تقديم
يواصل مركز المسبار للدراسات والبحوث في هذا المشروع، دراسة التصوف في الأناضول وامتداداته وحضوره الديني والثقافي والسياسي تاريخاً وراهناً. بعد أن قدّمنا في كتابنا التصوف الشعبي في نسخته البكتاشية، فإنّ تناول المولوية يمثل الركن الثاني في الحياة الروحية في الأناضول، التي وصفت إبان القرن السابع الهجري بأنها تمحورت حول مولانا جلال الدين الرومي. ومنذ ذلك الحين، ظلت طريقته الصوفيّة مثار نقاش دائم، بما تقدمه من حضورٍ فلسفي وفني، حتى استطاعت التفوّق برمزيتها على ما سواها، فبرزت في سائر النقاشات حول الإسلام بوصفها عنصراً مهماً، فكان لا بد من الإحاطة بها، ووضع الأسس لمن يريد فهم مجالها السياسي والديني.
إن هذا المشروع ضروري لفهم جذور الإسلام التركي وتجلياته السياسية، ويعتمد على الحفر في الجذور الاجتماعية للدين والتدين في طبقات الشيوخ والمريدين والمجتمع، ولكن المولوية تغري بما هو أبعد من ذلك، وتفتح الباب لاختبار مفهوم الخيار البديل الذي يروج الحديث عنه، وتلمّس حدود عطائه، ولعل نسخة إجابة المولوية عن سؤال الآخر الديني والجندري، والحق والضلال، وحتى الدين والسياسة وصولاً إلى الإرهاب، تجد رواجاً كبيراً فاته توثيق نصه، كل ذلك ألزمنا العمل على نسخة الجواب وتحريرها من الغموض، خصوصاً وقد اتسع عطاء الإجابة المولوية ليصل إلى ما هو أبعد من إلهام المسلمين، لذلك كان فهم المعاني الإنسانية والفن والأدب لدى مولانا جلال الدين الرومي وتلاميذه ومريديه مهماً، الأمر الذي جعلنا نذهب إلى الهند وإيران وآسيا الوسطى والموصل، بلسان فارسي وتركي وأوردي وعربي.
يهدف كتاب «المولوية والتصوف: التاريخ- النصوص- الآفاق» (الكتاب العشرون بعد المئة، ديسمبر/ كانون الأول 2016) إلى استعراض جوانب هذه الحركة الصوفية وحياة مؤسسها، بدءاً من تحليل السياق التاريخي الذي ظهرت فيه، وتبيان كيف أثّرت فيه، وتأثّرت به. وهذا تطلب إلقاء الضوء على الحياة السياسية والاجتماعية والدينية خلال القرن السابع الهجري.
قدم الكتاب تمهيداً عن المولوية في إطارها التاريخي، والمناخ الذي ظهرت فيه، مرورًا بالعصر السلجوقي وأزمة المغول، وظروف نشوء حواضر عرفانية حاضنة لثقافة إسلامية، تحفز هجرات رجال العلم وصنّاع العرفان. بدأ الكتاب بتطور الطريقة في عهد مولانا جلال الدين وخليفتيه، مع ملاحظة إسهامها المختلف وتشكل طبقات داخل الطريقة ذاتها، مركزاً على المصادر الأساسية لتأريخ الطريقة والدراسات الفارسية والفرنسية والتركية المعنية بها.
كان الوقوف أمام علاقة الرومي بالحديث النبوي الشريف مهماً لفهم منهجيته الموازنة بين الطريقة والحقيقة، ومركزية النبي في رحلته الروحية، هذه الرحلة التي تطوّرت عبر ملاذات تاريخية لدراويش المولوية. استعرض الكتاب الأسس الفكرية والفلسفية والروحية والعرفانية لمولانا جلال الدين الرومي من زوايا عدة وبأكثر من طريقة؛ فتطرق إلى فلسفة المولوية في نظرتها إلى الحقيقة، باعتبارها واحدة في الجوهر ومتنوعة في التجليات، والرؤية نحو الأديان، وتصوّر الرومي للعلاقات بين الأديان بعيداً من التّناحر وادعاء الأفضليّة.
لا يمكن فهم أي حركة صوفية، بما فيها المولوية، من دون قراءة في مكانة المرأة لديها؛ حيث كان للمرأة في المجال الصوفي مكانٌ مميزٌ، سواء من حيث وجودها بجانب الرجل في التجربة الروحية، أم من حيث التفسير الصوفي الخاص للعشق والحب، والعلاقة بين الرجل والمرأة. وبالإضافة لموقفه الجمالي من المرأة وفلسفته نحوها، عالج الكتاب النقاشات حول شرعيّة بعض الطقوس التي اقترنت بالمولوية، كالدوران والسماع الصوفيين.
ناقش الكتاب شخصيّة شمس تبريزي، الذي ترك أثراً جلياً في مولانا الرومي، بوجوده وغيابه، فكان حاضراً في كل المحاور. وقد حاولت إحدى الدراسات إماطة اللثام عن مذهبه العقدي والفقهي، وفقاً للمقاربات الحديثة، كما توقفت عند الموقف السلفي من مولانا.
اهتم الكتاب بالكشف عن الأدبيات المتخصصة بالمولوية، فأفرد لها دراسات تبحث عن نتاجها في العراق والهند وإيران، مستصحباً تأثير الرومي في الثقافات والشعوب والشعراء والأدباء والموسيقيين، حتى خارج نطاق دائرته الدينية، كما جرى مع روبندرونات طاغور وغيره في الهند قبل الاستقلال. عُرفت المولوية عند النصيين من الصوفية بأنها خزان الرموز، وعند أهل التصوف الشعبي بأنّها ميالة للظاهر، لذلك كان من المهم البحث عن الرموز المشتركة بين البكتاشية والمولوية.
لا يحاول هذا المشروع تقديم خلاصات نهائية حول المولوية بقدر ما يفسح المجال أمام الإضاءة على الإسهام المولوي ومؤثراته الراهنة، ونسعى لإنجاز كتب أخرى تهتم بالتراث الصوفي الثقافي والسياسي والديني المتراكم، والمستغل –حالياً- من الأحزاب والحركات السياسية الإسلامية التركية وغيرها، وهذا يحتاج لأجزاء مكملة عن الإسلام الشعبي، والنقشبندية في تركيا الدولة وتركيا الطموح والإمبراطورية العثمانية وربما الأردوغانية.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلين عمر البشير الترابي، وخالد عبده، اللذين نسقا العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهودهما وفريق العمل.
رئيس التحرير
ديسمبر (كانون الأول) 2016