بعد أن خصصنا إصدار المسبار الشهري الخامس عشر في مارس (آذار) 2008، لدراسة “حزب الله” الشيعي اللبناني، خصصا هذا الإصدار للطيف الإسلامي السني في لبنان، حتى تكتمل الصورة، وتتضح دفوعات واختلافات المشهد، الذي يضم في مختلف أجنحته: الوَسَطيْ المعتدل، كما يضم العنفي التكفيري.
تعرضت الطائفة السنية في لبنان لضغوط كثيرة، منذ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري سنة 2005، وحتى نزول ميليشيات حزب الله المسلحة لساحات بيروت العام 2008، ووقوع قتلى ومصابين، مما يجعل قراءة اتجاهات الإسلامية السنية في هذا البلد التوافقي الذي تتهدده بقوة مخاطر الطائفية، شأنا بحثيا واستراتيجيا ضرورياً، خاصة وأن كثيرا من الحركات الإسلامية السنية فيه، باستثناءات قليلة، لا زالت ضبابية التوجه، أو غير معروفة للكثيرين، سواء السلمية منها أو العنفية، كما أن مواقفها وتصورات كل منها للهوية وللدولة اللبنانية في حاجة لكشف وتعريف، خاصة في ظل بقاء مشكلة سلاح حزب الله، الفصيل الشيعي الأكبر، عالقة بدون حل.
ورغم رسوخ ملامح العلمنة والتعددية في المجتمع اللبناني، وغلبة تيار المستقبل ذي التوجه العلماني على الساحة السنية فيه، وربما تتحدد الفاعلية الإسلاموية فيه بالجماعة الإسلامية (الإخوان المسلمين) في لبنان، إلا أن دراسة مختلف اتجاهات الإسلامية اللبنانية أمراً مهما، ليس فقط لاختلافاتها الموضوعية أو الأيديولوجية وكذلك توجهاتها الداخلية والخارجية، ولكن كذلك وفي المقام الأول لتحديد موقفها من مقولة الوطن وإن بدأت بالطائفة! خصوصا وأن لبنان استُعمل دائما كساحة خلفية لصراعات قوى و محاور خارجه.
ولكن أين القوى الإسلامية السنية ومواقفها من كل ذلك، وما هي منطلقاتها الفكرية وعلاقاتها الخارجية والأيديولوجية… هذه الأسئلة وغيرها هي ما يحاول هذا الإصدار الثاني والعشرون من كتاب المسبار الشهري دراسته وقراءة جوانبه وتفصيلاته.
يفتتح الدكتور رضوان السيد هذا الكتاب بنظرة عامة ومكثفة على المشهد الإسلامي السني في لبنان، والذي يعد -باستثناء الجماعة الإسلامية- حديث النشأة والتكوين نسبيا، وذا طابع خيري وتنموي في بداياته، حتى ظهور حركة فتح على الساحة اللبنانية في أواسط الستينيات، حيث بدأ الحديث بعدها عن إسلام سياسي سني، ثم يرصد الكاتب في إيجاز تفاصيل المشهد بما يحمل من تحولات جذرية، وتحديات تعترضه، خلال مرحلة التسعينيات وصولاً إلى 2008، ويؤكد أن الضغوط الهائلة التي تعرض لها أهل السُنة في الأعوام الأخيرة، من النواحي الدينية والسياسية والاجتماعية، جعلت من الصعب ضبط الراديكاليات الانفجارية الناجمة عن الضيق والدم المُهراق، والتهافت لتقليد التنظيمات المسلّحة لدى الطوائف الأخرى.
ويقدم الدكتور عبد الغني عماد عرضاً لأبرز الحركات الإسلامية السنية المعتدلة في لبنان، منطلقاً من الخصوصية التي تتميز بها البنية السياسية اللبنانية من جهة، والتنوع الطائفي والمذهبي العميق الذي يميز البنية المجتمعية في هذا البلد من جهة أخرى، فيعرض للبيئة التي نشأت فيها هذه الحركات، والخصائص الفكرية التي تميز كل منها، مع تحليل لبعض تجاربها في العمل الإسلامي والعمل المسلح أو السياسي.
وسيجد القارى في هذا الملف، قراءة من الداخل يقدمها نائب الأمين العام لـ “الجماعة الإسلامية” في لبنان إبراهيم المصري عن هذه الحركة، نشأة، ومشروعاً فكرياً وسياسياً، وعلاقاتها الداخلية والإقليمية، وموقفها من الصراع العربي الإسرائيلي ومسألة المقاومة، دون إغفال للعلاقة مع الأذرع الإخوانية الأخرى في العالم العربي.
وفي محاولة لفهم خلفيات تكرار ورود اسم “لبنان” في خطابات الرجل الثاني في تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري، يحاول أحمد الزعبي، الإجابة عن السؤال حول ما إذا كان هذا التنظيم أخذ قراره بتحويل لبنان إلى أرض جهاد، بعدما كان يعتبرها لسنوات أرض نصرة وساحة خلفية، خصوصاً بعد اشتداد الخناق عليه في أفغانستان والعراق، محللاً ومقارناً ومفككاً للاعتبارات الدولية والإقليمية، التي تتقاطع مصالحها في هكذا تطور، وما هي الاحتمالات المستقبلية على هذا الصعيد.
من جهته، يقدم الدكتور حسن الشهال، وهو واحد من أبرز الوجوه السلفية في لبنان، ما يشبه السيرة الذاتية للتيار السلفي في لبنان، ماضياً وحاضراً، من خلال عرض أبرز المحطات التي رافقت انتشار هذه الدعوة منذ قرابة النصف قرن، وما آلت إليه من إمكانات ومؤسسات ومواقع، والأهم هو تبيان موقف الجماعات السلفية من النظام اللبناني القائم، ومن الجماعات السياسية فيه، وطموحاتها السياسية المستقبلية.
ويستقرئ الباحث أحمد الأيوبي التسلل الإيراني إلى الساحة السنية في لبنان، من خلال تفكيك الخطاب السياسي والفكري لـ “جبهة العمل الإسلامي”، التي بدأت رحلة تأسيسها مع الأمين العام السابق للجماعة الإسلامية فتحي يكن، في ظروف ملتبسة وعدم وضوح في الخلفيات، وبين ما بدأت به وما انتهت إليه، وخاصة لجهة الشعارات المعتمدة، شكّلت هذه الجبهة/الخليط حالة تناقض تام بين الأهداف التي أعلنتها، والممارسات التي اضطلعت بها.
وانطلاقاً من الأهمية الاستثنائية التي استحوذت عليها الحركات الأصولية السنية المسلحة في لبنان، لبنانية كانت أم فلسطينية، نظراً لتشعبها ودخول أطراف داخلية واقليمية ودولية على خط الافادة منها، يتتبع الباحث فادي شامية أهم هذه التنظيمات بالعرض والتحليل والرصد، معتمداً على أدبياتها الخاصة متى وجدت، وأدائها السياسي والتعبوي، وعلى احتكاكه المباشر كمتخصص في هذا المجال مع بعض ممن يحمل أفكار هذه الجماعات.
وفي زاوية شخصية الملف، يقدم الدكتور ناجي السويد، سيرة الأمين العام الحالي للجماعة الإسلامية، المستشار الشيخ فيصل مولوي، فإلى جانب موقعه الحركي الإسلامي، يعد الشيخ مولوي صاحب تجربة قانونية ثرية، أنتجتها خبرة عقود من العمل القضائي، وأنتجت أيضا فتاوى واجتهادات هي محل جدل واسع، وله أيضاً دور مركزي في تأسيس ما بات يعرف اليوم بـ “الإسلام الأوروبي”، من خلال تأسيس معظم الأطر والمؤسسات والمعاهد التي تهتم بالجاليات الإسلامية في أوروبا دينيا وفكريا واجتماعيا.
ونعرض قراءة في كتاب الباحث الفرنسي المتخصص بشؤون الجماعات المتطرفة، برنارد روجيه: “جهاد كل يوم”، بما هو بحث ميداني موثق، وعمل استقصائي استغرق من الباحث جهد سنوات قضاها بين المخيمات الفلسطينية في لبنان، متتبعاً أصول نشأة وتطور الخطاب الأصولي في المخيمات الفلسطينية في لبنان حصراً، وهو أمر غير موجود مثلاً في مخيمات الأردن أو سوريا؟
أما دراسة الكتاب، فهي للدكتور حسن حنفي، الذي يعرض بالتحليل لـ “الشعارات الأصولية”، والتي هي –بحسبه- “تعبير عن لسان حال الجماعات الإسلامية وتصورها للعالم وبواعثها وأهدافها”، ويعتمد حنفي في هذه الدراسة على التنظير المباشر للواقع، وتحليل التجارب الحية، ووصف الأحداث التي يصفها بالمؤسفة التي يعيشها الجميع.
ونحن واذ نقدم هذا الملف الجديد من “المسبار”، نعلن، كما دائماً، اننا حرصنا بالمقدار الذي اتخذناه منهجاً لعمل مركزنا، على تقديم الرؤى والأفكار والآراء والتأملات كما هي مجردة عن الانحياز أو التغييب، لإتاحة المجال الأوسع للباحثين والمهتمين ومراكز البحث والتحليل للإفادة من هذه المواد، وكلنا أمل بأن نكون قد أتحنا مجالات أوسع لفهم أكثر دقة لظواهر الإسلام السياسي والمتشدد في لبنان، بما يخدم مصالح الأمة ومجتمعاتها، ويسهم في رسم مستقبل أكثر اشراقاً، وأكثر مشاركة وندية في عالم اليوم.