تقديم
يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «تفكيك مناهج حزب الله التعليمية: مدارس المهدي والمصطفى» (الكتاب الثالث والعشرون بعد المئتين يوليو (تمّوز) 2025)، التربية الدينية في أدبيات ومناهج التدريس الخاصة بالمدارس المتأثرة بأفكار حزب الله، ويخصّ مدرستي المصطفى والمهدي، ويراقب تأثّرها بِقِيَم عابرة للوطنية، ومتّصلة بوثائق وأهداف استراتيجية وتربوية ظهرت في وثائق إيرانية، أثّرت في المناهج، والأنشطة والأفكار، خصوصًا عقب التّحولات السياسية في إيران منذ عام 1979، ويتخصص الكتاب في فحص طُرُق التجنيد عبر التعليم الذي تمارسه الجماعات الإسلاموية؛ عبر صياغة نظرياتها للمعرفة.
فاتحة دراسات الكتاب قدّمها الباحث والخبير في أدبيات حزب الله، السيد محمد علي الحسيني، الذي وضّح المناهج والاستراتيجيات التربوية والسّمات المؤسّسيّة التي تُميِّز المدارس التابعة لحزب الله في لبنان؛ وآلية التنشئة على النظرة السياسية المتحزّبة، وإلباسها ثوبًا دينيًّا، وتحويلها المدارس إلى أدوات حزبية للتواصل الاجتماعي العابر للوطنية، والتجييش المدروس لخلق وعي متمايز ونافر عن الفضاء الوطني العام، قَدّم الحسيني بانوراما للأفكار، وأشار إلى مناطق النفوذ الجغرافي والفكري، داخل لبنان وخارجه. مؤكّدًا اختلاف النمط الحركي في هذه المدارس، بشكلٍ ما عهدته البيئة الدينية اللبنانية قبل 1979.
وفي سبيل فهم التاريخ، المشار إليه، قَدّم الباحث والأكاديمي طارق خليل؛ قراءة مُكثّفة لأطروحةٍ عن التعليم الديني في لبنان؛ والتأثير التربوي والاجتماعي والسياسي، منذ القرن السابع عشر الميلادي؛ حتى بروز الكتاتيب والمدارس المسيحية ومدرسة عين ورقة العلمانية في القرن التاسع عشر، مرورًا بتطور النظام التربوي مع إعلان الجمهورية في 1914، وأثره على تعليم المسلمين (السُّنَّة، الشيعة، الدروز)، وما تمخَّض عنه من تعليم تقليدي انشق عنه آخر ثوري، خرج به من تعليم دينيّ فنّي مغلق إلى حقل اجتماعي. ناقشت الدراسة الأساليب التعليمية حينها وتطور الكتب المدرسية، وما رافقها من صحافة دينية، وأفرد الباحث تلخيصاً لإنتاج المؤلفات الدينية، قبل أن يشير إلى التمرد الطلابي، وأزمات المجتمع. عكست القراءة حدود الحيوية للتعليم الديني؛ الذي ما خرج إلى الستينيات عن إطاره المجتمعي والوطني، إلا قليلًا.
في السياق نفسه، أما الباحث والأكاديمي عفيف عثمان فيرصد المراحل التي مرّ بها منهج التربية الدينية في المدرسة العاملية وتغيراته من 1923 إلى 1925، بدأها بمسرد لقوانين إصلاح التعليم، وتأسيس وزارة المعارف العثمانية 1847؛ وبروز الإرساليات الأجنبية، إلى جانب تأسيس السُّنّة جمعية المقاصد الخيرية في 1878، ليمهِّد بذلك لإنشاء رشيد يوسف بيضون الجمعية الخيرية العاملية في مدينة صور، وبدأت مدرستها الابتدائية في 1928، وصولًا إلى الكلية العاملية في 1937. وسعى الباحث لبيان مناهجها، وشرح دخول التعليم الديني لها، بمراحله الثلاث التي بدأت باعتمادها في التسعينيات لسلسلة «الإسلام رسالتنا» التي ألَّفتها جمعية التعليم الديني الإسلامي التي أطلقها، بدعم مجموعة من رجال دين في 1974؛ موسى الصدر ومهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله، قدّم الباحث محتوى السلسلة بشكل مختصر. ثم يشير إلى أن المدرسة انتقلت إلى تعليم كتاب التربية الدينية الذي ألَّفه المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى منذ 2003، ويلاحظ أنّ كلا المؤلفين يركز على خصوصية الطائفة أو المذهب الشيعي في لبنان. ثم في المرحلة الأخيرة بدءًا من العام 2021 بدأت المدرسة اعتماد تفسيرات لسور من القرآن الكريم عوضًا عن المؤلَّف، حسبما أفاد الباحثَ، بعضُ الذين استطلعهم ميدانيًّا؛ مثل الأستاذ محمد حويلة، مدير المدارس، الذي ألمح إلى اعتماد التفسير بديلًا لتلافي القضايا الخلافية، وللحفاظ على الانفتاح نفسه. ويختم الكاتب، بالحكم بأن المدرسة سعت للموازنة بين متطلبات التربية الوطنية ومنظومة القيم الإسلامية الخاصة بالطائفة الشيعية. وحاولت أن تُبعد ثورة التغيير العابر، الذي أدخله الخميني ووثائقه في الأدبيات اللبنانية المتأثرة به.
ولكشف أثر ثورة الخميني في التعبئة التربوية داخل مدارس حزب الله، أفرد الباحث محمد بركات دراسته للحديث عن وثيقة التحول البنيوي للتربية والتعليم؛ التي أقرّها المجلس الأعلى للثورة الثقافية في إيران سنة 2011، فيشير إلى تحول مرجعية التوجيه التعليمي الشيعي من المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، إلى المجلس الأعلى للثورة الثقافية في إيران كمرجعية فكرية وتأطيرية بعد 1979. يتطرق بركات إلى انتشار مدارس المهدي في الجغرافيا اللبنانية، وكيف جرى إعداد المعلمين والطلاب في هذه المدارس وفقًا لمضامين الوثيقة الإيرانية، مما انعكس في المناهج التربوية بغرس ولاءات عقائدية واضحة. يناقش الباحث تبعات هذا النهج على الهُويّة الوطنية اللبنانية والعيش المشترك ومفهوم المواطنة، مؤكّدًا أن التعليم الديني في مدارس المهدي أضحى أداة لإنتاج أجيال مرتبطة أيديولوجيًّا بمشروع ولاية الفقيه على حساب اندماجها في الدولة الوطنية.
وفي رصد نماذج التربية الدينية في مدارس المهدي والمصطفى، عبر قراءة مساقاتها وتحليل تأثيرها في وعي الطلبة، يغطي الكتاب هذا التعليم منذ المرحلة الابتدائية حتى المرحلة الثانوية. ففي الدراسة الأولى من هذا المحور، حلّلت الباحثة إيمان سلامة منهاج التربية الدينية في المرحلة الابتدائية، وقَدّمت قراءة نقدية لمساقات التعليم وتأثيرها في عناصر الهوية الوطنية، والولاء السياسي، وبناء الشخصية لدى الأطفال من الناحية النفسية والاجتماعية.
أما الباحثة ميساء نمر فتَطرّقت إلى هذه المناهج في تشكيل وعي طلبة في المرحلة المتوسطة؛ متفحّصة بُنيتها المؤسسية، وممارساتها الصفِّيَّة، وطرائق تفاعلها مع طلاب في مرحلة المراهقة المبكرة، وتلفت الانتباه إلى أن هذه المرحلة العمرية الحرجة يُعاد تشكيلها عبر مقرّرات تَزرع الولاء السياسي المؤدلج، بدل أن توسّع أفق المواطنة والعيش المشترك. وفي المرحلة الثانوية وصفت الباحثة هنادي حسّون محتوى هذه المناهج، وحلَّلت مضمونها بشكل نقدي بناءً على الأبعاد التربوية الحديثة، ومعيار تنمية الفكر النقدي وحضور «الآخر» فيها، ولاحظت أنها قَدّمت عقيدة متماسكة أحادية الاتجاه، تعزِّز هوية جماعية متينة ومتصلة بسلسلة الولاءات المذهبية والسياسية.
وفي دراسة تفصيلية قَدّمت الباحثة مي طربيه دراسة اجتماعية وتربوية حول مدارس المصطفى، كاشفةً عن طبقات خفية تتجاوز المنهج إلى البنية الاجتماعية التي تحتضن العملية التربوية. وتُظهر كيف أن التعليم هنا لا يُقاس فقط بمحتواه الفكري، بل بقدرته على إعادة إنتاج الهيمنة الاجتماعية، فمنهج الحزب الولائي يمتد من الكتاب المدرسي إلى تكوين شبكة نخبوية مغلقة، تحكمها قيم الولاء والانضباط أكثر مما تحكمها قيم العدالة والتكافؤ.
خاتمة مواد الكتاب، هدفت لقياس مصادر وبدايات التأثير الإيراني في التعليم الديني؛ بتتبع تأثير شاه إيران، على لبنان، بمبادراته لهيكلة المرجعيات وإعادة صياغتها، وتتبع وصول موسى الصدر إلى لبنان ومبادراته التعليمية، إلى حين اختفائه، برز ذلك عبر قراءة في كتاب «شاه إيران وأكراد العراق وشيعة لبنان» للباحث الإيراني آراش رايزنجاد (Arash Reisinezhad) درس فيه السياسة الإيرانيَّة في عهد الشّاه محمد رضا بلهويّ (1941-1979)، متناولًا السّياسة الخارجية الإيرانية غير الرّسميَّة بالعِراق ولبنان؛ باستغلال أهم الطوائف: الأكراد والشّيعة.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب والعاملين على خروجه للنور، ويخصّ بالذكر الزميلة ريتا فرج والزميل علي خليفة منسقي العدد، ونأمل أنْ يسدّ ثغرة في المكتبة العربية.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
يوليو (تموز) 2025













