تقديم
يتناول كتاب المسبار «تركيا: الإرهاب والأقليات النوعية» (الكتاب السادس بعد المئة، أكتوبر/ تشرين الأول، 2015) مستجدات الأوضاع في تركيا بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ومدى انعكاسها على الإسلام السياسي التركي، إلى جانب ملفات تاريخية أخرى ترتبط بكيفية تعاطي حزب العدالة والتنمية مع خريطة الأقليات الدينية، والمواقف المتأرجحة من المسألة الكردية والقضية الأرمنية، وتحولات الدور السياسي للجيش التركي، وصولاً إلى البكتاشية، والعلاقة بين الوهابية وأنقرة.
أكدت المعطيات ومجريات الأحداث خلال السنوات الأخيرة، أن انسجام «الإسلام المعتدل» في تركيا مع قيم الحداثة والديمقراطيّة والعلمانيّة، كان قناعاً، يخفي خلفه الوجه الحقيقي لحزب العدالة والتنمية، الداعم لحركات الإسلام المتطرّف والتكفيريين في سوريا، والعراق، وفلسطين، ومصر… إلخ، فضلاً عن احتضان القيادة السياسية للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين. ولقد أسهمت الأزمة الانتخابية في كشف الإرباكات التي يعاني منها الحزب نتيجة التحولات في الحياة السياسية التركية، مما دفع إلى طرح سيناريوات عدة، من ضمنها إمكان استعادة الجيش التركي، للمبادرة، خوفاً على هوية الدولة، على الرغم من الضغوط التي تعرض لها في العقدين الأخيرين. ويذكر أن الجيش التركي ثاني أكبر جيش في الناتو بعد نظيره الأميركي، إذ يبلغ عدد قواته نحو (670) ألفاً، وتقدر ميزانيته بنحو (18) مليار دولار، ويحتل بذلك المرتبة (15) عالمياً على مستوى الإنفاق العسكري.
اتسمت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة بالغموض، وهذا الأمر لم تعرفه تركيا منذ عام 2002. وحيث لم يتمكن أي حزب من تشكيل حكومةٍ وحده، لذلك فإنّ الكثير من النقاشات والضغط والمراوغة تحصل في أنقرة حول إعادة الانتخابات التي بقيت الخيار الوحيد، بعدما فشلت كل محاولات تشكيل الحكومة. ليست القضية ما ستؤول إليه الانتخابات المبكرة فحسب، وإنما القطبة المخفية ترتبط بتراجع حضور حزب العدالة والتنمية في تركيا، ولهذا التراجع عوامل عدة، يرصدها الكتاب في عديد من الدراسات التي تستند إلى تحليل وافٍ، يمكّن القارئ من استجلاء الصورة من زوايا مختلفة. من المؤكد أن الانتخابات الأخيرة وضعت حداً للهيمنة الإردوغانية وفتحت المجال أمام توازن سياسي جديد.
ولعل أهم آثار الأزمة السياسية التي ستؤثر في المنطقة، تتمثل في موقف تركيا من «داعش». لقد كانت سياسة «تركيا الإخوانية» من حيث تعاملها مع التنظيم على امتداد حدودها مع سوريا والعراق، تجعل المزاج العام للشارع التركي يتقبل «الجهاديين»، الأتراك العائدين من القتال في سوريا. ولكن الأمر تغيّر كثيراً بعد أزمة الانتخابات، وصارت تركيا في مقدمة أعداء «داعش». ومن الآثار الأخرى للأزمة السياسية التي يواجهها إردوغان: انهيار التفاهم بين الحكومة والأكراد. لقد استخدم إردوغان حلّ القضيّة الكرديّة سلميّاً، لإبقاء الأكراد تحت السيطرة، عبر المماطلة والوعود المتتالية للزعيم الكردي عبدالله أوجلان. بينما منح الأخير المزيد من الفرص والوقت لحزب العدالة والتنمية، حتّى استطاع فرض كامل سيطرته على السلطة في تركيا. يعتبر إردوغان أن المواجهة مع الأكراد ستجلب له مكاسب انتخابية عبر رفع منسوب القلق لدى الناخب التركي، الذي وُضع أمام خيار الاستقرار السياسي بإعادة تصدر حزب العدالة والتنمية للمشهد السياسي.
أدت سياسات حزب العدالة والتنمية إقليمياً ودولياً، لا سيما إثر التدخل المفرط في ملفات إقليمية ملتهبة، إلى انفراط نهج «تصفير المشاكل مع دول الجوار» الذي نظَّر له رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو في كتابه ذائع الصيت «العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية».
وفي ضوء التحولات الإقليمية والإرباك السياسي الذي تمر به تركيا في زمن حزب العدالة والتنمية، الذي يحاول استعادة شعبيته المتآكلة، يحضر السؤال التالي: أين الجيش التركي حامي العلمانية؟ يرى بعض الخبراء في الشؤون التركية أن إردوغان نجح في تغيير العقيدة العسكرية للجيش، وقد قطع شوطاً طويلاً أمام درب التعديلات الدستورية والإصلاحات القانونية الكفيلة بتقليص تدخل الجيش، والذي اتخذ حيزه التطبيقي عبر كبح جماح الميول التدخلية لضباطه، من خلال محاكمتهم بجريرة الضلوع في مؤامرات انقلابية ضد الحكومة المنتخبة، والزج بعشرات كبار الضباط في السجون. لكن آراء أخرى ترجح أن يسهم تجدد الصراعات مع «داعش» ومع الأكراد في استعادة الجيش لدوره السياسي، وخصوصاً أن النخبة السياسية المدنية التركية، بشتى مشاربها وأطيافها الفكرية، لم تستطع ملء الفراغ الناجم عن غياب العسكر عن المسرح السياسي.
إن تركيا بصدد الانتقال إلى مرحلة سياسية مختلفة، يتبعها شبكة جديدة من المصالح الإقليمية والمحلية. وسيؤثر هذا على الواقع الاجتماعي والسياسي، كما سينعكس في علاقات أنقرة مع المنظمات والحركات الدينية والإسلامية في الدول العربية.
تُعطي القضايا، التي تطرق إليها الكتاب، المراقب الخلفية الضرورية لفهم التحوّلات القادمة في تركيا، وهي تعالج ملفات على أهمية كبيرة، شديدة التداخل على المستويين الداخلي والإقليمي، خصوصاً ما يتعلق بملف الأكراد وحزب العمال الكردستاني والعلويين والأرمن، وضبابية موقف أنقرة إزاء ما يتعرض له المكوّن المسيحي في سوريا من عمليات تهجير وإبادة، وأخيراً وليس آخراً، انخراط تركيا في الحرب التي تقودها الولايات المتحدة على «داعش» بعدما أصبحت حدودها معبراً رئيساً لرفد الفصائل الجهادية التكفيرية في سوريا بالمقاتلين المنضوين في تنظيم «داعش» أو «جبهة النصرة» وغير ذلك من الجماعات الأصولية المتطرفة.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميل عمر البشير الترابي الذي نسق العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهده وفريق العمل.
رئيس التحرير
أكتوبر (تشرين الأول) 2015
شاهد فهرس الكتاب