تمهيد ManuelAlmeida كان اليوم الثاني من شهر مايو لعام 2011م يوماً مشهوداً لمدينة أبوت أباد الباكستانية، والمسماة على القائد العسكري البريطاني جيمس أبوت. ففي ذلك اليوم دخلت تلك المدينة إلى عالم الشهرة من أوسع أبوابها عندما أعلنت جميع الوسائل والوسائط الإعلامية ما جرى تأكيده رسمياً بعد ذلك بفترة وجيزة: مقتل أسامة بن لادن. لقد تمكنت الولايات المتحدة أخيراً من تحقيق هدف طالما تحول إلى هاجس ظل يؤرق أجفانها ويقض مضجعها. وقد تميزت الأيام التي تلت ذلك اليوم بنشر مجموعة متنوعة من الصور التي ستظل عالقة في ذاكرة الزمان لمدة طويلة، مثل صورة الرئيس باراك أوباما وأفراد طاقمه وهم يشاهدون من البيت الأبيض في بث حي على الهواء مباشرةً الغارة التي شنت على المجمع الذي آوى إليه ابن لادن. وقد أماط الحدث الذي وقع في اليوم الثاني من شهر مايو اللثام عن مزيد من التفاصيل عن تلك العملية
في حين أن شاشات قنوات البث التلفازي كانت تعج بالصور وتزخر بمشاهد للأحداث السابقة حول عشر سنوات من الحرب على الإرهاب. أما مغزى مقتل ابن لادن ودلالاته، فقد جاء التعبير عنها واضحاً من خلال الجدل الذي أثير لاحقاً حول الداعي الذي دعا الولايات المتحدة لأن تلجأ إلى خيار التخلص من جثمان بن لادن في أسرع فرصة ممكنة وبطريقة غير مسبوقة، حيث انتشرت على نطاق واسع مقولة إن القصد من التخلص من الجثمان بتلك الطريقة إنما يكمن في الحيلولة دون تحول مدفن ابن لادن إلى مزار قد يصبح مصدر تأثير وإلهام لأتباعه ومريديه. سواء كان ذلك أم لم يكن ضرباً من الأساطير والخرافات – لاسيما وأن التفسيرات السلفية المتشددة لا تجيز اتخاذ الأضرحة والقبور مزاراتٍ – فإن الجدل الذي أثير في هذا الخصوص إن دل على شيء إنما يدل على ضخامة الإرث الذي خلّفه ابن لادن؛ إذ يكفي القول في هذا الصدد إن حلاًّ مماثلاً لجأت إليه قوات التحالف في حالة أدولف هتلر، وكذا القادة النازيين الآخرين الذين لقوا حتفهم إثر الحكم عليهم بالإعدام في محاكمات نورمبورغ[1]. لك أن تتخيل عزيزي القارئ الأجيال القادمة وهي تسترجع شريط الزمن بالعودة إلى اليوم الحادي عشر من شهر سبتمبر 2001 والسنين التي تلته: هجوم مفاجئ من قبل حفنة من الأفراد للضرب في الصميم في قلب القوة العظمى الأولى بالعالم. وهو هجوم صار مثَار دهشة وذهول بقدرٍ ربما لم يكن يرقى إليه حتى الهجوم الياباني على بيرل هاربور، والذي استدرج الولايات المتحدة لخوض غمار الحرب العالمية الثانية- الأمر الذي أدّى إلى استعادة مبدأ قديم عن تغيير الأنظمة الحاكمة من قبل الدولة المهيمنة على العالم واستدعائه إلى حيز التنفيذ. فقد أقدمت الولايات المتحدة مع حلفائها على الإطاحة بنظام طالبان في أفغانستان، وهي دولة لا يستطيع معظم المواطنين الأمريكيين تحديد موقعها على الخريطة، على الأقل في ذلك الوقت (الذي شهد غزو أمريكا وحلفائها لتلك البلاد). وفي غضون ذلك، اتجهت بوصلة الحنق والغضب اللذين استبدّا أيَّما استبداد بإدارة بوش إلى العراق لإسقاط نظام آخر؛ هو في هذه الحالة عبارة عن عدو قديم منذ أمد بعيد. شهدت العواصم الغربية مزيداً من الهجمات التي أودت بحياة المئات من الأبرياء في لندن ومدريد، بالإضافة إلى وقوع موجة من العمليات التفجيرية عبر الشرق الأوسط وبصفة رئيسية ضد أهداف مدنية كتلك التي وقعت في كل من المغرب وباكستان وأندونيسيا على سبيل المثال لا الحصر. هذا فضلاً عن حروب دموية ومعقدة قد لا ترقى إلى الحروب الأهلية أو الصراعات الدولية ليس فقط في العراق وأفغانستان، ولكن أيضاً في الصومال وباكستان. أما أمريكا، التي تنادي بالديمقراطية، فقد أسقط في يدها هي وحلفائها من جراء المشاهد المخزية التي يندَى لها جبين البشرية من همجية في التعذيب ومعاملة في منتهى القسوة في غوانتنامو و «أبو غريب». أما الغارات التي درجت الولايات المتحدة على شنها عن طريق الطائرات بدون طيار فقد كان عدد ضحاياها من الأبرياء أكبر من عدد المسلحين الذين استهدفتهم تلك الغارات في كل من الصومال واليمن وباكستان. حقاً، كانت تلك السنوات العشر من الحرب على الإرهاب تمثل انعكاساً لعنوانها كما يتضح من لمحة عابرة لماضي تلك الحرب وسياق أحداثها. قبل عدة سنوات من اليوم الثاني من شهر مايو 2011م، لم يجد الرئيس المصري السابق حسني مبارك، والذي كان معارضاً لغزو العراق، بدّاً من تحذير جورج دبليو بوش من أنه «إذا كان هنالك ابن لادن واحد في الوقت الحالي، سيكون هنالك مئة ابن لادن (بسبب الحرب)[2] ومن المؤكد أن مبارك كان يتحدث بطريقة مجازيَّة؛ فقد كان يشير بصورة أساسية إلى التداعيات الكارثية والعواقب الوخيمة للغزو الأمريكي وتحديدا التأثيرات الراديكالية التي يمكن أن يحدثها في أوساط الشباب المسلمين المستائين من تدخل الغربيين وحشر أنوفهم في شئون المسلمين. ومن ناحية تقليدية، دأب مبارك على التلاعب بمخاوف الغربيين وبتوجسهم من الإسلاميين المصريين، وبصفة خاصة الإخوان المسلمين، والأفكار الخاطئة التي يحملها الغربيون عنهم واستغلال ذلك لاستدرار الدعم وضمان استمرار المساندة لحكمه الاستبدادي الغاشم. ومهما يكن من أمر، فقد اتضح أن تحذيراته كانت في مكانها – ذلك أنه بعد أن أطاحت القوات الأمريكية بصدام حسين ما لبث أن تحول العراق إلى البيئة الجاذبة ليس فقط لقدامى المحاربين الذي شاركوا في الحرب في أفغانستان، وإنما أيضاً للجهاديين الشباب الذين توافدوا من كل حدب وصوب من جميع أرجاء العالم الإسلامي. لقد شهد العراق ميلاد النسخة الأكثر دموية لفروع القاعدة. وفي واقع الأمر فإن تصوير وجود ابن لادن كمشروع نهلستي (من العدمية النهلستية وهي عبارة عن مذهب مؤداه أن الأحوال في المجتمع من السوء بمحل يجعل الهدم مرغوباً فيه لذاته وبمعزل عن أي برنامج إنشائي – مما يسوغ اللجوء إلى الإصلاح الثوري والعنف وسياسة الاغتيال والإرهاب) اتخذ شكلا وتجسد فعلاً مع القاعدة في بلاد الرافدين تحت قيادة أبي مصعب الزرقاوي. ومن الواضح أن التفجيريين المؤتمرين بأمره لم يكونوا يميزون بين المسلمين وغيرهم أو بين السنة والشيعة[3]. وفي وقت لاحق، أعلن صفوت عبد الغني، وهو زعيم مجموعة سلفية مصرية، عن نهاية تنظيم القاعدة في العالم العربي؛ يشار إلى أنه هو نفسه كان الواعظ الذي يدعو إلى الجهاد ضد الحكومة المصرية. وبمناسبة مقتل ابن لادن، صرح عبد الغني بأن «القاعدة لم يتم تدميرها عن طريق «الحرب على الإرهاب» وإنما بالثورات الشعبية التي أفضت إلى انتفاء ضرورتها وقضت على مبررات وجودها»[4]. وقد جاءت تصريحاته تلك في سياق حديثه ليس فقط عن الثورات العربية في كل من مصر وتونس واليمن وليبيا وسوريا والبحرين، وإنما أيضاً عن حرب استمرت نحواً من عشر سنوات؛ وهي حرب بلا حدود شنت من قبل الولايات المتحدة وحلفائها ضد القاعدة. تأتي آراء مبارك وعبد الغني تلخيصاً لرؤيتين متناقضتين سائدتين مطروحتين على الساحة في الوقت الراهن حيال ظاهرة القاعدة في مرحلة ما بعد ابن لادن. فمن جهة، لا تزال القاعدة تمثل تنظيماً قوياً ومؤثراً وفعالاً ينبغي أن يظل أولويةً استراتيجية لأي حكومة في المستقبل المنظور. ووفقاً لتلك الحجة، تظل القاعدة حتى بعد رحيل بن لادن تمثل خطراً ماثلا وداهماً ماحقاً يهدد الغرب وحكام الدول الإسلامية على حد سواء، عطفاً على أن تنظيم القاعدة ينظر إلى أولئك الحكام باعتبارهم كفرة وفجرة. وما تزال هذه الرؤية سائدة، وبصفة خاصة في العواصم الغربية. ومن ناحية أخرى، فإن فكرة أنَّ الربيع العربي من شأنه أن يوجه صفعة قوية للقاعدة ما فتئت تمثل أيضاً فكرة لها وجاهتها وتأثيرها. وعوضاً عن الراديكاليين المتشددين الذين يصطفون إلى جانب القاعدة، تكشف الثورات العربية النقاب عن مجموعة من الإسلاميين الذين يتصفون بدرجة عالية من الذرائعية وواقعية التعامل مع المعطيات السياسية ممن تركوا وراءهم أثقالَ ما كان سائداً من تراث وخطاب حول الإسلام السياسي. وفوق هذا وذاك، يمثل الثوار العرب نهجاً ينبذ استخدام العنف ويستهجنه ويستنكف عن اتخاذه أسلوباً لتحقيق الأهداف السياسية المشروعة[5]. تهدف المقالات الواردة في هذا المجلد إلى تسليط الضوء على القاعدة، وما إذا كانت ستصمد وتبقى على الساحة أم أنها ستتوارى عن الأنظار وتختفي باختفاء مؤسسها الذي غيّبه الموت. وتكتسب هذه المسألة مزيداً من الأهمية في ظل التطورات الكبرى التي طفقت تأخذ برقاب بعضها بعضاً في منطقة الشرق الأوسط في الوقت الراهن؛ وهي تطورات لا تشمل الربيع العربي فحسب، وإنما أيضاً خروج القوات الأمريكية من العراق، والانسحاب المتوقع لقوات التحالف من أفغانستان. ففي حين أن الثوار العرب ينظر إليهم على نطاق واسع على أنهم بمثابة الضربة القاضية القاصمة لظهر القاعدة، فإن وجود القوات الغربية على أراضي المسلمين يوصف في كثير من الأحيان بأنه بمثابة دافع وحافز يقدح الزناد ويشعل الفتيل لقضية الجهاد . ليس من اليسير أن يورد الرد على ما إذا كانت القاعدة ستبقى على الساحة وتظل صامدة بعد مقتل بن لادن؛ حيث يتطلب ذلك محاولة السعي لسبر أغوار الدلالة الحقيقية التي كان يجسدها ابن لادن ويمثلها في تنظيم القاعدة الذي عكف على تكوينهفي أفغانستان. أما دوره في السنوات الأخيرة فيما يتعلق بالجوانب الأكثر ارتباطاً بالشئون الدنيوية من استراتيجية أو تمويل أو تجنيد واستقطاب، فإن من المؤكد أنه كان مهماً. ومع هذا ربما يبدو من الأحرى أن يُنظَر إلى ابن لادن باعتباره الرمز الكبير للحركة الجهادية وأن ينظر من ثم إلى ماهية عقابيل رحيله من الحياة وطبيعة تداعيات اختفائه من مسرح الأحداث بانتقاله إلى الرفيق الأعلى في ضوء هذا الجانب تحديداً. لاحظ الخبراء كيف أن القاعدة كانت تتغير قبل موت ابن لادن. وكان الشعور السائد هو أن البناء الهرمي الذي يتصف بدرجة عالية من المركزية والانضباط الذي كان موجوداً في قمة أمجاده وأوج عنفوانه إبان الحرب في أفغانستان لم يعد له وجود في يوم الناس هذا. ولعل هذه النقطة هي محل إجماع في الوقت الحالي[6]. لقد أفضى هذا التغير إلى سجال حول القاعدة من حيث جدلية تصنيفها وكيفية تعريفها. فقد أشار ستيف كول (SteveColl) إلى مخرج معقول لهذه المسألة فأورده من حيث أفاد قائلاً: «إن تقييماً دقيقاً للقاعدة ينبغي أن يبدأ بالإقرار بأنها أصبحت تمثل عدة أشياء في آنٍ معاً: تنظيماً أو شبكة أو حركةً أو مذهباً أيديولوجياً وعلامة عالمية. وتتفاوت مكامن قوتها ومواطن ضعفها على نطاق تلك الخصائص المميزة آنفة الذكر»[7]. وبكل حال، فإن الأقل وضوحاً هو كيف أن هذه الصيغة أو الطبيعة المتغيرة أثرت على استراتيجية التنظيم وأهـدافه. وتتـصل هذه المسألة بالظـاهرة التي جرت العـادة على وصـفها بأنها «الذئاب الوحيـدة» (lonewolves)» أي الأفراد الذين يتصرفون لمفردهم من تلقاء أنفسهم (ممن يدعمون القاعدة ويخدمون استراتيجيتها منخرطين في مقاومة بدون قيادة مباشرة من القاعدة)، حيث يكون ارتباطهم بالقاعدة في كثير من الأحيان ارتباطاً غير مباشر. أما النمط النموذجي/المثالي للجهاديين الغربيين، فهو يتمثل في تسجيل زيارة لأحد معسكرات تنظيم القاعدة في الغالب الأعم في المناطق القبلية الحدودية في باكستان، لكي يتلقوا التدريب ويتلقُّنوا المبادئ ويتشربوا بالأفكار قبل الشروع في شنِّ الهجمات ضد الأهداف الغربية. وقد كان ذلك بمثابة طقوس وشعائر ضرورية أكثر من كونه نمطاً سائداً. وعلى الرغم من أن بعض هؤلاء «الذئاب الوحيدين» على الأقل معروفون بأنهم تلقوا التدريب وتم تلقينهم المبادئ والأفكار في اليمن أو باكستان، فإنَّ ظاهرة هؤلاء «الذئاب» قد تمثل انفصالا معيناً من تلك الطقوس والشعائر. ومن المؤكد أن هذه الظاهرة إنما تمثل مزيداً من مظاهر التحرر والتحلل من الصرامة في الحركة الجهادية العالمية المعاصرة. أما الهواجس العالمية حيال القاعدة، فقد بدأت تتحول تدريجياً من أفغانستان والعراق اللتين كانتا حتى عهد قريب تمثلان المسرح الأساسي أو أرض المعركة الرئيسية للحرب ضد الإرهاب. لئن كان تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين لا يزال خطيراً كما يبدو للعراقيين في كثير من الأحيان، فإن هذا الفرع عانى من انتكاسات كبرى متتالية، مثل الهزيمة التي مُنِي بها على يد أفراد ما يسمى حركة الصحوات السنية. أما في أفغانستان التي كانت ذات يوم المعقل الرئيسي للتنظيم، فإنه لا وجود للقاعدة على أرض الواقع؛ كما أنَّ إدراك أنَّ حركة طالبان الأفغانية ليست مرادفاً للقاعدة وإن جَاء متأخراً، قد أسهم قطعاً في تغيير مقاربة التحالف الدولي في تعامله مع أوحالِ المستنقع الأفغاني. أما السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام فهو: إذا لم تكن القاعدة موجودة في أفغانستان في هذه الأيام، فأين توجد القاعدة إذاً؟ إن استيعاب الحدّ الذي عنده تنتهي القاعدة وتبدأ المجموعات الجهادية الأخرى ليس مجرد تمرين في علم المعاني ودلالات الألفاظ – ذلك أنه يلزم إجراء دراسة متأنية وتحليل دقيق لخصوصيات البنية أو المزاج العام لمجموعة معينة من مجموعات الإسلام السياسي والسياق الاجتماعي والسياسي المحدد الذي تعمل فيه. وعطفاً على أن تنظيم القاعدة نما وتطوَّر كشبكة فضفاضة، فإن أحد الأسئلة الرئيسية التي يجمل طرحها إنما يتعلق بفروع القاعدة التي ظلت تعمل بهمة ونشاط، بعيداً عن مركز القاعدة، حيث يتوجب التعرف عليها لكونها تندرج تحت مظلة القاعدة الشاملة. ويشمل ذلك ليس الأهداف المشتركة فحسب، وإنما أيضاً مسألة الأيديولوجية المشتركة والحد أو القدر الذي يتواكب فيه هذان الجانبان ويتوافقان عنده بالضرورة زماناً ومكاناً. لقد تم تنظيم هذا الكتاب على النحو التالي: – يهدف الجزء الأول إلى فهم التداعيات المترتبة على مقتل ابن لادن وانعكاساته على القاعدة؛ كما أنه يسلط الضوء على عملية التحول المستمرة التي يشهدها التنظيم. ففي هذا الخصوص، يتطرق جان-بيير فيليو (Jean-PierreFiliu) إلى مناقشة مدلول التغيير القسري للحراسة في قيادة القاعدة، وذلك من خلال استرجاع شريط المسارات المتقاطعة لكل من ابن لادن والأمير الجديد للقاعدة، أيمن الظواهري، واستدعائها إلى بساط البحث والنقاش. يمعن جان بيير النظر في الجوانب التي حددت تميز ابن لادن وتفرده، وكيف أنَّ غيابه سوف يؤثر على مستقبل التنظيم؛ مما يفضي إلى تصعيب مهمة الدكتور أيمن الظواهري، ويجعلها مهمة في غاية الوعورة والتعقيد. في الفصل الذي يليه، تتولى علياء براهيمي (AliaBrahimi) تحليل كيف أن عملية التغيير التي بدأت قبل موت ابن لادن من شأنها التأثير على الاستراتيجية والأهداف العامة للتنظيم. ففي البداية، تنظر علياء إلى الأهداف التقليدية للتنظيم لأجل فهم كيف أن القاعدة حققت نجاحاً أو إخفاقاً في كل منها؛ ومن ثم تتأمل براهيمي القدر الذي يمثل فيه التغيير في تنظيم القاعدة، وتحديداً ديمقراطية السلطة داخل التنظيم، مؤشراً للقوة أم عرضاً لأزمة تعصف بالتنظيم. أما رافائيلو بانتوكيسي (RaffaelloPantucci)، فهو يقدم إضافة بخصوص هذا الموضوع المتعلق باستراتيجية القاعدة وبمزيد من التعميم والشمول في النظرة إلى موضوع الطبيعة المتطورة لحركة الجهاديين من خلال النظر إلى ظاهرة «الذئاب الوحيدة» التي تطرقنا إليها آنفاً. يحدثنا رافائيلو عن كيف أن حركة الجهاديين وجدتفي الأنترنت أداة قدِّر لها أن تلعب دوراً محورياً في شبكة الجهاديين العالمية في يوم الناس هذا. بعد ذلك يستشكف رافائيلو آفاق التحول الذي تشهده القاعدة، ويستشرف مآلات ذلك التحول إلى ظاهرة «الذئاب الوحيدة» كأسلوب مرحلي ونهج تكتيكي واضح وبادٍ للعيان. أما القسم الذي يلي ذلك، فهو أيضاً يحتوي على ثلاثة فصول تنطوي على التركيز على ثلاث مجموعات هي تنظيم القاعدة في جزيرة العرب (تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية) (AQAP) وحركة لشكر طيبة الباكستانية (Lashkar-e-Taiba) وحركة الشباب الصومالية. ولئن كان بمقدورنا النظر في أمثلة أخرى، مثل حضور القاعدة في المغرب أو المخاوف العالمية المتزايدة من نشاط الحركات المسلحة في غرب إفريقيا، فإن النظر في المجموعات الثلاث سالفة الذكر يكفي ليس لمجرد فهم إلى أين انتقلت القاعدة بعد أفغانستان؛ وإنما يفضي التحليل لتلك المجموعات الثلاث إلى إعطاء صورة عن كيف أنَّ كل فرع من فروع القاعدة أو المجموعات المنتسبة إليها تتعامل مع مجموعة القضايا الخاصة بها تحديداً، والتي تخصها دون سواها، بغض النظر عن حقيقة أن كلاً من تلك الفروع والمجموعات قد ترى نفسها جزءً من الحركة على نطاقها الأعم. ظل التهديد الذي تمثله القاعدة في جزيرة العرب هو المقياس الأكثر صدقية والأقرب إلى المصداقية والذي على مسطرته تقاس المخاوف العالمية إزاء حالة عدم الاستقرار المزمنة في اليمن، من خلال هذه الجزئية، ينظر ناصر الربيعي إلى هذا الفرع من فروع القاعدة وما يكتنفه من غموض وتعقيد فيما يتعلق بعلاقته مع جملة من الفاعلين الآخرين في المشهد السياسي اليمني. فهو بادئ ذي بدء يناقش مدلولات مقتل «العولقي» من حيث المدى والشأو الذي يبلغه نفوذ هذا الفرع من فروع القاعدة، ومن حيث الصلة بذلك الفرع، بعد ذلك ينتقل الفصل إلى تناول السياق اليمني الأعم لتوضيح كيف أن القاعدة ليست وحدها هي الجهة المستفيدة من حالة عدم الاستقرار المزمنة في اليمن. فمن رجال القبائل والمتعاطفين مع القاعدة في جزيرة العرب، إلى الحكومة اليمنية والمعارضة السياسية، يبدو أن جميع الفاعلين في المسرح السياسي بالبلاد استشرفوا آفاق وجود القاعدة وتحسسوا حضورها بين ظهرانيهم لكي يتمكن كل منهم على حدة من تحقيق أجندته الخاصة به. وعلى الرغم من أوجه التقدم المهمة التي تحققت في الجنوب اليمني، مثل الإعلان عن تأسيس إمارة إسلامية في مناطق قليلة، يوضح الربيعي كيف أن وجود القاعدة يعتمد على جملة من العوامل المتنوعة والمتفاوتة إلى أبعد الحدود. إلا أن أول هذه العوامل وأهمها هو غياب الحكومة التي تخدم مصالح شعبها وتتعهدها بالرعاية الحقة. أما السبب في أن أفغانستان لم تعد هي محور الجهود الدولية لدحر القاعدة، فهو لا يتمثل فقط في أن المناطق الحدودية قابلة للاختراق أو في حقيقة أن العديد من أعضاء القاعدة تفرقوا بين أسير وقتيل. وأما موقف باكستان فيما يتعلق بوجود الجهاديين على أراضيها، فقد أتاح للقاعدة مساراً طبيعياً آمناً للهروب. وبالنسبة للسلطات الباكستانية، فإن الأولوية التي تقف على رأس قائمة الأولويات تتمثل في تحقيق التوازن مع الهند. فقد ظلت المجموعات الباكستانية المسلحة العديدة للسنوات ذوات العدد تعمل بمثابة جيش احتياطي في حالة الصراع القائم بين البلدين، فضلاً عن دورها بحسبانها الأداة الفاعلة التي تقف سداً منيعاً يصد الهند ويحول دونها دخول إلى أفغانستان. وفوق هذا وذاك، تمثل المجموعات المسلحة جزءا لا يتجزأ من المجتمع الباكستاني على الرغم من أن الدعم الشعبي الذي كانت تحظى به تلك المجموعات تناقص وتضاءل إلى أبعد الحدود[8]. يشار في هذا السياق إلى أن وجود أعضاء القاعدة في أوساط المجموعات المسلحة في باكستان يعد مسألة حساسة ومعقدة للغاية. على الرغم من أن هنالك عدداً من المجموعات المسلحة في إقليم البنجاب، فإن جماعة لشكر طيبة الباكستانية تعد على نطاق واسع إحدى الجماعات الأقوى نفوذاً والأكثر خطورة من بين الجميع… تتطرق راشمي سينغ (RashmiSingh) لشرح الأسباب التي جعلت هذه المجموعة مختلفة عما سواها من المجموعات المسلحة الأخرى في باكستان كما أنها تتصدى لتحليل الصلات التي تجمع بين جماعة لشكر طيبة وتنظيم القاعدة. تقدم راشمي في البداية نبذة عامة عن نشأة المجموعة وبزوغ نجمها في سياق الحرب التي تخوضها باكستان ضد الهند لتعرِّج بعد ذلك إلى النظر في طبيعة ارتباط جماعة لشكر طيبة بتنظيم القاعدة، والمراحل المختلفة لتلك العلاقة وذلك الارتباط. في حين أن أوضح الصراعات البادية للعيان في إطار الحرب على الإرهاب هي تلك التي نشأت ونشبت في أفغانستان- باكستان والعراق، فإن الأحداث في الصومال مرت إلى حد بعيد من غير أن يلحظها أحد، على الأقل إذا ما قورنت بسابقاتها. أما ظهور حركة الشباب في الصومال، فقد حدث في سياق تكوين اتحاد المحاكم الإسلامية (UIC) وحلها وانفضاضها بالغزو الإثيوبي للصومال… وقتَها اشتعل فتيل الحرب ضد الإرهاب على خلفية الغزو الإثيوبي، مع قيام قوات العمليات الخاصة التابعة للجيش الأمريكي بتعقب المسلحين داخل الصومال. وبعد مقاومة مسلحة شرسة وحامية الوطيس ضد القوات الإثيوبية، تمكنت حركة الشباب من السيطرة على أكثر من نصف الأراضي الصومالية وانتزاعها عنوة واقتداراَ من قبضة الإثيوبيين. وفي الوقت الحالي، يبدو أن كل شيء تقريباً يشير إلى أن حركة الشباب أصبحت تمثل فرع القاعدة في شرق إفريقيا. لا مِراء في أنَّ لحركة الشباب صلاتٍ وثيقةً مع القاعدة، فهذا أمر لا مجال لإنكاره؛ ولكن كما أوضح ستيق جارل هانسن (StigJarleHansen)، فإن هذه قصة تتصف بتعقيد يفوق كثيراً ماهو معروف عنها من تعقيد في كثير من الأحيان. ومن خلال النظر في أيديولوجية حركة الشباب وتنظيم القاعدة على حد سواء، وكذا الجوانب اليومية المتعلقة بالتفاعل بينهما، يمعن الكاتب النظر ويتأمل مليّاً في واقع يكاد يكون من المتعذر أن ينظر إليه أحد بمنظار القطعية والحتم، والحكم بمنطق «إما أبيض أو أسود ولا شيء آخر». أما القسم الأخير من الكتاب، فهو يتناول موضوعين منفصلين إلى حد ما، و من المحتمل أن يلعب كلاهما دوراً محورياً في مستقبل القاعدة بعد ابن لادن. أحدهما الإرث الذي تركته الحرب على الإرهاب، تلك الحرب التي لم تضع أوزارها بعد برغم حقيقة أن العنوان الشائن سيئ السمعة لم يعد قيد الاستخدام. وأما الآخر، فهو الثورات العربية التي ما فتئت رحى أحداثها تدور على قدم وساق. تثير الحرب على الإرهاب قائمة طويلة من الجوانب الأخلاقية والقانونية بل والإستراتيجية للحرب الطويلة التي ظلت الولايات المتحدة تخوض غمارها جنباً إلى جنب مع حلفائها ضد فلول القاعدة بتنظيمها المركزي وفروعه المحلية. هل كانت تلك الحرب تستحق كل هذا العناء؟ كان هذا هو أحد الأسئلة التي لا مندوحة عن طرحها. وإذا لم يكن للأغراض الأخلاقية، فإن أهمية هذا السؤال تكمن على الأقل في العمل على تفادي تكرار ما لا يَوَدُّ أي كائن واقعي أن يراه حادثاً مرة أخرى. يظل الشك قائماً حيال ما إذا كانت الحرب على الإرهاب قد أفضت إلى دحر القاعدة أم أنَّ التنظيم هو الذي ألحق الهزيمة بنفسه، بعدد من الطلقات والأعيرة التي أصابت قدميه، في حين أن الحرب على الإرهاب أتاحت في حقيقة الأمر جملة من الفرص أمام القاعدة. ويبدو أن إدارة أوباما قررت عدم إغلاق هذا الفصل المؤلم من كتاب القاعدة إلى أن تتوارى القاعدة عن الأنظار وتدخل إلى عالم الذكريات فتصبح أثرا بعد عين[9]. وهكذا فإن من الواضح أن ما للحرب على الإرهاب من تداعيات يظل وثيق الصلة تماماً لأغراضنا. يستعرض جورج لاسمار (JorgeLasmar) جملةً من الممارسات التي تمت في إطار الحرب على الإرهاب، والتي شكلت في مجملها هجمة شرسة على حقوق الإنسان والقيم الديمقراطية التي طالما ادعت الولايات المتحدة وحليفاتها الدفاع عنها. يقدم جورج تصورات عن تلك الأساليب والممارسات في إطار استراتيجية أوسع نطاقاً لإدارة بوش وهي استراتيجية أفضت إلى التأثير على موقف الولايات المتحدة وعلى موقعها في قيادة المجتمع الدولي، كما أنها أدت إلى تصوير الولايات المتحدة على أنها في حرب مع الإسلام، وقد جاء ذلك متناغماً مع خطاب القاعدة وأدبياتها وخَدَم الأغراض المتوخاةفي ذلك الخطاب وتلك الأدبيات. أما الثورات العربية، فقد أعادت إلى الواجهة جدالاً لم يغب في حقيقة الأمر ولم يبارح موقعه قيد أنملة خلال السنوات العشر الأخيرة. بصريح العبارة، هل تؤدي الحكومات ذات الصيغ الديمقراطية إلى ظهور إرهابيين بأعداد أقل من تلك التي تظهرفي أنظمة الحكم العسكرية؟ فمن جهة كان هذا الجدال بصفة عامة موغلاً في النزوعإلى العمومية وعدم التحديد ولا يمس الجوانب الواقعية، فضلاً عن كونه يتصف بالميل إلى الاستقطاب؛ وذلك بالقدر الذي يجعله لا يفلح في تقديم أي شيء حقيقي له مغزى ومدلول فيما يتعلق بأصول الحركة الجهادية وجذورها وطبيعتها. وكما أوردنا فيما مضى، على نطاق واسع ينظر إلى الثورات العربية على أنها جاءت لتنسف المثل التي تتبناها القاعدة بلجوئها إلى الوسائل والأساليب السلمية للمتظاهرين للإطاحة بأنظمة الحكم العربية وتثبيت أسس الديمقراطية. وقد أماطت تلك العملية اللثام، على الأقل حتى الآن، عن مجموعة كاملة من الأحزاب الإسلامية التي تتصرف بمراعاة المعطيات الواقعية في المشهد السياسي؛ وهي أحزاب لا تَمتُّ بأي صلة لتنظيم القاعدة. ومع ذلك فإن المستقبل غير واضح في هذه اللحظة – ذلك أن بعض الأنظمة القديمة ما زالت في حالة ترصد كما هو الشأن في مصر أو اليمن. ففي حالة الأنظمة التي سقطت بالفعل، يمكن للمكاسب الهشة أن تنقلب بالفعل رأساً على عقب وأن يحل محلها عدم الاستقرار والحرب الأهلية. ومن المؤكد أن هذه الأخيرة – الحرب الأهلية -هي التي يمكن أن تستفيد منها القاعدة بحيث يتمكن التنظيم من التقاط أنفاسه ويكتسب نفساً جديداً في الحياة. ومع هذا، يسبر فواز جرجس أغوار الاحتمالات الكامنة للثورات العربية من حيث قدرتها على وضع حد لأسطوانة الإرهاب وتحديداً الهوس الذي يتملك الولايات المتحدة فيما يتعلق بالتهديد الذي تمثله القاعدة. إن رحيل من هم على شاكلة حسني مبارك أو علي عبد الله صالح، الذين سعت القاعدة إلى الإطاحة بهم، يمكن تفسيره بأنه انتصار للقاعدة. ففي واقع الأمر احتفلت القيادة المركزية لتنظيم القاعدة واحتفت أيما احتفاء بالثورات العربية؛ إلا أن جرجس ينظر إلى كيف أن تلك الأحداث أفضت إلى تهميش القاعدة إلى حد بعيد. وقد سعى الظواهري وغيره من القادة الجهاديين الآخرين بكل ضراوة للتصدي لمعالجة هذا القصور، والصلة غير الوثيقة بين القاعدة والثورات العربية، بركوب الموجة وإعادة التنظيم إلى واجهة الأحداث في العالم الإسلامي. – نُشرت هذه المادة في كتاب المسبار لشهر مارس(آذار) |القاعدة بعد ابن لادن. © جميع الحقوق محفوظة لمركز المسبار للدراسات والبحوث.
[1] أسامة بن لادن: «قوة تأثير المقدسات»، بي بي سي، 4 مايو 2011، يمكن الاطلاع عليه في: http://www.bbc.co.uk/news/magazine-13264959 تم الدخول إليه في 28 نوفمبر 2011م
[2] خوان كول مبارك: سوف نقطع رأس الأفعى؛ الأزهر: هذا هجوم على جميع المصريين تعليق بتاريخ 1 فبراير 2011م؛ يمكن الاطلاع عليه في: http://www.juancole.com/2011/01/mubarak-we-will-cut-off-the-head-of-the-snake-al-azhar-this-was-an-attack-on-all-egyptians.html تم الدخول إليه في 10 ديسمبر 2011م.
[3] حاول بوش وصف وجود القوات الأمريكية في العراق بأنه استراتيجية مقصودة لجذب الجهاديين للمنطقة. ‘إذا لم نحارب هذا العدو وندمره في العراق فإنه سوف لن يقف ساكناً بلا حراك وإنما سوف يحيك المؤامرات ويقتل الأمريكيين في جميع أنحاء العالم وفي عقر دارنا. وبمحاربة هؤلاء الإرهابيين في العراق فإن الأمريكيين يدحرون تهديداً مباشراً للشعب الأمريكي’ أما بيتر بيرجن وبول كريكشانك فقد قالا»تأثير العراق: أدت الحرب إلى مضاعفة الإرهاب سبعة أضعاف على مستوى العالم»، موذر جونز، مارس /إبريل 2007م.
[4] الإسلام السياسي: نهضة في كل مكان، ذي إكونومست، 10 ديسمبر 2011م.
[5] خبراء: الثورات العربية تحمل أنباء غير سارة للقاعدة» – الأهرام 6 فبراير 2011م يمكن الاطلاع عليه في: http://english.ahram.org.eg/NewsContent/2/8/5086/World/Region/Arab-revolts-bad-news-for-AlQaeda-experts.aspx الدخول إليه في 12 ديسمبر 2011م.
[6] فواز جرجس: أيديولوجية القاعدة المتنقلة – المجلة 6 فبراير 2010م.
[7] ستيف كول: مفارقات القاعدة: شهادة أمام لجنة خدمات القوات المسلحة في الكونغرس / مجلس الشيوخ بتاريخ 27 يناير 2010م يمكن الاطلاع عليه في http://www.newamerica.net/publications/resources/2010/the_paradoxes_of_al_qaeda تم الدخول إليه في 15 ديسمبر 2011م
[8] أنظر أناتول ليفن (2011) باكستان: دولة صعبة المراس. لندن: الن ألين .
[9] فواز جرجس (2011): نهوض وأفول القاعدة / شروق وغروب القاعدة نيويورك مطبعة جامعة أوكسفورد .