمق لنسطر حلاً لسؤالنا الأول: متى يستريح اليمن؟، تثور أسئلة حقيقية هي: لماذا يبقى اليمن مسرحاً للصراع؟، ولماذا تروج ثقافة العنف في اليمن؟، ولماذا يُشرعن العنف فيها؟، ومن شرعنه؟ وكيف بدأ؟
إن نجاح “أي تنظيم” في اليمن تمدداً وانتشاراً لا يعني بالضرورة نجاح خطابه، بقدرما يعكس تهيؤ الظروف له واستغلاله لها، فإن انتشار الفقر و الجهل وتفشي الأمراض السياسية والاجتماعية، خلقا نوعاً من أنواع اليأس التي مهدت لتقبل فكر العنف”على تعدد ألوانه”، ليكون تعبيراً عن رفض الواقع وخروجاً عليه. إن الأخطاء الإدارية والسياسية خلقت ثغرات واضحة في البناء “أو التكوين” المجتمعي اليمني استغلتها التنظيمات المؤدلجة واستغل أصحاب المظالم التنظيمات المؤدلجة ليصبوا غضبهم على الواقع طلباً للتغيير.
لم يكن اختيار تنظيمات العنف العالمية (حديثاً، وقديماً) لليمن لتكون معقلاً لها أمراً اعتباطياً، بل جاء عن دراسة مميزة لأكثر البلاد تعقيداً وأكبرها إشكالاً، فإن محفزات العنف في اليمن أكبر من أي دولة فيما عداها، و اقتصادها يعاني من أدواء لا تبشر بخير، و تشير القراءات الاقتصادية إلى أن الأمر إذا لم يجد عوناً “حقيقياً”، فسوف يكون كارثياً خلال السنوات السبع المقبلة (المنتهية بـ 2017)، وحتماً فإن انهيار السلطة اقتصادياً سيجعل الباب مفتوحاً للبديل، والناس تميل إلى من يحكم الاقتصاد، فإن استطاع البديل أن يسيطر على اقتصاد اليمن فسيصل إلى ما عداه من مفاصل السلطة. يتزامن هذا الحديث عن الانهيار الاقتصادي مع ما هو معروف من تعدد استحال من تعدد متآلف إلى سبب من أسباب العنف وداعٍ من دواعي التفرقة المتشظية.
تقدمت قوى العنف على قوى السلام في اليمن لأنها درست الحالة اليمنية بعناية، وفهمتها وحاولت أن تستغل كل الثغرات الموجودة، و تقدمها الميداني قد تهزمه الآلة العسكرية للجيش اليمني بإسناد من الدول الصديقة، وقد تدحره ولكن ستبقى أسبابه موجودة، ومالم تعالج فإنه سيصير مكروراً من جديد، وسيدفع اليمن الثمن غالياً، من مستقبله وجنوده ووقته الذي يجب أن ينصرف إلى أوجه أخرى، وسيبقى الجواب على السؤال ” متى يستريح اليمن ” معلقاً إلى ذلك الحين.
ولكن ستبقى للجواب شواهد، فلن يُنتصر على العنف في أي مكان بالعنف المضاد فقط، ولن يستطيع أحد أن يوقفه بالردع فقط، ولكن المكافحة الحقيقية للعنف إنما تكون بالتسلح بالتنمية وقايةً منه بها واستعداءً له بها، فمدرسة واحدة في قرية من القرى المهمشة خيرٌ من عشرات الدبابات التي تدك معاقل قوى العنف في اليمن وغيره، لأن المدرسة تضمن أن جيلاً ناشئاً سيكون متعلماً وفاعلاً ولن يُستغل جهله وعوزه وفاقته ويساق بعاطفته إلى مرامي الهلاك، وأن مصنعا واحداً يُشَغِّل خريجي الجامعات في إحدى المدن المهمشة أجدى من عشرات الطائرات التي تدك معاقل قوى العنف، لأن العلاقة بين البطالة والانسلاك في سلك الإرهاب علاقة طردية، وحينما نُشَغِّل ونستغل الطاقات لايستغلها الإرهاب. إن الطريق أمام اليمن طويل، فهو لا يعترف بسرعة الرصاص ولكنه يعترف بسرعة انسراب ضوء العلم لدحر الجهل في بلاد سكنها الجهل سنين عدداً، وسرعة انسراب التنمية في بلاد أهلكها التخلف والانحدار أزماناً طويلة.
يبقى السؤال مفتوحاً، بصيغته المذكورة أعلاه، أو بصيغته الأوفق والأليق بشعب الحضارة القديمة والشجن النبيل، متى يعود اليمن سعيداً؟
عمر الترابي