في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين كانت كوادر الجماعة الإسلامية المصرية، بل وسائر الجماعات الإسلامية المسلحة في أنحاء العالم الإسلامي، تفاخر باغتيال الجماعة للرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، والذي نفذته هذه الجماعة في ذكرى انتصار السادس من أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1981، ولكن الآن يؤكد قادة الجماعة أنه لو عاد بهم الزمان ما اختاروا اغتياله، ويعتذرون عن هذا الفعل، بل ويؤكدون أن الرجل مات شهيداً
هكذا جاءت تحولات الجماعة الإسلامية في مصر عميقة وقوية، جاءت من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، تحركت من حتمية المواجهة مع السلطة ورموزها، إلى موقف وأدبيات يتهمها البعض فيها أنها تمارس التبرير لكثير من ممارسات الدولة!
ربما كان من ذلك البعض من يرون في مراجعات الجماعة الإسلامية المصرية، صفقة تمت بينها وبين الحكومة، ولكن قادة الجماعة، ومعهم كثير من المحللين والمراقبين، يؤكدون أنها إنما أتت ذاتية، ولها دوافعها البنيوية والفكرية، وأنها ليست سوى تصحيح للمفاهيم والمسار!
إن أول ميزة في مسار الجماعة الإسلامية (المسلحة) في مصر، أن مراجعاتها كانت الأسبق من سواها، فقد سبقت مراجعاتها مراجعات جماعة الجهاد، التي دشنها عبد القادر بن عبد العزيز بإحدى عشرة سنة أو يزيد، كما أنها أتت أكثر عمقاً من سواها، في قدرتها على النقد الذاتي، والاعتراف بالخطأ، الذي خصصت له الأربعة كتب الأولى من مراجعاتها، وعرفتها بسلسلة تصحيح المفاهيم، ثم توالى دورها نحو تصحيح أخطاء الآخرين، وخاصة القاعدة والجهاد، الذين يصرون ويتجهون إلى ما سبقتهم إليه الجماعة سابقا، ثم اكتشفت خطأه بقوة، وعادت للمصالحة مع الله، ومع المجتمع والدولة كذلك.
لهذه الحيثيات جميعا تأتي أهمية هذا الكتاب، الذي يرصد تجربة رائدة في تحولات جماعات العنف، وقد حرصنا في إعداده على تنوع الآراء والاتجاهات في قراءة هذه التجربة.
وبداية من التأسيس، يكتب محمد أبوزيد، متتبعا مراحل تطور الجماعة الإسلامية في مصر، من مرحلة الدعوة، مرورا بتغيير المنكر باليد، ثم القبض على السلاح وإشهاره في وجه رموز الدولة ومواردها، إلى أن انتهى بها الأمر إلى موقع إليكتروني، وذكريات مريرة عن أيام قضاها أعضاؤها في السجون، جعلتهم يخرجون، وقد قرروا قضاء البقية المتبقية من حيواتهم، بعيداً عن أي تنظيمات سياسية.
ويكتب الباحث صبحي عسيله عن منطقة مهملة في دراسات الجماعة حتى الآن، وهو هيكلها التنظيمي، المتجسد في مجلس شوراها، الذي يمثل القيادة الفعلية لها، متبعا تاريخ نشأته وأهم قراراته، ويقدم ترجمة وافية لأبرز قياداته وأدوارهم، سواء في مرحلة العنف أو مرحلة ما بعد المراجعات.
ثم يكتب الدكتور وحيد عبد المجيد دراسة عن مستقبل أبناء العنف من أعضاء الجماعة الإسلامية بعد المراجعات، حيث ينطلق الكاتب من فرضية مبدئية هي أن الحديث عن دور لجماعة إسلامية ما على الصعيد السياسى يفترض، قبل كل شئ، إدراك الفارق بين “السياسة الشرعية” من حيث هى تدبير مصالح العباد وفقا للشرع ولكن بدون أن يقوم على كل تدبير دليل خاص، والشرع من حيث هو نصوص وأحكام قاطعة، ويحدد الكاتب خمسة سيناريوهات يمكن أن يشكل أحدها مستقبل الجماعة الإسلامية بعد المراجعات.
وفي دراسته حول “مراجعات الجماعة الإسلامية في مصر” يسعى الدكتور جهاد عوده، إلى فحص الأسباب والقضايا المتعلقة بالمراجعات، مؤكدا على أنها حدثت بعد هزيمة الجماعة الإسلامية المصرية، فى محاولتهما الانقلاب على السلطة السياسية بالعنف، وأن هذا المراجعات لا يمكن اعتبارها كلية، انطلقت من الاختيار الحر فى التراجع وإعادة النظر، لأنها حدثت بين جدران السجون، وكانت شرطاً لازماً، للإفراج والعودة إلى الحياة المدنية.
أما الدكتور كمال حبيب فيسعى في دراسته “الآخر في فقه الجماعة الإسلامية قبل المراجعات وبعدها” للكشف عن تحولات الموقف من الآخر في فكر الجماعة الإسلامية، ويدخل في مفهوم الآخر حسب الدراسة غير المسلمين، ومنهم المواطنون الأقباط، وكذلك السياح والمستأمنون. كما يدخل فيه الغرب، والدين هنا هو معيار التمييز، ويدخل في معنى الآخر أيضاً الحركات الإسلامية الأخرى المختلفة مع الجماعة.
ويطرق يسري العزباوي باب تحولات الفهم السياسي عند الجماعة الإسلامية، فقد تحولت السياسة من دائرة الرفض والتكفير، إلى دائرة القبول والمرونة والتعاطي المدني معها بشكل كبير، ويرى أن أبرز ما يمكن ملاحظته حول الإدراك السياسي الجديد أن الجماعة تظهر تبريراًغير مفهوم أبدا للسياسة الرسمية المصرية، وهو الأمر الذي ترفضه القوى المصرية كافة، الإسلامية وغير الإسلامية.
وتأتي دراسة عبده إبراهيم حول شرعية المراجعات حيث يتعاطى مع تلك المراجعات كعملية، عبر مجموعة من المفاهيم والمداخل المنهاجية التي يسترشد بها في التعامل معها، محللا الأسباب الذاتية والداخلية والخارجية التي أدت إلى المراجعات، والبيئة التي مهدت لها وولدت فيها، لينتقل إلى مخرجات هذه المراجعات، أي أهدافها ونتائجها وردود الفعل عليها.
أما دراسة أحمد سميح بعنوان “مراجعات الجماعة وموقفها من القاعدة والجهاد” فتدخل منطقة جديدة من دوائر حركة وفاعلية الجماعة الإسلامية المصرية بعد المراجعات، وهي أنها صارت جزءا فاعلا في الحرب الفكرية على الإرهاب والعمليات الانتحارية، فقد خصصت الجماعة عددا كبيرا من الكتب والبيانات والتصريحات في نقد ممارسات القاعدة والجهاد، وهو ما استثار الظواهري وغيره من منظري القاعدة لنقد المراجعات ونقد الجماعة في مرحلتها الجديدة، هذه الدراسة ترصد هذا الجدل، موضحة مواقع الاشتباكات، ومحاور هذا الجدل المحتدم بعض الطرفين وأهم نتائجه.
ثم تأتي دراسة صباح فرج حول “الجماعة الإسلامية والمسألة القبطية”، وتأتي أهميتها من أن الجماعة كانت سباقة في استهداف الأقباط كأقلية دينية، في مالهم ودمائهم من باب الضغط على الدولة، أو من باب الاستحلال، ولكنها بعد المراجعات -ورغم اعتذارها عن هذه الممارسات السابقة- إلا أنها تظل متوجسة خيفة من كثير من مطالب الأقباط، ومتهمة للكنيسة المصرية ورأسها بأنها وراء كثير من “تسييس” مطالب الأقباط التي تراها زائفة.
وتتناول صفاء عصام سيرة الدكتور عمر عبد الرحمن فقيه الجماعة والجهاد، وأحد أبرز منظري الحاكمية لدى مختلف الجماعات الجهادية المعاصرة، معرّفة بسيرته الذاتية وتكوينه المبكر، مرورا بتوليه إمارة الجماعة الإسلامية، ومعركة الامير الضرير والأمير الأسير التي كانت فيصل التفرقة بين الجماعة والجهاد في منتصف الثمانينيات، حتى محاكمته في الولايات المتحدة وسجنه هناك منذ عام 1993.
وفي دراسة ميدانية جديدة، يرصد على الفقي عضو الجماعة الإسلامية السابق -والذي سجن اثني عشر عاما أثناء مرحلة العنف- التوجهات الجديدة لأفرادها بعد الخروج، وميولهم ومواقفهم وأفكارهم والمهن التي اتجهوا إليها، وهو يلح دائما على أن الجماعة دخلت السجن جماعة وخرجت منه آحادا تفرقت بهم السبل والاتجاهات.
ويقدم العدد قراءتين لاثنين من أهم الكتب التي صدرت عن الجماعة، الأول هو كتاب د. سلوى العوا “الجماعة الإسلامية المسلحة في مصر”، ويعرض له علي طه، والثاني هو كتاب الصحافي عبد اللطيف المناوي” شاهد على وقف العنف” ويعرض له أحمد الشريف.
وتأتي دراسة العدد ضمن سلسلة “في العقل الأصولي”، للمفكر والمؤرخ اللبناني وجيه كوثراني حول الأصولية والمواطنية، والتي يحاول فيها تفكيك العلاقة بين الفكرة الأصولية من جهة، وبين الفكرة المواطنية من جهة أخرى، والتي يرى أن الفجوة بينهما صعبة الوصل، موردا العديد من الأدلة والنماذج في هذا السياق.
وأخيراً، وعلى الرغم مما أثير وكتب حول مراجعات الجماعة الإسلامية المصرية، والتي نرى أن التجربة تستحقه نظراً لفرادتها وسبقها في تاريخ الحركات الإسلامية المعاصرة، إلا أن الإصدار الحالي من كتاب المسبار، يأمل في أن يكون قد قدم جديدا في هذا الموضوع، وذلك عبر تناول التجربة من زواياها المختلفة، سواء الفكرية النظرية، أم العملية المعيشة، وعبر إفساح المجال لمن اتفق معها وأيدها، أو من اختلف وشكك فيها، كما أن مستقبل هذه المراجعات، ورؤية تلك الجماعة بعدها، لم يغب عن اهتمام باحثي هذا الإصدار من كتاب المسبار الشهري.