* روبرت وورث [1] ترجمة : منتصر مختار
في منتصف يونيو (حزيران) ، وجه الشاعر السوري المعروف بأدونيس (واحد من الشخصيات الأدبية الأكثر شهرة في العالم العربي)، رسالة علنية الى الرئيس السوري بشار الأسد، وكانت المنصة على استعداد لأحد تلك اللحظات المألوفة من الثورات السابقة، التي يواجه فيها المثقف والمفكر البطل، حاكماً ظالماً ويذكر ببلاغة مظالم الأمة.
على عكس ذلك تماماً، أحبط أدونيس المنفي في فرنسا كثيراً من السوريين، حيث عرضت رسالته بعض الانتقادات، وأساءت لحركة الاحتجاج المشتعلة في البلاد منذ مارس، وفشلت حتى في الاعتراف بالقمع الوحشي الذي ترك مئات القتلى السوريين. أظهرت هذه الحادثة الثغرة الواسعة والواضحة بين مثقفي العالم العربي – وكثير منهم مثل أدونيس يُعتبرون راديكاليين ومتطرفين سابقين – والجموع الكبيرة من الشباب الذين قادوا احتجاجات الربيع العربي. أكثر من عشرة أشهر منذ بدئها مع انتحار بائع الفاكهة التونسي، أطاحت موجة الانتفاضة الكبيرة في أنحاء العالم العربي بثلاثة من القادة المستبدين، ونتج عنها في الأسبوع الماضي إجراء انتخاباتٍ في تونس، اعتبرها العديد بمثابة بزوغ عصرٍ جديد. لم تسفر الانتفاضة عن أي مشروع سياسي أو اقتصادي واضح أو أي معايير فكرية من النوع الذي شكل تقريباً كل ثورة حديثة منذ عام 1776 فصاعداً، حيث في تلك الثورات ساعد المفكرون أو المنظرون من توماس باين إلى لينيين وماو وفاكلاف هافيل، على تقديم رؤية موحدة أو أصبحوا رموزاً لتطلعات شعب ما. إن عدم وجود مثل هذه الشخصيات في الربيع العربي يعتبر جزئياً أحد مفرزات الضغوط التي واجهها المثقفون العرب وعاشوها عبر العقود الأخيرة، حيث إنهم كانوا محاصرين بين وحشية القمع الذي تمارسه الدولة والعقيدة الإسلامية الخانقة من الجهة الأخرى. تم اختيار العديد منهم للمشاركة من قبل حكوماتهم، أو تعرضوا إلى النفي القسري مما أفقدهم الاتصال مع الواقع المعاش في مجتمعاتهم. أما في معسكر الذين بقوا؛ فقد عبروا عن موافقتهم في كثير من الأحيان للثورات التي حدثت وساروا مع الحشود يسودهم الارتباك والذهول دون أن يكونوا قائدين لهذه الحركات التي فشلوا في التنبوء بها. ربما عدم وجود هؤلاء القادة يمكن أن يكون بمثابة السمة المميزة لحقبة ما بعد الايديولوجيا التي يُشعر من خلالها بحاجةٍ أقل لتوحيد المذاهب. ومن المحتمل أيضاً أن دور المثقفين انكمش خلالها في المدونات وتنظيم الحشود في الشوارع، وللبعض يعد هذا كافياً. يقول سنان أنطون (شاعر عراقي المولد وروائي كتب بشكلٍ واسع عن الربيع العربي ويُدرِس الآن في جامعة نيويورك) “لا أعتقد أن هناك حاجة للمثقفين؛ لقيادة أي ثورة”، ويضيف “لم تعد هنالك حركة تُقاد عن طريق الأبطال”. هذا الاعتقاد قد يُختبر قريباً مع تواصل الثورات في سوريا، والتي أصبح غياب الدور القيادي فيها (الثورات) بمثابة العائق، رغم جودته في ردع حملات الشرطة السرية. الجدير بالذكر أن المنظمين والناشطين في داخل البلاد وخارجها يكافحون الآن؛ لتشكيل مجموعة من الأهداف السياسية المشتركة إضافة إلى الترابط الفكري والقيادة التي ينظر لها بشكلٍ متزايد على أنها هامة في هذه العملية. يقول صادق جلال العظم ، الفيلسوف السوري والمدافع عن الحريات المدنية الكبرى، “لا أحد يريد أن يكون المتهم في خطف الثورة”. ويضيف “هذا الخوف المفرط أصبح عائقاً”.إلى حد ما، يعد الصمت الفكري للانتفاضة الحالية بمثابة الاستجابة المتعمدة، بسبب الفراغ الناتج عن الخطاب الثوري للأجيال السابقة. بدأت الحركة القومية العربية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي عبر شبابٍ مثالي يأمل في قيادة المنطقة للخروج من الاستعمار والتخلف والقبلية. وجد الفيلسوف السياسي السوري ميشيل عفلق وغيره من الكُتاب الشباب والناشطين الإلهام في نظريات القومية الألمانية خلال القرن التاسع عشر، وقاموا بتبنيها في حزب البعث كأداة للحداثة والعدالة الاقتصادية. ولكن سرعان ما تم اختطاف الحزب وأفكاره الضبابية وحُولت إلى شعاراتٍ من قبل ضباط الجيش في سوريا والعراق، والذين كانت قيادتهم “الثورية” في حقيقة الأمر لا تعدو أن تكون قبلية قديمة واستبدادا بثوبٍ مختلف. وفي مصر أيضاً، سرعان ما أصبحت الاشتراكية العربية أكثر من أن تكون بمثابة الحُجة والذريعة للديكتاتورية والسياسات الطائشة في الداخل والخارج. أما القومية العربية فبلغت الذروة أو الحضيض من خلال العقيد معمر القذافي، الذي رأى نفسه مفكراً إلهياً، ناشراً خياله، وفارضاً النظرية العالمية الثالثة الوهمية على التعساء من شعب ليبيا. كل شيء في ليبيا العقيد القذافي كان على طرازٍ “ثوري”، وعندما أطاح المتمردون حكومته هذا العام وجدوا من الصعب الفصل بين أسماء مجالسهم الثورية عن تلك التي أُطحيت. من ناحية أخرى، لقد سئم المتظاهرون الذين قادوا الربيع العربي من الخُطب والبيانات الدولية التي لا معنى لها من أسلافهم، والتي حققت القليل للفلسطينيين وزادت من عمق الانقسامات بين الدول العربية، بدلاً من توحيدها، وأرادوا بدلاً من ذلك أن يركزوا على إخفاقات مجتمعاتهم. يقول حازم صاغية، المحرر السياسي لصحيفة الحياة العربية في لندن، “في السابق ، كان يضاف كل شيء للخارج : هل أنت موالٍ أو معادٍ لأمريكا، ما هو دور إسرائيل ، وهلم جرا”،ويضيف “هذه الثورة مختلفة تماماً”. إن التحول والتركيز على الحقوق المدنية والديمقراطية في الداخل لم يأت من فراغ، وتحدث بعض المثقفين العرب بهذه اللغة منذ فترةٍ طويلة، بما في ذلك الفيلسوف السوري صادق العظم والذي قام بعد إذلال حرب 1967 مع اسرائيل بنشر كتابٍ رائدٍ أطلق عليه اسم “النقد الذاتي بعد الهزيمة”. اتبع الآخرون حذوه تدريجياً، وخلال الفترة القصيرة لـ”ربيع دمشق” قبل عقدٍ من الزمن، وقع المثقفون السوريين على بيان 99، والذي كان بمثابة الدعوة لقدرٍ أكبر من الحقوق المدنية والانفتاح، وتم سجن العديد بعد ذلك. قد تكون شجاعة وثبات هؤلاء المثقفين وغيرهم من أمثالهم في مصر مهدت بهدوء ميدان الانتفاضات لهذا العام.لكن في السنوات الأخيرة كانت أصواتهم غير مسموعة في كثيرٍ من الأحيان، لأن لغتهم العلمانية كان لها قليل من الصدى في مجتمعاتٍ كان الإسلام السياسي فيها بمثابة القوة المهيمنة، ولم يكن الإصلاحيون الإسلاميون أفضل حالاً عندما حاولوا صب نقدهم السياسي في قالب المصطلحات الدينية. على سبيل المثال، في الثمانينيات من القرن العشرين بدأ الباحث والمفكر المصري حسن حنفي في الدعوة إلى إنشاء “يسار إسلامي”، وهو فكر اشتراكي راسخ في الدين، وتم بعد ذلك وصفه بالكافر واضطر إلى طلب حماية الشرطة بعد تلقيه تهديدات بالقتل من الجهاديين. اكتسب عمله جمهوراً في إندونيسيا، ولكن لم يكن كذلك في عقر داره، على حد قول كارول كيرستن، المحاضر في الكلية الملكية في لندن الذي كتب عن الإصلاحيين الإسلاميين. لا يقع جميع المثقفين العرب في مثل هذه الفخاخ. على سبيل المثال، الروائي المصري علاء الأسواني أصبح من أشد المنتقدين لحكومة حسني مبارك في السنوات الأخيرة، ولعبت شهرته دوراً في حمايته من الاعتقال.كان الأسواني من بين أوائل الكُتاب الذين تحدثوا إلى الحشود الغاضبة في ميدان التحرير في يناير (كانون الثاني) ومارس، وكان قاسياً في أدائه خلال مناظرة تلفزيونية مع أحمد شفيق، رئيس الوزراء المعين من قبل مبارك، والذي في اليوم التالي مباشرة تمت الإطاحة به من قبل المجلس العسكري الحاكم لمصر ، ورأى العديد أن هذا الإنجاز تم بفضل الأسواني. ولكن الأسواني أوضح تماماً منذ البداية أن هدفه الحقيقي والوحيد هو أن يكون بمثابة البوق لمطالب المتظاهرين في ميدان التحرير، ولم يعرض أفكاراً من تلقاء نفسه. حتماً وربما بشكلٍ غير عادل، قد تم مقارنة هذا الاضطراب العربي الراهن مع الانتفاضة ضد الشيوعية في أوروبا الشرقية عام 1989، والتي تعتبر بمثابة آخر انقلاب اجتماعي كبير الحجم في نطاق المقارنة مع الانتفاضة العربية. الجدير بالذكر أن المثقفين لعبوا دوراً أكثر بروزاً في تلك الحركات. في بولندا، على سبيل المثال، قال آن أبلباوم الكاتب ومؤلف كتاب موثق عن معسكرات الاعتقال السوفياتية إن “توحيد المثقفين والنقابات العمالية كان مهماً حقاً” ، وأضاف “ساعدوا على تشكيل الحركة والعمل على منشوراتها، وسهلوا المحادثات بين مجموعات العمال المختلفة، وأداروا مثل صفحة الفيسبوك في عصرهم “. الكاتب المسرحي التشيكي المنشق فاكلاف هافل كتب مقالاً بعنوان “سلطة الضعفاء” ، والذي أصبح نوعا من الطرق لكيفية البقاء على قيد الحياة بكرامة في بلدٍ يحكمه نظام استبدادي، وظهر فاكلاف هافل بعد ذلك باعتباره بطل الثورة المخملية أو الثورة الناعمة في بلاده. قد يكون الدور المتصل الذي لعبته هذه الشخصيات أقل ما يحُتاج إليه اليوم، وقد تكون المنابر الأيدلوجية للثورات السابقة أيضاً عفا عليها الزمن، نظراً لسرعة الاتصال والرؤى الجديدة. يقول بيتر هارلينغ المحلل البارز في مجموعة الأزمات الدولية “إنها سلسة للغاية وسريعة الحركة ومعقدة جداً”، ويضيف “من الصعب جداً التوصل إلى نموذج، الناس يبحثون عن القطع القصيرة التي توضح بعض الجوانب لما يذهبون من خلاله ولا يبحثون عن النظريات الكبرى “.وأضاف هارلينغ، ” من بين المثقفين السوريين لم يتقدم أحدهم بأي نوع من أنواع التفصيل الواضح الذي يتطلع لبرنامج سياسي” ، وهذا الفشل ساهم في المخاوف بشأن اتجاه حركة الاحتجاج. إن مدى ظهور أي أفكار من الربيع العربي، يعتبر ذا صلة ب”النموذج التركي”، والذي يعتبر الأمل الذي يسمع في كثيرٍ من الأحيان بأن المزيج التركي مابين الفكر الإسلامي المعتدل والحكم الديمقراطي يمكن أن يلهم نجاحا مماثلا في الأراضي العربية.لكن يعد هذا التشبيه أمراً سطحي، ويمكن أن يسفر أيضاً عن خيبة أمل في الأشهر والسنوات المقبلة. تعد تجربة تركيا صعبة التكرار، من ناحية لأن تركيا قد شهدت نوعاً من الثورة الجذرية ضد التقاليد التي قام المثقفون العرب في القرن العشرين فقط بالتحدث عنها. بدءاً من أوائل العشرينيات من القرن العشرين، أصلح المستبد التركي مصطفى كمال أتاتورك نظام التعليم في البلاد، مستعيناً بالمصلح الأمريكي جون ديوي لتقديم المشورة له، وقام أتاتورك بإلغاء الخلافة، وقام بالفصل الصارم بين الكنيسة والدولة. وبعد ذلك جرت أول انتخابات في عام 1946، وبعد عقودٍ من النضال (والعديد من الانقلابات العسكرية) بدأت تركيا بكسب الإطراء بفضل الطرق الديمقراطية.بدون ذلك الإعداد القاسي، قد يقوم الثوريون الجدد في العالم العربي في نهاية المطاف بتكرار التاريخ ، حتى لو قاموا بدراسته. في الأسبوع الماضي، وسط نشوة موت العقيد القذافي وضجيج الانتصار، يمكن سماع بعض الأصوات المرتابة من خلال رسائل الإنترنت باللغة العربية. كتب أحد مستخدمي التويتر العرب “فلندع مقتل القذافي أن يكون درساً للثوار وكذلك للحُكام”، وأضاف “دعونا نذكر الثوار في كل مكان أن القذافي جاء إلى السلطة عن طريق ثورته قبل 40 عاما.”
[1]كاتب في جريدة نيويورك تايمز عمل مراسلاً سابقاً لصالح الجريدة في مصر واليمن وليبيا. المقالة نشرت في 30 اكتوبر2011، وينشرها المسبار بالعربية، بإذن من الجريدة. رابط المقالة: http://www.nytimes.com/2011/10/30/sunday-review/the-arab-intellectuals-who-didnt-roar.html?_r=1&ref=robertfworth