إثر النجاح الذي حققه صدور العدد الأول من “كتاب المسبار” الشهري، زادت صعوبات الطريق، وعظمت مشقة العمل، فالخطوة التالية ينبغي أن تكون على النهج نفسه، إن لم تكن تحمل تطورا وتجديدا يتسق مع طموحات القارئ، ويلتقي مع تطلعات المركز.
وهكذا صدر العدد الثاني من “كتاب المسبار”، بعد دراسة فاحصة لكل جوانب التجربة الأولى، ليضم بين دفتيه عددا من الدراسات التي نعتقد أنها تهم القارئ والمتخصص، لا من حيث غزارة المادة التي توفرها فحسب، بل – كذلك – من حيث علاقتها بمعطيات الواقع ومجريات الحدث الذي يشغل المتابعين كل في مجاله.
ولما كانت قضية التحقيق في اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، تحتل مساحة جدلية واسعة لدى الرأي العام العربي والعالمي، ارتأينا أن نقترب منها من الزاوية التي تمس صلب تخصص المركز، فقام الكاتب اللبناني “أحمد الزعبي” بتعقب خيوط “حركة دينية”، أشار إليها تقرير لجنة التحقيق الدولية، ليكشف عن جوانب جديدة في المؤسسة التي تنضوي تحتها تلك الحركة بالأساس، وهي “جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية” في لبنان، والتي يعرف أتباعها بـ”الأحباش”، فيعرض لنشأة هذا التيار، ودوره وأهدافه، وعلاقاته بالدولة، وكذا امتداداته الخارجية، في محاولة لإجلاء علائق السياسة والأمن بالدين، وفهم إشكالية توظيف الإيمان والكفر.
وحتى تكتمل الصورة، كان لابد من سبر أغوار شخصية مؤسس “حركة الأحباش”، وهي موضوع الملف الرئيس في هذا العدد، فأعد الباحث اللبناني “ماجد إبراهيم الأحمد”، دراسة ضافية عن الشيخ “عبد الله الحبشي”، منذ نشأته في “هرر”، وترحاله إلى المملكة العربية السعودية، ثم سوريا، ليستقر به المقام في لبنان، لتبدأ مرحلة “حركة الأحباش” والتي تعبر عنها “جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية”، ويناقش البحث كل جوانب تلك الشخصية، الفكرية والعقائدية والسياسية، والتي أحاطت نفسها بهالة من الضبابية، وأثارت حولها كثيرا من اللغط.
وضم هذا العدد من “كتاب المسبار”، ملفا عن مفهوم يشغل المتابعين أيضا، خصوصا في خضم الحديث عن إصلاحات المناهج التعليمية، ومدى اتساق هذه الاصلاحات مع الموروث الديني والثقافي، ذلك هو مفهوم “الولاء والبراء”. وحول منزلة هذا المفهوم، شديد التعقيد والالتباس والأثر في الإسلام، يقدم الباحث المتخصص في الشريعة “محمد عبد الرحمن السعد” بحثا شرعيا لبيان هذا المفهوم، يدعمه بأسانيد نصية، بعد أن يبحث في أصل المفهوم اللغوي، ويفيض في عرض مظاهر “الولاء والبراء”، بالاستشهادات والدلائل.
أما الباحث السعودي “عبد الله بن بجاد العتيبي”، فيتناول “توظيف” مفهوم “الولاء والبراء” من حيث كونه “إيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام”، ويعرض لمعضلة “الفكر الثنائي” في الثقافة العربية، ليخلص منها إلى “تفكيك” ثنائية الولاء والبراء، داحضا بالأدلة كثيرا من المزاعم والتأويلات التي تحيط بهذا المفهوم. والتي تم استغلالها من قبل حركات التطرف والعنف الإسلامي.
وتناول هذا العدد أيضا دراسة مستقلة بعنوان “العائدون من العراق”، حاول من خلالها الباحث السعودي “سعود بن صالح السرحان”، أن يتتبع حالة المنتمين لتنظيم القاعدة أو جماعات العنف الديني، ويرصد تواجدهم في العراق، في شرح تفصيلي لخريطة مواقعهم وأنشطتهم وانتماءاتهم، ليقرأ مستقبلهم بعد العودة من العراق إلى بلدانهم الأصلية.
ومن الكتب التي اختارها “المسبار” في هذا العدد، كتاب “جهاد… انتشار وانحسار الإسلام السياسي”، لمؤلفه الباحث الفرنسي الشهير “جيل كيبل”؛ إذ على الرغم من صدور هذا الكتاب في عام 2000م، إلا أنه لا زال يلقى رواجا لدى الأوساط المعنية، ولا تزال فرضيته الأساسية محل اختبار، فالكاتب يؤكد أن المد الإسلامي “السياسي” بلغ ذروته في نهاية عقد الثمانينيات، ومن ثم فإن عمليات العنف التي تلت هذا العقد، وبلغت ذروتها في أحداث سبتمبر (أيلول) 2001م، ليست تلك العمليات إلا تعبيرا عن “احتضار” هذا المد وتفتت هذه الجماعات، ويقدم في سبيل ذلك استشهادات عديدة، كما يدعم هذه الفرضية الأساسية بأخرى فرعية إذ يعتبر أن ذلك العنف لا يمكن يلقى تاييدا شعبيا، أو أن يتحول إلى نصر سياسي يسمح لمن يتبناه بالاستيلاء على السلطة التي يطمع فيها… فهل ستثبت فرضيات كيبل؟
إن مركز “المسبار”، بإصداره للعدد الثاني من “كتاب المسبار”، يأمل في أن تسد موضوعاته حاجة بحثية علمية في المكتبة العربية، وأن تفتح آفاقا أوسع للبحث والدراسة لدى المهتمين والمتابعين، كما يأمل في أن تحظى عناوين ملفاته في الأعداد القادمة، بالقدر نفسه من الحماس، الذي يعتز به “المسبار”، إثر صدور العدد الأول من كتابه.