«النظر غير الجدل، فإن الجدل هو المباحثة لإلزام الغير، والنظر هو الفكر»
الشريف الجرجاني: «شرح المواقف»
من الطبيعي أن تواصل مؤسسات التعليم الديني العربية والإسلامية تدريس العلوم الدينية (الشرعية) وتطويرها، لكنها تواجه اليوم تحديا جديدا يتمثل في تطعيم مناهجها الدراسية بمكتسبات العلوم الإنسانية في مجال التعامل مع الظاهرة الدينية. ويطلب رفع هذا التحدي أن نقبل بالتمييز بين العلوم الدينية التي تختلف بين تقليد ديني وآخر وعلم الأديان الذي يمثل معرفة كونية جامعة. وسأحاول طرح القضية هنا من جانبين أراهما أساسيين ومتكاملين:
أولهما: تصحيح العلاقة بالتراث في مجال الدراسات الدينية واستجلاء إرهاصات هذا التراث بطرح الظاهرة الدينية طرحا موضوعيا علميا.
ثانيهما: فتح جسور التواصل بالمكتسبات الحديثة في هذا الميدان عبر تحديد بعض القواعد المنهجية الضرورية لتحقيق هذا التواصل وتأكيد الموضوعية فيه.
ويمثّل علم الأديان حاليا فرعا من فروع العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، أو ما يدعى بالإنسانيّات. وقد نشأ في ألمانيا أوّلا، وعرف بالكلمة «Religionswissenschaft» ثمّ انتشر في كل المجتمعات التّي تقدّم فيها البحث العلمي الحديث. فعرف في فرنسا مثلا بتسمية «Science des religions». وقد صدرت في القرن التاسع عشر عدّة كتب تحمل هذا العنوان، مثل كتاب لإميل برنوف (Emile Burnouf) وهو من الكتب القليلة التي وجدت طريقها إلى التعريب([1]). ثمّ أعيد تأسيس هذا العلم في النصف الثاني من القرن العشرين بمقتضى التحوّلات العميقة التي شهدتها العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بعد نهاية الحرب العالميّة الثانية وما تراكم من معلومات جديدة قدمتها المكتشفات اللغوية والأركيولوجية، وما برز أيضا من تجديد في المناهج، يضاف إلى ذلك السعي إلى التخلّي عن بعض النظريّات القديمة المرتبطة بالمعارضة بين الساميّة والآرية كما كانت سائدة سابقا. ومن المراجع المؤسّسة في هذه المرحلة الجديدة نذكر مثلا كتاب ميشيل ميلان «من أجل علم للأديان» (Pour une science des religions)([2])، وقد عرّب منذ فترة قصيرة([3])، وكان ميلان أوّل من تولى كرسي تاريخ الأديان بجامعة السوربون بباريس.
ومما يؤكّد التطوّر الحثيث لهذا العلم مقابل البطء العربي والإسلامي في التعامل معه أن كتاب بورنوف قد صدر سنة 1876 ولم يعرب إلا سنة 2006، أما كتاب ميلان المشار إليه فلم يعرّب إلاّ سنة 2009، مع أنه صدر سنة 1973، والطريف أن صاحبه كان قد قرّر الامتناع عن طباعته مجدّدا لأنّ عديد المعطيات الواردة فيه قد تجاوزها البحث العلمي([4])!
لا يهدف علم الأديان إلى سرد التواريخ الخطية للأديان ولا ما احتفظت به ذاكراتها من التاريخ، لكنه يهدف أساسا إلى صياغة مفاهيم كونيّة، لأنّ العلم لا يصبح علما إلاّ إذا كان كونيّا في المفاهيم التي يستعملها. وقد تراكمت لديه على مدى عقود مفاهيم جوهرية مثل «المقدس» و«الميثا» و«الطقوس» و«الخلاص» و«الإصلاح الديني»، وهي مفاهيم تتجاوز الخبرات الخاصّة بكل مجموعة، فلئن اختلفت الخبرات وتنوعت فإن قيمة هذه المفاهيم ترتبط بالإنسان الكوني في كل العصور والبيئات. ويذكّر هذا الوضع باستخدام القدامى مصطلحات من نوع «الصانع» و«الجوهر» و«الملة» و«المبدأ الأول» وغيرها، وهي مصطلحات كانت مشتركة بين جميع الطوائف والمذاهب وكانت تستجيب للوضع العلمي الذي كان سائدا آنذاك. أمّا في مجال الإيمان فإنّ لكل مجموعة أن تستعمل مصطلحاتها الروحيّة والدينيّة الخاصة بها.
نشأ علم الأديان في القرن التاسع عشر، كما هو شأن كل العلوم الإنسانيّة الاجتماعيّة، لكن أصوله البعيدة متجذرة في التاريخ البشري الطويل، منذ اليونان والرومان والعرب. وينبغي أن نميّز بين النشأة الحديثة للعلوم الإنسانية والاجتماعية وأصولها القديمة. فابن خلدون مثلا ليس مؤسّسا من مؤسّسي علم الاجتماع الحديث، لكنه يعتبر رائدا من روّاده القدامى. وكذلك لا يمكن القول: إنّ الشهرستاني أو غيره قد أسس علم الأديان، لكن يصحّ بالمقابل القول: إنّ العديد من الروّاد القدامى لهذا العلم قد عاشوا في ظل الحضارة العربيّة الإسلاميّة في العهد الذي كانت فيه هذه الحضارة منفتحة على الاختلاف والتعدّد، ثمّ اختفى هؤلاء عندما مالت هذه الحضارة إلى الأحادية والانغلاق. ويهدف تمييزنا بين النشأة والريادة إلى أن لا نجعل الحديث عن التراث مدخلا للانغلاق أمام الكونية والحداثة بحجة أن هذا التراث قد احتوى كل شيء، مع الاستفادة من هذا التراث استفادة نقدية واعية تقتبس منه إيجابياته وتجعله حافزا للحاضر. ومن هذا المنطلق سنطرح قضية وجود سوابق عربية إسلامية يمكن أن تعتبر أصولا قديمة لهذا المبحث.
أصول العـلم
إنّ ما ينبغي الوعي به اليوم أن الحديث عن أصول علم الأديان أصبح مبحثا من مباحث هذا العلم يخضع لمنهجيات خاصّة وتقنيات مضبوطة. ونشير مثلا إلى كتاب عنوانه «في أصول تاريخ الأديان»، صنفه فيليب بورجو (Philippe Borgeaud)، أحد كبار المتخصصين المعاصرين في علم الأديان وتلميذ ميرسيا إلياد وأستاذ تاريخ الأديان بجامعة جنيف([5]). يتضمن هذا الكتاب بحثا دقيقا وعميقا يؤكد حقائق مهمّة، منها أن مفهوم الدين ظهر متأخرا على الممارسات التي ندعوها اليوم دينيّة، وأنّه ما فتئ يشهد تحوّلات عديدة في التاريخ البشري. ومنها أنّ أصول المقارنة بين الأديان قد بدأت منذ عهد بعيد جدّا، عندما فَطِن بعض الكتاب الإغريق، وأهمّهم هيرودوت (482-425 ق م) إلى الاختلافات والتقاطعات بين معتقدات مصر الفرعونيّة والمعتقدات الإغريقيّة. ثمّ جاء العصر الروماني متميّزا بالتعدّديّة الدينيّة، قبل أن يعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحيّة سنة 313 ويتجه هو وخلفاؤه بعده إلى فرضها شيئا فشيئا ديانة رسميّة للإمبراطورية ومنع الديانات الأخرى ومطاردة تراثها، باستثناء الديانة اليهوديّة التي اعتبرها هؤلاء الطفولة المتجاوزة والعهد القديم المنتهي للديانة الإنسانيّة. وكان الكتّاب قبل العصر المسيحي للإمبراطورية يتمتعون بقدر من حرية التفكير والتأمّل في الاعتقادات المختلفة وحرية المقارنة بينها وإعمال النقد فيها. وظهرت بوادر تفكير مجرّد في الظاهرة الدينيّة عامة من خلال هذه المقارنات لكنها ظلت في مستوى الخواطر وإن عبّرت عن نفسها أحيانا في عبارات أو فقرات تعكس فكرا ثاقبا ونظرا متينا. وقد أكدت دراسة بورجو أن كلمة «دين» ذات طابع تعدّدي وجدلي، تحيل إلى مسمّى لم يوجد وجودا أزليا ولم يفتأ يتشكّل ويعيد التشكّل باستمرار([6]).
ومع الأسف فإنّ المؤرّخين المعاصرين في تاريخ علم الأديان لا يتحدثون عن الحلقة العربيّة الإسلاميّة، لكن ذلك يرجع أساسا إلى تقصير العرب والمسلمين في التعريف العلمي بهذه الحلقة، واقتصارهم على الكتابات التمجيدية الفضفاضة التي لا تقنع العلماء. والحقيقة أنّ توحّد أوروبا الغربية حول المسيحيّة قد مثّل فعلا تراجعا في البحث في الأديان، لكن لا يصحّ تعميم ذلك على كل العصر الوسيط، لأن هذا العصر كان قد شهد ازدهار هذه الدراسات في بعض المجتمعات العربيّة الإسلاميّة. وكان آدام ميتز قد نبّه إلى ذلك في كتاب مشهور عربه محمد عبدالهادي أبو ريدة تحت عنوان «الحضارة الإسلامية في القرن الرّابع الهجري»([7])، فكتب يقول: «كانت الحاجة إلى المعيشة المشتركة وما ينبغي أن يكون فيها من وفاق مما أوجد من أول الأمر نوعا من التسامح الذي لم يكن معروفا في أوروبا في العصور الوسطى، ومظهر هذا التسامح نشوء علم مقارنة الأديان، أي دراسة الملل والنحل على اختلافها والإقبال على هذا العلم بشغف عظيم»([8]).
يدعونا هذا القول إلى الافتخار بأن لنا رصيدا تاريخيّا في تطوّر هذا النوع من المباحث، لكن يمكن أن يدفعنا أيضا إلى الحسرة لأن المساهمة العربيّة الإسلاميّة فيه قد توقفت من قرون طويلة. والمهم أن لا نقف على الأطلال، وينبغي أن لا نحمّل قول ميتز أكثر مما يحتمل، فهو لا يقول: إنّ المسلمين هم الذين أسسوا هذا النوع من المباحث، لكنه يقول: إنهم كانوا متفوقين فيه خلال العصر الوسيط. وثمة خطأ آخر يتعمده بعض الكتاب العرب والمسلمين يتمثل في الاقتصار على العبارة التي نقلتها الآن، والتغاضي عن عبارة أخرى أوردها ميتز في موضع آخر من كتابه([9]) يقول فيها: «كان تسامح المسلمين في حياتهم مع اليهود والنصارى، وهو التسامح الذي لم يسمع مثله في العصور الوسطى، سببا في أن لحق بمباحث علم الكلام شيء لم يكن قط من نظام العصور الوسطى، وهو علم مقارنة الملل، ولم تكن نشأة هذا العلم من جانب المتكلمين».
أجل، إننا نخطئ عندما نظن أن مباحث الأديان في الحضارة العربية الإسلاميّة نشأت لدى علماء العقائد والكلام. وإذا قلنا إنّ كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني هو أفضل المصنفات في هذا المجال فينبغي أن نضيف عبارة: أفضل ما وصلنا من هذه المصنفات. لأنّ الحقيقة أنّ الجزء الأهم والأكبر من هذه المصنفات قد ضاع أو أتلف نتيجة التعصب الديني، وأنّ احتكار علماء الكلام لمباحث الأديان كان سببا من أسباب ضمورها وجمودها وتحنيطها. فالحقيقة أن مباحث مقارنة الأديان والملل قد نشأت في الحضارة العربيّة الإسلامية بدافع معرفي أوّلا، وقد ذكر ابن النديم في الفهرست (القرن الخامس هجري) أنّ المأمون هو الذي شجّع على استجلاب كتب الديانات الأخرى وتعريبها. وذكر ابن النديم العديد من العناوين التي ظلت متداولة إلى عصره، أي أكثر من قرنين بعد تأسيس «بيت الحكمة» ببغداد، ثمّ ضاع جلّها. فيمكن أن نستنتج أن حركة الترجمة التي تعهّدها المأمون لم تقتصر على الفلسفة، بل شملت الأديان أيضا، لكن الاهتمام بالفلسفة تواصل تواصلا نسبيّا في الحضارة العربيّة الإسلاميّة، أمّا الاهتمام بالأديان الأخرى فقد ضمر ثمّ اختفى بعد بضعة قرون من وفاة المأمون.
إنّ المشتغلين الأوائل بهذه المباحث لم يكونوا من علماء الدين بل كانوا من علماء الفلك. أجل، من علماء الفلك. والسبب في ذلك أنّ علماء الفلك كانوا يحتاجون إلى مقارنة الأرصاد الفلكية المختلفة، فاتجهوا إلى الاستفادة من كل ما كان متوافرا في كل الحضارات قديمها ومعاصرها، ودفعهم ذلك إلى تعلّم اللّغات الأخرى والاطّلاع على التواريخ والحضارات المختلفة. فكان من روّاد الدراسات المقارنة للأديان الحسن بن موسى بن الحسن النوبختي (ت 310هـ/ 922م) المساهم في ترجمة التراث الإغريقي للعربيّة، كتب كتابا ضخما عنوانه «الآراء والديانات». وكذلك المسبّحي، محمد بن عبيدالله (ت 420هــ/ 1029م) كان له اهتمام بالتاريخ (تاريخ المغاربة ومصر) والفلك (القضايا الصائبة في معاني أحكام النجوم) والأديان (درك البغية في وصف الأديان والعبادات).
لقد سادت روح منفتحة مستمدة من علم الفلك وقائمة على دقة الملاحظة واعتماد النقل الوفي عن الآخر. ونشهد آثار هذه الروح لدى ابن النديم نفسه، فعندما يعقد فصلا للحديث عن التوراة وكتب اليهود يبدأه قائلا: «سألت رجلا من أفاضلهم عن ذلك فقال…»، ويشير إلى أن المنقول عنه هو من تلامذة الفيومي ويذكر بعض الإشارات التي تفيد بأنّه كان عارفا بالفيومي ومدرسته، لكن من يذكر اليوم من المسلمين سعيد (سعديا) الفيومي (382-942) أحد أشهر رجال الدين اليهود عبر التاريخ الذي عاش في مصر وأسس مدرسة يرجع إليها الفضل في الاحتفاظ بالتراث اليهودي وتطويره؟ وكذلك نرى ابن النديم عندما يعقد فصلا حول كتب النصارى فإنه يبدؤه أيضا كما يلي: «سألت يونس القس وكان فاضلا عن الكتب التي يفسرونها ويعملون بها مما خرج إلى اللسان العربي فقال…»، ثم يستقي منه معلوماته كي تكون صحيحة([10]). هذا ويستفاد من كتاب ابن النديم أنّ الكثير من كتب الديانات غير الإسلام كانت موجودة باللّغة العربيّة في عصره.
أمّا الممثل الأكبر لهذه النزعة الفلكيّة التاريخيّة في دراسة الأديان فهو أبو الريحان البيروني (ت بعد 440هـ/ 1048م)، هذا الفلكي العظيم، صاحب الخمسة والثلاثين كتابا في علم الفلك أشهرها «القانون المسعودي»، لقد سخّر حياته لتطوير علم الفلك، ودفعه ذلك إلى الذهاب إلى الهند وتعلم اللّغة السنسكريتية كما ذكر في كتابه «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة». وساعدته إقامته الطويلة بالهند في الاطلاع على حضارتها وأديانها، فوضع منهجا للعمل لم يُسبق إليه ولا عُرف له معادل في العصر الوسيط، وهو منهج يقوم على المبادئ التالية:
أولا: إتقان أكثر من لغة والبداية بالترجمة قبل التأليف. لذلك درس السنسكريتية وترجم كتابين في الديانة الهندية ذكرهما في المقدمة: «سانك» و«باتنجل»([11]).
ثانيا: التمييز بين المعرفة بالأديان والجدال بينها، لذلك كتب في المقدمة: «ليس الكتاب كتاب حجاج وجدل حتى استعمل فيه بإيراد حجج الخصوم ومناقضة الزائغ عن الحق، وإنما هو كتاب حكاية (= عرض)»([12]).
ثالثا: الامتناع عن محاكمة العلماء حسب معتقداتهم الشخصيّة، فلم يتورع البيروني عن اعتبار أفضل كتب الديانات قبل كتابه مصنف أبي العباس الإيرانشهري الذي كان لاأدريا أو ملحدا، فكتب: «ما وجدت من أصحاب كتب المقالات أحدا قصد الحكاية المجردة من غير ميل ولا مداهنة سوى أبي العـباس الإيرانشهري، إذ لم يكن من جميع الأديان في شــيء»([13]). يعني أن الإيرانشهري لم يكن مؤمنا، لكن البيروني فضّله في العلم على المؤمنين. ومع الأسف فقد أتلف هذا الكتاب الذي اعتبره البيروني أفضل كتب المقالات في عصره.
لقد استعمل البيروني في «تحقيق ما للهند من مقولة» منهجية مستمدة من علم الفلك، وطبقها في مجال دراسة الأديان والحضارات، فكان كتابه عملا رائدا في مجال الدراسات المقارنة، وبلغت دراسة الأديان مع البيروني أوج ازدهارها. لكنّ المؤسف أنّ منهجيّة البيروني المستمدة من العلوم «الدنيوية» همّشت بعده، وكاد كتاب «تحقيق ما للهند من مقولة» أن يشهد مصير كتاب الإيرانشهري، وظلّ قرونا غائبا عن المؤسسات التعليمية الإسلامية. ويرجع الفضل إلى الألمان منشئي علم الأديان الحديث في إعادة الاعتبار إلى هذا الكتاب؛ إذ سخّر المستشرق إداورد سخاو (Edward Sachau) حياته للتعريف بالبيروني وأعماله وترجمة بعض مصنفاته إلى اللّغتين الإنجليزية والألمانيّة، وهو الذي أخرج أول طبعة من كتاب «تحقيق ما للهند» سنة 1887. ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى الندوة التي كانت عقدت بتونس سنة 1949 للاحتفال بذكرى الألفيّة الأولى لميلاد البيروني (كان قد مرّ آنذاك على وفاة سخاو نصف القرن)، وقد أشرف عليها الشيخ المصلح محمد الفاضل بن عاشور الذي تولّى بعد الاستقلال إدارة الجامعة الزيتونيّة وكان أوّل عمدائها([14]).
ذلك أن تراث البيروني وسابقيه قد ضاع عندما قرّر علماء الكلام والعقائد أن يستحوذوا وحدهم على هذا النوع من المباحث، وكان يوجد تيار آخر أسّس ما عرف بمصنفات الملل والنحل، ومن رواده عبدالقاهر البغدادي (ت429هـ/ 1037م) الذي كان متصلّبا وعنيفا ضد من يخالفه الرأي، وكان أسلوبه وعظيا نضاليّا يفتقد إلى الدقة وكانت كتابته جداليّة تخلو من المنهجية([15]). ومن حسن الحظ أن جاء بعده الشهرستاني (ت 548هـ/ 1153م)، فعمل على استعادة بعض الموضوعيّة إلى هذه المباحث، وعلى ما في كتابه «الملل والنحل» من فوائد وما حقّقه من شهرة، فإنه يظلّ دون مستوى البيروني الذي عاش قبله بقرن. ولا يتسع المقام لتقديم مستندات هذا الرأي، لكنّنا نشير سريعا إلى إيجابيات كتاب الشهرستاني وسلبياته، باعتباره الكتاب الأكثر شهرة في التراث العربي.
فمن سلبيات هذا الكتاب ضعف قيمة ما يورده حول بعض الأديان المشهورة ووقوعه في أخطاء بعضها فاحش، مثل قوله عن النسطورية: إنهم «أصحاب نسطور الحكيم الذي ظهر في عصر المأمون وتصرّف في الأناجيل بحكم رأيه»([16])، مع أنّ النسطوريّة فرقة مسيحية مشهورة ومؤسسها نسطور عاش بين سنتي 380 و451 أي قبل ظهور الإسلام. ومنها ضعف قيمة ما أورده حول الديانات الهنديّة لأنّه لم يطلع على كتاب البيروني الذي سبقه بقرن تقريبا ولم يطلع على الكتب التي أشار إليها البيروني في مقدمته. وقد بدأ كتابه بمقدمات خمس تضمنت رؤيته للحقيقة والاختلاف، فلم يشذ عن المتكلمين عامة في اعتبار الحقيقة واحدة والاختلاف مذموما والعقل قاصرا لا بدّ أن يلجم وإلاّ أضلّ البشر. بيد أن تشديد الشهرستاني على ذمّ الاختلاف في مقدماته الخمس لم يؤثّر كثيرا في مضامين كتابه، إذ عرض الآراء المخالفة ولم يحرّفها أو يسارع بالردّ عليها، وهذا من الإيجابيات التي تحسب له. وقد أقحم الفلسفة مع المذاهب والعقائد وأبدى احتراما ملحوظا لأصحابها من اليونان وأقرّ بوحدة العقل الفلسفي، فلم يستعمل عبارة «فلسفة إسلامية» أو «عربية»، بل جعل الفلسفة إنسانية جامعة وتحدث عن الفلاسفة المسلمين بصفة «المتأخرين» مقابل متقدّميهم من الإغريق. وكان جريئا في عرض آراء المخالفين ولو عارضت معارضة صريحة المعتقدات الإسلامية، ونذكر في هذا المجال مثالين بارزين: أولهما المناظرة التي عرضها بين الله وإبليس وتتضمن سبعة اعتراضات على الحكمة الإلهيّة([17])، وثانيهما تحبيره عدّة صفحات لنقل حجج منكري النبوات بطريقة موسّعة ومفصلة ومن دون الرد أو التعليق عليها.
ومع الأسف فإن المسار الإسلامي في هذا المجال قد نكب مجدّدا عندما جعل كتاب الشهرستاني خاتمة لهذه المباحث، فلم تصنف بعده إلا ملخصات عنه، مثل كتاب «اعتقادات فرق المسلمين والمشركين» لابن الخطيب الرازي (ت 606هـ). بل إن الشهرستاني لم يسلم بدوره من الاتهام، خاصة لدى التيار السلفي الحنبلي وزعيمه ابن تيمية الذي عبّر في العديد من المناسبات عن ازدرائه لهذا الكتاب.
الموضوعيّة
عود إلى علم الأديان بالمعنى الحديث لتوضيح بعض القضايا المنهجية المهمة في التعامل معه، فـمن الضروري أن نشرح بأكثر ما يمكن من الدقّة قضيّة الموضوعيّة كما تطرح حديثا لأنها كثيرا ما تلتبس بخلفيات أيديولوجيّة ينبغي التخلص منها لنظلّ في دائرة العلم والمعرفة لا غير. وقد يكون من الممكن تلخيصها في المبادئ التالية:
أولا: علم الأديان مبحث معرفي لا إيماني كما قدّمنا، المرجعيّة فيه للعلماء الذين أثبتوا القدرة على تفريع مسائله وتأسيس مفاهيمه وضبط مناهجه، وتظلّ مسألة الانتماء الديني لهذا العالم وذاك مسألة ثانوية، وكذلك الموقف الشخصي بين الإيمان أو الإلحاد أو اللاأدرية، طالما لم يثبت أنّ الانتماءات والمواقف قد أثرت في الأعمال العلميّة. ولا يمكن أن يبدأ العرب والمسلمون هذا العلم من الصفر، ولا أن يبدؤوه من خلال تراثهم وحسب، لأنّه قد تراكم على مدى أكثر من قرن منتج علمي غزير لا مناص من التعامل معه والاستفادة منه. ولا يمكن أن يدعي الخوض في هذا العلم والانتماء إليه من لم يكن عارفا معرفة دقيقة بأعمال ماكس ميلر وجيمس فرايزر وماكس فيبر وميرسيا إلياد وجورج دومزيل وميشيل ميلان وغيرهم من أصحاب الأعمال العلمية المرجعية، ويتطلب ذلك طبعا إتقان لغة أجنبيّة أو أكثر، لأنّ غالب هذه الأعمال لم يعرّب أو أنّه عرّب تعريبا مخلاّ لا يفي بالغرض. ونستشهد في هذا المجال بقول ابن رشد: «إن كان غيرنا قد فحص من ذلك فتبيّن أنّه يجب علينا أن نستعين على ما نحن نسبي له بما قاله من تقدّمنا في ذلك، سواء كان ذلك الغير مشاركا أو غير مشارك في الملّة»([18]). ونستشهد بتفضيل البيروني كتاب الإيرانشهري في الأديان على غيره من الكتب على الرغم من اشتهار صاحبه بعدم الإيمان، وبما ذكرناه سابقا من ترجمات حصلت في عصر المأمون لكتب تعرض الأديان الأخرى، وبجرأة الشهرستاني في عرض حجج المخاصمين. فالاستلهام من التراث العربي الإسلامي لا يعني تكرار مضامينه التي تجاوزها العصر بل تطوير هذه الروح الموضوعيّة التي نشأت فيه واتخاذها حافزا للانفتاح على المعرفة الحديثة.
ثانيا: تتطلب الموضوعيّة الحياد المنهجي لا الحياد الوجودي، فللباحث إيمانه الخاص وقناعاته الشخصيّة، وليس المطلوب منه أن يتخلّى عنها، بل من حقّه أن يستفيد من علم الأديان لتعميق ذلك الإيمان وتلك القناعات، إذ ليس المطلوب منه الحياد الوجودي. أمّا الحياد المنهجي فيتمثّل في التقليص بأكثر قدر ممكن من تأثير ذلك في الـبحث. ونقول «بأكثر قدر ممكن» لأنّنا ندرك أنّ الموضوعيّة لا يمكن أن تتحقق بصفة مطلقة في علم الأديان، كما لا يمكن أن تتحقق بهذه الصفة في مجموع العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة. لكنّ الخطاب العلمي هو ذاك الذي يضع الموضوعيّة هدفا أسمى له ويسعى إلى الالتزام بها في البحث. ولولاها لما اختلف خطاب العلوم عن بقية الخطابات الأخرى، ولما تميّز الباحث الأكاديمي عن بقيّة الأدوار الاجتماعيّة الأخرى.
ثالثا: الفارق واضح بين طرح قضيّة الحاجة النفسيّة التي تفسّر التوجّه نحو الدين وقصر الدين في هذه الحاجة النفسيّة، أو طرح قضيّة الوظائف الاجتماعيّة للدين وحصر الدين في هذه الوظائف الاجتماعيّة، أو طرح قضيّة تاريخيّة دين معين وحصره في الإطار الضيق لهذه التاريخيّة. كثيرا ما يترتّب على عدم مراعاة هذا الفارق الخلط وسوء التفاهم باتجاهين: اتّجاه من يرفض من الأصل طرح هذا النوع من القضايا بدعوى أنّها تدنيس لقدسيّة الدين، واتجاه من يتّخذ هذه القضايا ذريعة لمواقف مسبقة من دين معين أو من الأديان عموما، قائمة على خلفيّات أيديولوجيّة معلنة أو متخفّية. ولا يمكن أن يقوم علم الأديان إذا ظلّ محاصرا بهذين الموقفين أو بأحدهما. فيتعين تأكيد أهميّة هذا الفارق والتشديد عليه لأنّه أسّ من أسس الموضوعيّة والعلميّة وركن من أركان علم الأديان لا يستقيم بدونه. فالتفسير الموضوعي للظواهر الدينيّة لا يعني الاختزال الحتمي لها في وظيفة نفسية أو اجتماعية أو تاريخيّة، لاسيما أنّ هذه الوظائف تتغيّر حسب الأشخاص وحسب العصور، فيمكن أن نعاين حالات يكون خوف الموت هو الدافع إلى التدين كما يمكن أن نرى الدافع في حالات أخرى متمثلا في المحبّة والعشق (التصوّف مثلا)، ويمكن أن نعاين حالات وظّف فيها الدين للمحافظة على أوضاع اجتماعيّة سائدة وحالات وظف فيها للثورة على هذه الأوضاع. إنّ كلّ تفسير قائم على علاقة أحادية وحتميّة يسقط في التبسيط أو يرتكز على مصادرات أيديولوجيّة مسبقة.
رابعا: يقوم علم الأديان على المبدأ نفسه الذي تقوم عليه كلّ العلوم، وهو الاكتفاء بشواهد الإثبات الموضوعيّة، وعدم الخلط بين الذّاكرة والواقعة، وبين الشّهادة والوثيقة، فالذاكرات والشهادات الدينيّة متعددة متضاربة، سواء بين الأديان أو داخل كل دين في ذاته، وليست وظيفة علم الأديان أن يحكم بينها، أو يحدّد الصحيح والخاطئ منها. إنّ وظيفته تتمثّل في العرض المنهجي لما ثبت بشواهد الإثبات الموضوعيّة، مثل الوثائق النصيّة والحفريات الأركيولوجيّة. هذا المبدأ هو المعروف في كل العلوم بمبدأ الاكتفاء (autonomie). وبواسطته يمكن الوصول إلى مجموعة من المعارف المشتركة بين البشر لأنّها قائمة على إثباتات موضوعيّة، وهي التي تمثّل «الوضع الراهن للعلم» (l’état de la science) ويمكن أن يراجع أو يتغيّر مستقبلا إذا ثبت ما يناقضها، فخاصّة العلم عموما، كما يقول كارل بوبر، قابليته للمراجعة. ولا ينفي وجود معارف مشتركة بين البشر إمكانية وجود معارف أخرى مخصوصة بالمجموعات المختلفة، فالصنف الأوّل هو ما ندعوه بعلم الأديان، والصنف الثاني ينخرط في مجال العلوم الدينيّة أو الذاكرات الروحيّة التي تميّز المجموعات البشريّة عن بعضها البعض.
لقد اتسمت نشأة علم الأديان في القرن التاسع عشر بسمـة الازدواجيّة (ambivalence)، إذ يمكن أن ننظر إليه من جهة على أنّه مُواصلة لما كان ماكس فيبر قد دعاه التخلص من العالم المسكون (le désenchantement du monde)، ويمكن أن ننظر إليه من جهة أخرى على أنه مواصلة لتلبية طموح الإنسان منذ القدم لفهم الظواهر الدينيّة. والرأي عندنا أنّ المجتمعات التّي وافقت على استقبال هذا النوع من الدراسات والاستفادة منها قد غنمت غنيمتين، أولاهما تفادي علمانيّة متطرفة تستبدل أديان الأمس بأيديولوجيات شموليّة مغلقة، كما حصل في البلدان الشيوعيّة سابقا، وثانيهما دفع الفكر الديني السائد إلى مراجعة مقولاته وتصوراته بما يقتضيه الوضع الجديد للبحث العلمي والتأمّل الفلسفي، مما يسمح بالاجتهاد والتجديد الدينيين.
ومع ما بين الاتجاهين المذكورين من اختلاف وتنافس بلغا أحيانا حدّ الصدام، فإن المجتمعات المعنيّة قد غنمت خيرا من هذا التحوّل الجذري الذي حصل في التعامل مع الظاهرة الدينيّة ومن القول بمبدأ التمييز بين علم الأديان الذي ينتمي إلى المجموع المسمّى بالإنسانيات والعلوم الدينية التي ينبغي أن تدعى اللاهوتيات (théologie)، وهو تمييز منهجي كما قدمنا، لا يعني الفصل وإقامة الحواجز والحصون، إذ إن التفاعل الإيجابي بين الصنفين يمنع كليهما من الانغلاق والجمود والتطرف. وقد مكّن في الغرب من قيام مفكّرين لاهوتيين منسجمين مع قضايا العصر ولغته ومقولاته أو فلاسفة مجددين للفكر الديني، مثل كارل بارث ورودولف بولتمان وفرديريك شلايرماخر وبول ريكور.
ومما لا شكّ فيه أن مجمّع فاتيكان الثاني الذي أعاد صياغة اللاهوت المسيحي الكاثوليكي قد تأثر أيضا بهذا المسار وتفاعل معه تفاعلا جزئيّا، وأنّ تغيّر الموقف الكاثوليكي الرسمي من الديانات غير المسيحيّة، ومنها الإسلام، قد حصل نتيجة تراكم المعارف الأوروبيّة حول هذه الديانات بما جعل النظرة الكنسية القديمة إليها تضعف وتتهاوى، فتخلصت الكاثوليكيّة مما يدعوه الباحثون بنظريّة المحاكاة الشيطانيّة (imitatio diabolica) التي جعلت لاهوتيي العصر الوسيط ينظرون إلى الأديان الأخرى -ومنها الإسلام- على أنها محاولات شيطانيّة لمحاكاة الديانة الحقّة (vera religio).
المهم اليوم أن لا ننخرط في الشعارات الزائفة، ولا نبتعد عن الموضوع المطروح للتفاخر بالآباء والأجداد وما تركوه من تراث، فلا مناص من الإقرار بأن نصيبنا حاليا من علم الأديان نصيب ضئيل، وأنه ليس من كبار أعلامه في العصر الحديث شخصيات عربيّة ولا إسلاميّة، وأنّ حضوره في جامعاتنا بالمعني العلمي الحديث الذي بيّنا حضور ضعيف، بل يكاد يكون معدوما. فأفضل ما يمكن القيام به اليوم هو أن نبدأ بفهم ما تراكم من معارف منذ نشأة هذا العلم قبل أكثر من قرن، وأن نعمل على عرضها بلغتنا العربيّة عرضا منهجيّا، وعلى تعريب المصادر الأساسيّة في هذا العلم، ثم نحاول في مرحلة لاحقة أن نقدّم اجتهاداتنا في هذا المجال انطلاقا من التجربة الإسلاميّة التي تمثّل جزءا مهمّا من الظاهرة الدينيّة الكونيّة([19]).
[1] بورنوف (إميل)، علم الأديان، تعريب العروسي الميزوري، تونس، دار المعارف، 2006.
[2] Meslin (Michel), Pour une science des religions. Paris, le Seuil, 1973
[3] بيروت، المركز الثقافي العربي، 2009.
[4] استعاد المؤلف جزءا من محتواه في كتاب لاحق عنوانه
Meslin (Michel), L’expérience humaine du divin, Paris, Cerf, 1988.
[5] Borgeaud (Philippe), Aux origines de l’histoire des religions, Paris, Seuil, 2004
[6] « Le caractère pluriel et polémique du mot « religion », un objet qui n’existe pas de toute éternité, que l’on ne cesse de construire et de reconstruire » (p. 9)
[7] ميتز (آدم)، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري أو عصر النهضة في الإسلام، تعريب محمد عبدالهادي أبو ريده، ط الدار التونسية للنشر، 1988.
[8] المصدر السابق، ج1، ص 71.
[9] ص 342 من الترجمة العربيّة.
[10] يراجع ابن النديم (محمد بن إسحاق)، الفهرست، ط بيروت 1997، ص 23 و37 و38.
[11] الكتاب الأول غير معروف والثاني هو اليوغا سترا، وقد جاوزت عناوين الكتب الدينية الهندية التي يستشهد بها البيروني في مصنفه العشرين كتابا.
[12] البيروني (أبو الريحان)، تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، ط. بيروت ص16.
[13]المصدر السابق، ص 15.
[14] السعدي (أبو زيان)، الشيخ محمد الفاضل بن عاشور رجل الفكر والعمل والإصلاح، كتب الحرية، 2009، ص 121-122.
[15] أشهر كتبه في هذا المجال «الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية» وكتاب «الملل والنحل».
[16] الشهرستاني (أبو الفتح محمد بن عبدالكريم)، الملل والنحل، ط بيروت، دار الكتب العلمية، د ت، ص 252.
[17] يبدأ الاعتراض الأول كما يلي: «علم (الله) قبل خلقي أي شيء يصدر عني ويحصل مني فلم خلقني وما الحكمة في خلقه إياي؟» وتتواصل الاعتراضات السبعة على هذا النمط.
[18] فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، بيروت، دار الآفاق الجديدة، ص 15.
[19] نشير إلى تعريبنا مؤخرا لأحد المراجع الحديثة في تاريخ الأديان وقد صدر بعنوان: المصنّف الوجيز في تاريخ الأديان، فريدريك لونوار، المركز الوطني للترجمة، تونس، 2012.