تقديم
يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «التنشئة على التطرف: حزب الله أنموذجًا، الإطار النظري» (الكتاب الثاني والعشرون بعد المئتين يونيو (حزيران) 2025)، دعاية حزب الله الأيديولوجية التي يتوجَّه بها للأطفال والمراهقين في لبنان، باستخدام الوعي العام الرسمي سواء في الأدوات التعليمية؛ أو المنصات الإعلامية، والمناشط الكشفية وغيرها، فيقرأ ظاهرة توظيف المنابر التربوية، من مجلات مُوجّهة للأطفال والمراهقين؛ ومناشط، مناقشًا التأثيرات التربوية لنشر الأيديولوجيا بين هذه الفئات، ومُستعرِضًا سياقاتها التاريخية ومخرجاتها الفكرية، ومسائل الهُويّة والانتماء التي تثيرها.
فاتحة دراسات الكتاب قدّمها الباحث والأستاذ في كلية التربية في الجامعة اللبنانية إبراهيم الكبّي، تطرّق فيها إلى مفهومَي المواطنة والوطنية في الأدبيات الملائمة للمجتمع اللبناني التعددي، مُبرزًا غياب هذين المفهومين في خطابات مسؤولي حزب الله في لبنان، مشدّدًا على خطر الإسلاموية؛ وزرعها معاداة الدولة في لاوعي منسوبيها؛ وتعزيزها للولاء العابر للوطن، مثلما يتمثل في أداء حزب الله اللبناني، الذي يقدّم المصلحة الإيرانية على الضرورة الوطنية اللبنانية. ويزرع ذلك عبر أدوات متباينة.
كشفت الأستاذة الجامعيّة المتخصصة في العلوم التّربويّة جورية فوّاز، ماهيّة الخطاب التربوي العقائدي الذي تقدمه مجلة «مهدي» للأطفال والناشئة؛ وهي إحدى الوسائل الإعلامية التابعة لحزب الله في لبنان. تحلّل الدراسة مفاهيم مثل: الشهادة، والفداء، والولاء، والانضباط، التي تسعى المجلة إلى تأصيلها- بصيغة مكثفة- في وعي الأطفال والمراهقين، عبر تحويلها إلى مفاهيم عدائية، تُفتّت المشترك مع المجتمع، وتُغذّي الانتماء للأفكار المنهجية الثوريّة. تُقدّم الباحثة تحليلًا لفكرة تمجيد صناعة الموت؛ وتصميم صندوق اختيارات أيديولوجية، وتُقيّم انسجام تلك المفاهيم أو تعارضها مع حاجات الطفولة ونظريات التربية الحديثة، وذلك في سياق سياسي وثقافي معقّد، يتوازى فيه الخطاب التّعبوي، مع إنتاج الإعلام التربوي بأدواته الخاصّة. تفحص فوّاز محتوى القصص المنشورة في المجلة عبر فئات عمرية مختلفة، وتقارن مضامينها بمفاهيم التربية الحديثة (كالتفكير النقدي واحترام الفردية)، متسائلة في الخلاصة: أي طفلٍ تسعى المجلة إلى بنائه؟ وإلى أي مدى ينسجم هذا البناء مع المعايير التربوية المعاصرة؟
وعلى المنوال نفسه، تَدرُس الباحثة والأستاذة الجامعية التونسية آمال قرامي منظومة التنشئة الاجتماعية للفتيات والشابات المنتميات إلى حزب الله، عبر تحليل مضمون مجلّات ومواقع إلكترونية تصدر عن جمعية مرشدات المهدي في لبنان، مثل مجلّتَي «الرائدة» و«تسنيم» وموقع الزكية. تستكشف قرامي كيف ترسم هذه المنابر ملامح «المرأة المتحزّبة» التي يطمح الحزب إلى تنشئتها وترسيخ صورها الذهنية. وتعزّز دراستها بالاطلاع على مواد ذات صلة بالتربية وبناء الهُويّة منشورة في مواقع أخرى تابعة للحزب (مثل منتدى مهدي الكشفي ومجلة بقيّة الله)، لتبيّن كيف تُبنى الأدوار الاجتماعية والدينية للمرأة وفق تصور أيديولوجي مستمد من نموذج الأئمة الشيعة للمرأة والدور المطلوب منها في المجتمع. وفي السياق نفسه، تُقدّم الباحثة حنان جواد قراءة نقدية عامة لأعداد (2008-2016) من مجلة «الرائدة»، المُوجَّهة للفتيات الصّغيرات واليافعات، والصادرة عن «جمعية مرشدات المهدي»، وتحاول الإجابة عن تساؤلات عدّة ترتبط بالهُويّة النّسائية التي يُشكلها الحزب عبرها: فما ماهيّة الخطاب الذي تُقدّمه المجلة؟ وما الرّموز التي تستخدمها؟ وما الصورة التي تُشكّلها عن الفتاة المثالية؟ وهل تُعدّ هذه الصورة أداة للتمكين أم وسيلة لضبط الجسد ضمن أطر عقائدية وجندرية محددة؟
ومن الإعلام المطبوع والإلكتروني إلى النشاط الكشفي، ترصد الباحثة تيمة حطيط دور جمعيّة «كشافة الإمام المهدي» في لبنان، بوصفها فضاءً تربويًّا يتحول إلى أداة أيديولوجية لتشكيل الهُويّة الدّينيّة والسّياسيّة لدى الأطفال والمراهقين. تستعرض الدّراسة نشأة الحركة الكشفية وتنظيمها وتطوّرها التّاريخي، ثم تُظهر كيف انقلبت من حياد تربوي إلى وسيلة تعبئة عقائدية في الحالة اللّبنانية، يرعاها حسن نصر الله بذاته؛ بل يتبرع بدار لكشفياتها، لخلق حالة عاطفية تعضد ارتباط المجموعات الكشفية به. تَتَتَبّع حطيط نشاط «كشافة الإمام المهدي» منذ تأسيسها سنة 1985، فَتَدْرُس هيكلها وانتشارها ومناهجها (بما فيها الأنشطة ذات الطابع العسكري والرّمزي)، وتستند إلى شهادة داخليّة من أحد أعضائها. كما تشير إلى امتداد شبكة الكشّافة هذه لاستقطاب الشباب في سوريا أثناء سنوات الحرب، وتشرح توظيفها مفاهيم نفسيّة كنظرية الهُويّة الاجتماعية في ترسيخ الولاء الجماعي للحزب وللخميني. وتُبيّن الدراسة كيف تُسهم التربية العسكرية المبكّرة والتنشئة المنظمة داخل بيئة تعليمية خاصة في إعادة إنتاج الهيمنة الأيديولوجية، لا سيما مع استخدام الإعلام والتكنولوجيا في تشكيل وعي الأطفال والمراهقين.
وتعرض الباحثة والقانونية فاتن فرج الإطار التشريعي للتعليم الديني وحقوق الطوائف في لبنان في ضوء مبدأ حرية الاعتقاد. تستعرض الدراسة تطوّر التعليم الديني في لبنان عبر مراحله التاريخية، بدءًا من العهد العثماني فالانتداب الفرنسي ثم عهد الاستقلال، مع تحليل القوانين والتنظيمات التي حكمت التعليم الديني في كل مرحلة. تُفَصِّل فرج كيفية تعدد مناهج التعليم الدّيني بعد إنشاء هيكلية تربوية جديدة للدولة اللبنانية، ثم تنتقل لقراءة نصوص الدستور اللبناني والمعاهدات الدولية ذات الصلة، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) وإعلان 1981 للقضاء على جميع أشكال التّعصّب والتمييز القائمين على أساس الدِّين، وكذلك اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989.
وفي استقراء تاريخي معمّق، يقدّم أستاذ التربية على المواطنية في الجامعة اللبنانية علي خليفة عرضًا لتاريخ التعليم الديني عند الطائفة الشيعية في لبنان منذ أوائل القرن العشرين حتى نشوء حزب الله عام 1982. يعرض بدايات التعليم لدى الطائفة في ظل أفول الدولة العثمانية وبروز الانتداب الفرنسي، مشيرًا إلى ظهور المدارس التقليدية وانحسار دور الحوزات العلمية القديمة آنذاك. ثم يدرس توسع رقعة التعليم الرسمي الحكومي في المناطق التي تقطنها الطائفة، مقابل مبادرات التعليم الأهلي التي قام بها أبناؤها. يُسلّط خليفة الضوء على تأسيس جمعيات تربوية مثل «الجمعية الخيرية الإسلامية العاملية» (1923)، وينتقل للبحث في مرحلة ما بعد الاستقلال (1943)، حيث شهدت الطائفة محاولات اندماج في الدولة عبر التّعليم المُوحّد؛ فقد اعتمدت مناهج رسمية ذات طابع ديني عام هدفها دمج الشيعة في الهُويّة الوطنية اللبنانية. كما يوضِّح الباحث كيف أدى اندلاع الحرب في لبنان سنة 1975 ونشوء حزب الله سنة 1982، إلى تغيير مشهد التعليم وبروز مدارس ومناهج موازية تعكس الأيديولوجيا الثورية الجديدة.
يعيد المركز نشر دراسة الباحث اللبناني عبد الغني عماد (1952-2020)؛ الذي انبثق الكتاب عن فكرةٍ نشرها المركز باسمه، في يناير (كانون الثاني) 2018؛ في دراسة له بعنوان «منهاج التربية الإسلامية في مدارس حزب الله». وتناولت منهاج التربية الدينية الإسلامية في مدارس حزب الله في لبنان، وحلّلت ما ورد في مقرراتها حتى عام 2018، وكشفت عن تلازم مفهوم التربية مع مفهوم «التعبئة» الذي يشدِّد على عنصري الهُويّة الدِّينية- المذهبية، والتعبئة السياسية- العسكرية. كما ناقشت كيف يُوظِّف الحزب لهذه الغاية مختلف الأدوات المعرفية وأساليب التّدريس والتقنيات الحديثة، فيحشد طاقات حيوية لاستثمار العلم والتكنولوجيا، بما يحقِّق تشكيلًا مُتكاملًا بين النشاط الصّفي واللّاصفي لصناعة الأيديولوجية والتغيير في عقول التلاميذ.
آخر دراسات الكتاب، تناولها الخبير في شؤون الحزب؛ الباحث والأكاديمي؛ السيد محمد علي الحسيني، الذي اختار كشف نشاط حزب الله في زراعة وتجارة المخدرات، سواء بغرض تبييض الأموال، أو التّكسّب، واختار تجارة «الكبتاغون»؛ مستعرضًا الفتاوى، التي وظِّفَت والأهداف الأيديولوجية، مع نقاشه لما اكتنفته المسألة من تعقيدات، ونفي وإثبات، طرح شهادات خاصة، حول الخيوط البعيدة والقريبة لهذا الاتجار، الذي يؤثر على العقول والقلوب ولكن بمنهج مختلف.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب والعاملين على خروجه للنور، ويخصّ بالذكر الزميلة ريتا فرج والزميل علي خليفة منسقي العدد، ونأمل أنْ يَسُدّ ثغرة في المكتبة العربية.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
يونيو (حزيران) 2025













