ريتا فرج
في ظل الانسداد التاريخي الذي يعاني منه المسلمون في المجال العربي، ومع استفحال المذهبية والقبلية والعشائرية، يتعرض الإسلام العربي المعاصر الى حالة من التشظي، ما يدفع الى القول إنه اليوم لا ينتج سوى العنفيات بأشكالها المختلفة.
لم يشهد الإسلام التاريخي العربي هذا الكم المخيف والهائل من فورة السلفيات والخطاب الديني/ الإقصائي الذي نعاصره في الأزمنة الحالية. ثمة انزلاق حضاري يمر به المسلمون العرب، تفشى بشكل ملحوظ إثر التحولات الجارية وانعكاساتها على الدول العربية والجماعات الدينية والإثنية. يبدو الإسلام مع هذه الجعجعة الماضوية، وأسطورة العودة الى الأصل، أو ما يسميه أستاذ علم النفس وعميد وحدة البحث والتكوين في العلوم الإنسانية العياديّة بجامعة باريس فتحي بن سلامة «هذيان اللجوء الى الأصل»، في دائرة التصدي الدائم إزاء الحداثة، كما لو أنهما في خطين متوازيين يعجزان عن الفراق والتواصل.
أزمة الإسلام ليست في الدين، بل في ما ينتجه المسلمون العرب؛ لقد سُلِب من الجمهور إيمانه الشعبي/ الفطري التواصلي نتيجة التأجيج العنفي والمذهبي، كأننا في دارين؛ وإذا اعتبرنا أن هناك إسلامات تنويرية متفاوتة، تقتصر على النخب المسلمة التي دأبت في تقديم قراءات حديثة تضيء على مقاصد النص القرآني، غير أن سطوة الماضويين وفورة السلفيين غير المسبوقة والاهتياج الحاصل تعرض الإسلام الى التذرير من الداخل.
الواقع الراهن يتجه بنا الى طرح هذه الإشكاليات: ما الهدف من الاستحضار الغرائزي والتدميري للعنف الديني الكامن بعضه في التراث الذي يتطلب تهذيب منابعه وربما القطيعة معه؟ وكيف تُفسر الانشطارات الداخلية لدى المسلمين العرب؟ والى أي مدى يمكن القول إن معطى العنف بنيوي وتكويني في الإسلام التاريخي وليس الإسلام القرآني؟ ومن أجل ماذا جعل رجال الدين المتشددون الإسلام قوة دافعة الى نبذ الآخر وتكفيره حتى لو كان من أهله؟ ولماذا لا تتم الإضاءة على مساحات السلام والتسامح والتعددية في الدين والإيمان كما نادى بها القرآن؟
يحتاج الإسلام العربي الى استعادة دوره الحضاري الذي خبره في مراحل سابقة. المعضلة لا تكمن في النص القرآني الذي تتعاقب فيه ومعه المنارات المضيئة والتشاركية مع الذات والآخر (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)؛ (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) وإنما في فهم النص الديني وكيفية قراءته وتأويله ومطابقته للعصر ولأسئلة المسلمين، ما يؤدي الى تأسيس إسلام مدني، ربما مع كثير من المخاطرة، بلا مذاهب، قادر على تجاوز استبعاد الأحادي للمتعدد أي تخطي التسلطية الدينية تحت شعار «الفرقة الناجية».
الإسلام العربي في أزمة؛ إسلام قلق ومنغلق ومضطرب وعنفي ومتفجر من الداخل؛ إسلام أمام انغلاق الأفق بعدما جذروا التقابل بينه وبين الحداثة. هذه الأعراض المرضية/ الجماعية، بما تنتجه من مذهبية وقبلية وعنف، تنعكس على المجتمعي والسياسي والديني، وتستمد قواها من البداوة التي تحاصر المدنية نتيجة صادمات الوعي المتتالية التي تفاعلت معها، ليس على أساس الاستيعاب والتقبل والتمدين بل بالرفض وتوجس على الهوية والدين والجماعة، وهذا ما يفسر ردة الفعل الجماعية الخائفة على التراث التي تنظر اليه كرافد للاطمئنان، خوفاً من التحديث.
ليست المذهبية التي نلاحظها مؤشراً طارئاً على الإسلام العربي، فلا نشهد عودة لها، لأنها لم تستبعد قط بل تفاقمت، وهي أحد أعراض الاضرابات في المجتمعات العربية التي ترزح تحت نير التسلط والأحادية، والنبذ بأشكاله المختلفة. ورغم أهمية التحولات التي عرفها العالم العربي منذ بداية ثوراته المأزومة والمتعثرة، إلا انها لم تترافق في الأساس مع ثورة معرفية عميقة تطول الديني والثقافي. ولعل الإصلاح الديني المنشود في الإسلام العربي يشكل لبّ وجوهر أي تحول أو انتقال نحو إسلام مدني مُتَوائِم مع ذاته ومع الآخر ومع الحداثة، خصوصاً أن الدين يدخل في تفاصيل حياة المسلمين العرب.
الإسلام مُتَألِق ومتسامح وتثاقفي (ذو علاقة بثقافات متعددة) على قدر ما نفهمه ونُحييه؛ وتوحيدي على قدر ما هو تعددي (أي احتواء التعدد)، وإلاّ كيف يمكن تفسير الشواهد التاريخية التي خبرها حين كان في ذروة حضارته وتفاعله لا سيما إبان تجربة الأندلس التي جسدت التعايش وأظهرت روح الإسلام الحقيقية.
القبلي في الإسلام العربي يبتلع المدني ويحاصره. عصبيات مذهبية غير مسبوقة لدى شرائح اجتماعية واسعة، وصراع سنّي ــ شيعي في موجته التاريخية الثالثة، كما يصنفه الدكتور رضوان السيد الذي أشار في أحد أبحاثه الى أن التوتر بين السنّة والشيعة مر من قبل «بحقبتي توتُّر كبيرتين: الحقبة الواقعةُ بين القرنين الرابع والسابع للهجرة، والحقبة الواقعةُ بين القرنين التاسع والحادي عشر للهجرة… ونعيش خلال النصف الأول من القرن الخامس عشر الهجري، حقبة التوتر الثالثة والحاضرة».
يتذرر الإسلام العربي بسبب «العنف المقدس» والنتيجة مزيد من التمذهب والرفض. لا يسمع أحد صوت الإسلام العقلاني/ التقريبي، وما يحدث هو العكس استحضار لشيوخ الفتنة على الشاشات والمنابر. فهل يشي الانفجار المذهبي بتجزئة المجزأ ومعارك قادمة قد تكون أعنف مما خبرناه في العراق ودول أخرى؟ المسلمون ضد الإسلام، هذا الدين العالمي الذي يخاطب برسالته التوحيدية الإنسانية جمعاء.
ودون الدخول في التعميم، وكي لا نتهم بإتخاذ أحكام قطعية، الحاصل أن جزءاً لا يستهان به من المسلمين يقفون ضد أنفسهم من سنّة وشيعة بدل العمل على ترسيخ وتكريس التعايش الإيجابي المولد للابتكار والتلاقح الثقافي والديني على ضفتي الإسلام السنّي والشيعي